
ترك برس
تناول تقرير للكاتب والخبير التركي قدير أوستون، التحول الاستراتيجي في تعامل الولايات المتحدة وإسرائيل مع البرنامج النووي الإيراني بعد الحرب التي استمرت 12 يوماً، والتي كشفت عن نموذج جديد من الردع يقوم على إمكانية التصعيد المباشر بدلًا من الاكتفاء بالعمليات السرية والضغوط الدبلوماسية.
واستعرض التقرير الذين نشرته صحيفة يني شفق كيف غيّرت هذه الحرب قواعد اللعبة الإقليمية، وأعادت تشكيل العلاقة بين طهران وواشنطن وتل أبيب، ما دفع إيران إلى إعادة النظر في استراتيجيتها النووية.
وطرح الكاتب تساؤلات حاسمة حول ما إذا كانت إيران ستتجه إلى تجاوز العتبة النووية، وما إذا كان هذا التحول سيشعل سباق تسلّح إقليمي ويزيد من منسوب عدم الاستقرار في الشرق الأوسط. وفيما يلي نص التقرير:
دخلت جهود الولايات المتحدة، المستمرة منذ سنوات للحد من برنامج إيران النووي ومنعها من أن تصبح قوة نووية، مرحلة جديدة. فقد تُشكل الشراكة الأمريكية-الإسرائيلية التي برزت خلال الحرب التي استمرت 12 يوماً وانتهت باتفاق وقف إطلاق النار، نموذجاً جديداً لمنع إيران من التحول إلى قوة نووية.
كانت الجهود السابقة ترتكز على إجبار إيران على القبول بالاتفاق من خلال العمليات السرية المشتركة بين الولايات المتحدة وإسرائيل، مثل هجوم "ستاكسنت"، مدعومة بضغوط دبلوماسية. أما في الحرب الأخيرة، فقد كشفت تطوراتها عن إمكانية اعتماد صيغة جديدة، تتمثل في أن تؤدي الهجمات الإسرائيلية ضد إيران إلى جرّ الولايات المتحدة لمواجهة عسكرية مباشرة.
وفي حين كان بعض الفاعلين في المؤسسة الأمنية الأمريكية يعارضون فكرة شن إسرائيل هجوماً مباشراً على إيران، إلا أنهم كانوا يدعمون العمليات السرية لإجبار طهران على التفاوض. لكن هذه المرة، لم تتمكن واشنطن من منع نتنياهو من جرّ ترامب إلى أتون الحرب، واضطرت إلى الاكتفاء بمنع الحرب من التحول إلى نزاع إقليمي شامل.
قواعد اللعبة تغيّرت
لطالما مارس رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ضغوطاً، منذ أكثر من ثلاثين عاماً، لدفع الولايات المتحدة إلى استخدام القوة لمنع إيران من التحول إلى قوة نووية.
وعلى الرغم من اعتباره إيران تهديداً وجودياً، كان يُنظر في الأوساط الأمنية الأمريكية إلى ضغوطه بحذر دائم، مخافة أن تؤدي إلى زجّ واشنطن في حرب. لم يتردد نتنياهو في استغلال نفوذه القوي، لا سيما في الكونغرس، لتحقيق نجاحات ملموسة في إعادة تشكيل السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط على أساس أمن إسرائيل.
ومن أبرز هذه النجاحات القانون الأمريكي الصادر عام 2008، الذي ينص على الحفاظ على "التفوق العسكري النوعي" لإسرائيل، والذي يُلزم الولايات المتحدة بالحفاظ على التفوق العسكري الإسرائيلي على بقية دول المنطقة. لم تكتفِ واشنطن ببيع أحدث الأسلحة لإسرائيل وتقديم مساعدات مالية منتظمة، بل استمرت أيضاً في أداء دور "محامي إسرائيل" في المنصات الدولية كالأمم المتحدة.
في المقابل، استفادت واشنطن من هذه الوصاية كـ"فرصة ذهبية" نادرة لتوجيه السياسات الإقليمية في الشرق الأوسط، دون أن تضطر إلى خوض حرب من أجل أمن إسرائيل. وأصبحت ممارسة الضغوط على إيران من خلال العمليات الإسرائيلية والدبلوماسية الأمريكية مع روسيا والصين بمثابة "نموذج عمل" أمريكي.
لكن الحرب الأخيرة التي استمرت 12 يوماً غيّرت قواعد اللعبة بشكل حاسم. فبعد هجمات 7 أكتوبر، لم تكتفِ إسرائيل بضرب وكلاء إيران الإقليميين دون قيود، بل هاجمت إيران مباشرة. ورغم أن قدرات إيران على الرد كانت معروفة، إلا أن طهران، التي كانت تتوقع انخراط الولايات المتحدة في الحرب، فضّلت تبنّي موقف حذر لتجنب التصعيد الشامل.
من خلال إبلاغ الولايات المتحدة مسبقاً بنيتها مهاجمة إسرائيل، أظهرت إيران أنها لا تستطيع الدفاع عن نفسها ولا حماية حلفائها كحزب الله وحماس. وقد شجّع هذا التوازن الجديد إسرائيل، وفتح الباب أمام نتنياهو لتغيير قواعد اللعبة السابقة.
وسعياً لإنقاذ مستقبله السياسي، قرر نتنياهو اختبار حدود ترامب، وبالرغم من امتعاض ترامب، إلا أنه وافق على التورط المحدود في الحرب، وهو ما يمكن اعتباره عملية سياسية ناجحة على الأقل في هذه المرحلة.
لكن ما يمكن تأكيده الآن هو أن فرضية قدرة إسرائيل على إقناع واشنطن بدخول الحرب أصبحت جزءاً من "اللعبة الجديدة". وهذا يعني أن على القوى الإقليمية كإيران، وكذلك القوى العالمية كروسيا والصين، أن تأخذ في الحسبان احتمال دخول أمريكا حرباً دفاعاً عن المصالح الإسرائيلية.
هل تتجاوز إيران العتبة النووية؟
رغم إصرارها لسنوات على أن برنامجها النووي سلمي، لم تتمكن إيران من إقناع المجتمع الدولي بذلك. ووضعت طهران البقاء على حافة التسلح النووي في صلب استراتيجيتها الدبلوماسية، حيث استمرت في التفاوض للحصول على امتيازات كرفع العقوبات مقابل عدم تجاوز هذه العتبة. وعلى الرغم من التزامها بالاتفاق النووي الذي أبرمته مع أوباما، إلا أنها لم تستطع منع ترامب من الانسحاب منه.
وأدى رفضها تقديم تنازلات بشأن تخصيب اليورانيوم إلى تعزيز الدعاية الإسرائيلية ضدها. وكان التقييم المشترك للاستخبارات الأمريكية هو أن إيران، رغم امتلاكها للقدرة النووية، لم تتخذ بعد قرار التحول إلى دولة نووية، ما منح المفاوضات فرصة للاستمرار وشكّل كابحاً أمام الدعوات الإسرائيلية للعمل العسكري.
لكن انسحاب ترامب من الاتفاق واغتيال قاسم سليماني أظهرا أن إيران عاجزة عن الرد بالمثل على محور واشنطن-تل أبيب. وعلى الرغم من الضغوط الدولية والعمليات الأمريكية-الإسرائيلية "غير الأخلاقية"، لم تتخذ إيران قراراً بامتلاك قنبلة نووية، وفضلت البقاء عند العتبة النووية باعتبار ذلك أكثر فائدة.
إلا أن حرب الـ12 يوماً بيّنت أن هذه المعادلة لم تعد قابلة للاستمرار. حتى وإن واصلت إيران التزامها بالاتفاقات وواصلت التفاوض، لم يعد بإمكانها افتراض أن الشراكة الأمريكية-الإسرائيلية لن تتحول إلى حرب فعلية. وبالرغم من أن ترامب خاض عملية عسكرية "مضبوطة"، فإن وقف الحرب جاء نتيجة قبول إيران بعدم الرد.
وقد يدفع إدراك إيران بأن الدول التي تمتلك السلاح النووي تكون بمأمن من العمليات العسكرية الأمريكية إلى الاعتقاد بأن الحل الوحيد هو تجاوز العتبة النووية. وقد يُفضي الاعتقاد بأن امتلاك إيران للسلاح النووي كان سيحول دون وقوع الهجمات الأمريكية والإسرائيلية، إلى إشعال سباق تسلح نووي في المنطقة.
ومع ذلك، إذا استُحضرت العمليات التي نفذتها أوكرانيا داخل الأراضي الروسية، يتضح أن الولايات المتحدة قد تسمح بعمليات عسكرية محدودة حتى ضد دول نووية. وبالتالي، لا يمكن القول إن الدول النووية في مأمن تام من الهجمات التقليدية. ومع ذلك، قد ترى إيران في امتلاك السلاح النووي الضمانة الوحيدة لحماية نظامها، وقد لا تكون مخطئة في ذلك.
وإذا ما تجاوزت إيران العتبة النووية، فإنها لن تواجه فقط غضب الولايات المتحدة وإسرائيل، بل ستجد نفسها في مواجهة احتمال أن تقدم دول أخرى في المنطقة على اتخاذ الخطوة ذاتها. وفي حين تشير التقديرات إلى أن الهجمات الأخيرة عطلت برنامج إيران النووي لكنها لم تُنهِه، فإن تجاوز طهران للعَتبة النووية فوراً يبدو مستبعداً. لكن من المهم الإشارة إلى أن المسألة لا تتعلق فقط بالقدرات، بل أيضاً بالقرار السياسي. وإذا قررت إيران أن تصبح قوة نووية، وتمكنت من الحفاظ على ما لديها من يورانيوم مخصب، فقد تنجح عاجلاً أم آجلاً في بلوغ هذا الهدف. وقد ترى إيران أن كلفة هذا السيناريو باهظة، لكنها قد تعتبر أيضاً أن التحول إلى قوة نووية هو بمثابة "تأمين لبقاء النظام".
نحن اليوم أمام مرحلة جديدة تتغير فيها قواعد اللعبة القديمة، بينما لا تزال قواعد اللعبة الجديدة غامضة. وهذا ما يُنذر بمزيد من عدم الاستقرار في المنطقة. فاحتمال دخول الولايات المتحدة وإسرائيل معاً في حرب ضد إيران، وقرار إيران المحتمل بتجاوز العتبة النووية، يشكّلان معاً معادلة جديدة تعزز مناخ الغموض وانعدام الثقة في الشرق الأوسط.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!