
إسلام الغمري - خاص ترك برس
مقدمة
شهدت مدينة إسطنبول خلال الأيام الأخيرة حدثًا أمنيًا كبيرًا حمل اسم عملية ميترون، حيث أعلنت السلطات التركية اعتقال شخص يُدعى سركان تشيتشك بتهمة العمل لصالح جهاز الاستخبارات الإسرائيلي “الموساد”.
هذه العملية ليست مجرد حادثة أمنية عابرة، بل تعكس في عمقها أبعادًا استراتيجية وسياسية كبرى، تكشف حجم الصراع الخفي الدائر بين تركيا وإسرائيل على أكثر من ساحة.
ففي زمن تتحول فيه الاستخبارات إلى أداة رئيسية لصياغة التوازنات الإقليمية، يأتي هذا التطور ليؤكد أن حرب الظل مستمرة، وأن أنقرة لم تعد ذلك الطرف الذي يمكن اختراقه بسهولة.
أولًا: خلفية العملية وتفاصيلها الميدانية
المعلومات الصادرة عن أجهزة الأمن التركية تشير إلى أن عملية “ميترون” جرت بتنسيق كامل بين جهاز الاستخبارات الوطنية MIT والنيابة العامة وفرع مكافحة الإرهاب في إسطنبول.
المتهم سركان تشيتشك، الذي يُعرف أيضًا باسم محمد فاتح كلاش، غيّر هويته الأصلية بعد أن تراكمت عليه الديون، ليؤسس في العام ألفين وعشرين شركة للتحريات الخاصة تحت اسم “باندورا”.
من خلال هذه الشركة، دخل تشيتشك في دوائر مشبوهة، حيث ارتبط بأشخاص سبق اعتقالهم بتهمة التجسس لصالح إسرائيل، مثل موسى كوش المحكوم بالسجن تسعة عشر عامًا، وكذلك المحامي طغرل هان ديب.
هذه العلاقات وضعت تشيتشك على رادار الموساد، فاقترب منه أحد عناصره ويدعى فيصل رشيد، الذي تواصل معه عبر تطبيق واتساب مقدمًا نفسه على أنه محامٍ دولي.
المطلوب كان بسيطًا في ظاهره، لكنه بالغ الخطورة في مضمونه: تعقب ناشط فلسطيني معارض لسياسات الاحتلال يقيم في منطقة باشاك شهير بإسطنبول.
المقابل المالي لهذه الخدمة قُدر بأربعة آلاف دولار، حُولت عبر العملات المشفرة لتفادي أي آثار مالية يمكن تتبعها.
تشيتشك بدأ بالفعل في محاولات الاستطلاع يومي الأول والثاني من أغسطس، لكنه فشل في الوصول إلى الهدف. وعندما أدرك فيصل رشيد أن المهمة لن تنجح، أنهى التواصل معه في الثالث من أغسطس.
لكن الأجهزة التركية كانت قد جمعت كل الخيوط، ورصدت التحركات والاتصالات بدقة، حتى حانت لحظة المداهمة والاعتقال فجر الجمعة، لتُعلن بداية فصل جديد في مواجهة مفتوحة بين أنقرة وتل أبيب.
ثانيًا: دلالات التوقيت والسياق السياسي
عملية “ميترون” جاءت في توقيت بالغ الحساسية، حيث تتصاعد التوترات في غزة والشرق الأوسط بشكل عام.
بالنسبة لإسرائيل، تمثل تركيا تحديًا مزدوجًا: فهي من جهة تستضيف جالية فلسطينية نشطة سياسيًا وإعلاميًا، ومن جهة أخرى تُظهر دعمًا متزايدًا للمقاومة الفلسطينية على المستوى السياسي.
إسطنبول بالذات تُعد ساحة مثالية لنشاط الموساد، ليس فقط بسبب الوجود الفلسطيني، بل أيضًا لأنها مدينة كوزموبوليتية مفتوحة تجذب آلاف الجنسيات، ما يتيح بيئة مناسبة للتحرك والتخفي.
لكن تركيا بدورها تعي هذه الحسابات جيدًا، ولذلك تتعامل بحزم مع أي نشاط استخباري إسرائيلي. إعلان عملية “ميترون” لم يكن موجهًا فقط للرأي العام الداخلي، بل كان أيضًا رسالة مباشرة لإسرائيل بأن الأراضي التركية ليست ساحة مباحة.
التوقيت يكشف أيضًا عن تصميم أنقرة على رسم صورة الدولة القادرة على حماية نفسها وحلفائها، في وقت تتعرض فيه المنطقة لمحاولات إعادة رسم خرائط النفوذ.
ثالثًا: الرسائل المتعددة للعملية
يمكن قراءة العملية باعتبارها رسالة مركبة تحمل عدة مستويات من الدلالات:
1. رسالة إلى إسرائيل:
أنقرة تقول بوضوح إن أي محاولة لاختراق سيادتها ستُواجه برد صارم. كشف تفاصيل العملية وتحويل الأموال عبر العملات المشفرة يهدف إلى فضح تكتيكات الموساد وإحراج تل أبيب أمام العالم.
2. رسالة إلى الفلسطينيين:
تركيا تؤكد أنها لن تسمح باستهداف الناشطين الفلسطينيين المقيمين على أراضيها، وأن دعمها للقضية الفلسطينية ليس مجرد شعار سياسي، بل يمتد ليشمل الحماية الأمنية.
3. رسالة إلى الداخل التركي:
تعزيز ثقة الشعب بمؤسسات الدولة الأمنية، وإظهار أن أجهزة الاستخبارات قادرة على مواجهة أخطر الخصوم وأكثرهم خبرة.
4. رسالة إلى الغرب:
تركيا تتحرك باستقلالية كاملة، وتعلن أنها قادرة على التصدي للموساد كما تتصدى لأي جهاز استخباري آخر، بعيدًا عن حسابات التبعية أو الضغوط السياسية.
رابعًا: الانعكاسات الاستراتيجية
نجاح عملية “ميترون” يضيف إلى سجل الاستخبارات التركية نقاطًا مهمة في معادلات القوة الإقليمية.
فمن جهة، ستُجبر إسرائيل على إعادة حساباتها فيما يتعلق بأنشطتها داخل تركيا، إذ باتت شبكاتها مكشوفة ومعرضة للتفكيك.
ومن جهة أخرى، ستعزز هذه العملية صورة أنقرة كقوة إقليمية قادرة على حماية أمنها الداخلي وصد محاولات الاختراق.
كما أن هذه العملية سترفع من مستوى التنسيق بين تركيا والفصائل الفلسطينية، التي ستجد في أنقرة مظلة حماية قوية ضد محاولات الاستهداف.
إلى جانب ذلك، فإن كشف أساليب تمويل العمليات عبر العملات المشفرة يُعد إنذارًا عالميًا، إذ يفتح النقاش حول مخاطر استخدام هذه الأدوات الحديثة في أنشطة التجسس والإرهاب.
خامسًا: حرب الظل ومستقبل الصراع
من غير المتوقع أن تتوقف إسرائيل عن محاولاتها، لكن المؤكد أن كلفتها سترتفع، وأن قدرتها على المناورة ستتراجع.
تركيا من جانبها ستواصل تطوير أدواتها الاستخبارية، سواء عبر تقنيات المراقبة أو تعزيز القدرات السيبرانية، وهو ما يجعلها في وضع أفضل لمواجهة التهديدات المستقبلية.
المرحلة المقبلة قد تشهد انتقال المواجهة إلى مستويات جديدة، أبرزها الحرب السيبرانية، حيث يمكن لإسرائيل محاولة ضرب البنية التحتية الرقمية التركية. لكن أنقرة تستثمر منذ سنوات في بناء منظومة متقدمة للأمن السيبراني، ما يجعلها قادرة على الصمود.
في المقابل، ستوظف تركيا هذه النجاحات لتعزيز نفوذها السياسي في ملفات حساسة مثل غزة وسوريا وشرق المتوسط، إذ تمنحها هذه العمليات رصيدًا إضافيًا في التفاوض الإقليمي والدولي.
الخلاصة أن معركة الظل بين أنقرة وتل أبيب مرشحة للتصعيد، وكل عملية ناجحة من جانب تركيا ستعيد رسم معادلات القوة في المنطقة.
خاتمة
عملية “ميترون” ليست مجرد اعتقال لعميل صغير، بل هي إعلان صريح عن قدرة تركيا على مواجهة الموساد في عقر دارها.
إنها جزء من معركة ممتدة، قد لا تُرى تفاصيلها في العلن، لكنها تترك آثارها العميقة على موازين القوى.
تركيا اليوم تؤكد أنها طرف أساسي في حرب الظل، وأنها مستعدة لخوضها بأدواتها الخاصة، مهما كان الثمن.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس