علي أبو هميلة - الجزيرة مباشر

تأخذك الدراما التاريخية إلى عوالم متنوعة عبر رحلة الزمن، فتتماس أحيانًا كثيرًا مع واقعك، وتبحر بك في عوالم أخرى تشد من عزمك مع لحظة تاريخية مضيئة. وفي ظل غياب هذا النوع من الدراما في عالمنا العربي، بعد أن تخلّت مصر عن دورها في هذا، واختفاء الدراما التاريخية العربية في ظروف غامضة إلا ما ندر، تظل الدراما التركية بوابة الزيارة لمحبي الدراما التاريخية. وعندما يلتقط الكاتب الدرامي لحظة تاريخية معيّنة، أو عندما تلجأ شركات الدراما ومبدعوها إلى هذا التاريخ، فلا بد أن يكون وراء ذلك فكرة ورؤية معينة يريدون أن يصلوا بها إلى المشاهد.

خطوط تماس هذه الفترة والأحداث مع الواقع هي ما يجعلك ترتبط بها، وفي ظل غموض عام يكتنف العالم العربي والإنساني، تبقى الدراما التاريخية منفذًا للهروب أحيانًا، والأمل أحيانًا أخرى. وقد اختُتم الموسم الدرامي التركي السابق أعماله التاريخية المميزة في نهاية يونيو، بتوديع المشاهد لأعمال مثل «فاتح القدس» (صلاح الدين).

تتواتر الأخبار عن انتهاء مسلسل «المؤسس عثمان» بعد ستة مواسم درامية، والشائع أن هناك عملًا يتناول حياة باني الدولة العثمانية أورهان بن عثمان، يستعد منتج «المؤسس» لاستكمال تاريخ الدولة العثمانية به. وفي أكتوبر، ينتظر عشاق الدراما التركية «سلطان الفتوحات محمد الفاتح»، ومعه جديد محمد بوزداغ، منتج ومخرج أهم الأعمال التاريخية التركية. وربما نشاهد جزءًا ثانيًا من «سلطان وفا» الذي عُرض في شهر رمضان الماضي.

في ظل هذا التوقف تبدأ رحلة البحث عن عمل درامي، ويا حبذا لو كان تاريخيًا. أنقّب بين الأعمال عن أحدها، وفي الأيام السابقة قادني البحث إلى “مافيرا”. اسم العمل غريب، خاصة أنه يتناول فترة من حياة الشاعر التركماني الصوفي الخوجة أو الشيخ أحمد اليسوي، الذي وُلد في 1093، وأحد شيوخ الصوفية الذين أثروا كثيرًا في رواد الحركة الصوفية التركية، خاصة مولانا جلال الدين الرومي ويونس إيمره. وتجذبني دراما الصوفية كثيرًا، فغصت في رحلة اليسوي إلى بغداد مبعوثًا من شيخه يوسف الحمداني لتولي مسؤولية تكية الشيخ الحمداني.

يدخل الحاج أحمد اليسوي بغداد في ظل صعود دولة السلاجقة، وفي عهد الخليفة العباسي أبو منصور الفضل المسترشد بالله. وفي رحلته إلى بغداد يصطحب رفاقه: (حمزة بهليقان) مصارع قديم لا يعرف إلا القتل والصراع أنقذه الشيخ يوسف الحمداني من الموت وصار أحد مريديه، ومحمود رفيق صبا الحاج أحمد وحارسه الخاص، مقاتل شجاع ومندفع يحمل سيفين دائمًا، والشاب منصور ابن أحد رفاق الثلاثي. ويبدؤون رحلة الدخول لبغداد بمعركة مع أحد ضباط الخليفة (دبيس)، المتمرد على خليفته، لإنقاذ مجموعة من القبائل التركستانية الهاربة من جحيم رجال قلعة «آل مُوت» التابعة لشيخ الجبل (حسن الصباح).

يدير بغداد الوزير عاطف، رجل الخليفة الموثوق به، ومعه مروان، رجل تكية الحمداني الفاسد، ومعه مجموعة من أصحاب المصالح في التكية، وهشام شهبندر التجار الذي يدير الأسواق لصالح عاطف الوزير وصاحبه. يساعدهما مروان مدّعي التصوف والإيمان، ويدير الشبكة كلها نجات، رجل قلعة آل موت. الجميع يسعى لإسقاط الخليفة المسترشد وتولية دبيس، لتكون بغداد والخلافة قاعدة لانتصار شيخ الجبل في القلعة. رجال القلعة يسيطرون على كل مكان في بغداد. يبدو قصر الخليفة معزولًا عن أهل بغداد في ظل هؤلاء الجواسيس الذين يسيطر عليهم عاطف، ويسيطر تمامًا على عقل الخليفة بمشروب السيطرة المصنوع في قلعة آل موت.

هكذا يصبح عاطف في مقام الخلافة مع وجود المسترشد، الذي لا يكاد يفيق من تأثير أعشاب حسن الصباح عن طريق الوزير. وبدخول الحاج أحمد اليسوي يبدأ صراع تطهير بغداد من الفساد وجواسيس آل موت المسيطرين على الخلافة. يساعد أحمد اليسوي فرسان دولة السلاجقة الناشئة في أرض الأناضول. نجات رجل الصباح وعاطف يشعران بالخطر مع دخول اليسوي بغداد، ويهددان أولًا مروان رجل التكية لديهم. وتبدو الكنيسة والصليبيون في الصورة بالاتفاق مع رجال آل موت للقضاء على الخلافة الإسلامية المتهاوية، التي لا تمتلك جيشًا ولا جنودًا، كما قال الخليفة بعدما أفاق من غفلته القاتلة.

أخطر ما يتعرض له العمل الدرامي هو وصول قصر الخلافة في بغداد إلى هيكل حكم، خليفة غائب عن الواقع، مفصول لا يدري عدد جواسيس أعدائه في قصره، يعطي ثقته لوزير يدين بالولاء للأعداء، سواء من الصليبيين أم الحشاشين الذين يريدون هدم الدولة. ليس في قاعة الحكم سواه وهذا الوزير. لا أدري إن كان هذا حقيقة تاريخية أم ضعف إمكانيات الإنتاج في العمل. أقرب الجنود في القصر هم رجال قلعة الموت. هذه الأجواء جعلت من مهمة الشيخ اليسوي صعبة، لدرجة إحباط رجال مهمته المقربين.

يبدأ الشيخ رحلة صراعه من خلال نشر المحبة بين الناس من الفقراء الذين تم إفقارهم لصالح الوزير، وهشام شهبندر التجار، والكنيسة بقيادة القسيس الموالي للصليبيين. ينتشر الربا بين التجار، والفساد الأخلاقي في المدينة التي كانت عروس الخلافة الإسلامية. مشاهد فتح القلوب بين أهالي المدينة من الفقراء والتجار تتوالى. يستفيق بعض مريدي الشيخ الحمداني، وتلميذه أحمد اليسوي تدريجيًا. تتغير المدينة بفعل الدعوة الحسنة، ويتصاعد إحساس قلعة آل موت بالخطر على بنائها وكل التابعين لها، وتحاول فرق الفدائيين بقيادة نجات الخلاص من الشيخ ومحبيه من رجال بغداد وفقرائها.

تتحول بغداد إلى مدينة اغتيالات، هجوم على أحيائها الفقيرة، والقبائل الفارّة من مذابح الصليبيين و(دبيس) المتمرد على الخليفة. تلجأ ابنة الخليفة إلى الحاج أحمد اليسوي لإنقاذ والدها وبغداد، ويستطيع علاجه، ويكتشف الخليفة خيانة الكثير داخل القصر. وتبدأ المواجهة بين الشيخ أحمد، ومعه نفر قليل من رجال بغداد، وبلا جيش حقيقي للخلافة، في مواجهة رجال آل موت، ورجال دبيس المتمردين، ومعهم الدعم الصليبي. تتجمع كل هذه القوى، ويواجه الشيخ أحمد بسيفه الخشبي ورجاله القلة كل هؤلاء.

في معركة لإضعاف الحي الفقير من أحياء بغداد، يستخدم رجال نجات ودبيس قمحًا فاسدًا لإطعام أبناء الحي الجوعى، بعدما أحرقوا الحي، ويموت الكثير من أبناء الحي. ويهاجمون قبيلة البدو الرحّل على أبواب بغداد. وفي هذه المعركة، يفقد الحاج أحمد اليسوي أقرب رجاله: حمزة البهليقان، ومحمود، الذين جاءوا معه من تركستان.

لأن هذه هي المعارك بين الحق والباطل، وكما سقط 70 شهيدًا من خيرة رجال الرسول ﷺ في أحد، على رأسهم حمزة بن عبد المطلب، ففي كل معركة بين الحق والباطل يسقط الشجعان وسط المعركة، ويستمر الصراع بينما يقل الرجال ويتساقط الأبطال، لكن الحسم النهائي يكون للمؤمنين مهما طال أمد المعارك، هكذا يعلمنا التاريخ.

أخطر ما يواجه معارك الدول هو الطابور الخامس من الجواسيس، فبهم تفقد الدول قدرتها على المواجهة، فما بالك إن كان هؤلاء رجالًا في قاعات الحكم؟ وقصة جواسيس الدولة وداخل أروقتها خط درامي ثابت في كل الأعمال الدرامية التاريخية التركية. لا يوجد عمل واحد لا يطرح هذه القضية.

الخط الثاني الذي لا يغيب هو حجم التضحيات، فبدونها لا يوجد نصر، ولا تُبنى الأمم. وفي ذلك ستجد مشاهد قتل للأبرياء دائمًا في الدراما التركية، في بشاعة من القتل والانتقام، وعدد الشهداء الكبير، حيث أنهار من الدماء تسيل، مثلما نشاهد الآن على الشاشات في المشاهد القادمة من غزة. ولكن كما في التاريخ واقعيًا، والدراما خياليًا، هذه الدماء هي السبيل الوحيد للتحرر. ولا عزاء للعقلاء المرتعشين!

عن الكاتب

علي أبو هميلة

إعلامي مصري


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس