محمود الرنتيسي - نون بوست 

في الأول من نوفمبر توجه الجمهور التركي إلى مراكز الاقتراع للإدلاء بصوته في الانتخابات البرلمانية بعد فشل الأحزاب التركية في التوافق حول حكومة ائتلافية تبعًا لنتائج انتخابات يونيو الماضي، والتي لم يستطع وفقًا لنتائجها حزب العدالة والتنمية أن يشكل الحكومة بمفرده، وكان القرار الشعبي هو إعطاء الثقة من جديد لحزب العدالة والتنمية ليقود الحكومة بمفرده.

لقد مرت حوالي خمسة شهور على الانتخابات الماضية وبالتأكيد لقد حدثت أمور كثيرة من ضمنها أن الحزب الحاكم وهو حزب العدالة والتنمية قد حاول تلافي الكثير من أخطائه واستدراك بعض مما فاته، فبدا أكثر حرصًا على رضا الجمهور وأكثر حساسية في تعامله مع القضايا التي تهم الرأي العام سواء على مستوى الداخل أو على مستوى السياسة الخارجية.

لقد كان الخروج المتكرر للرئيس التركي رجب أردوغان على الإعلام قبيل الانتخابات الماضية مستفزًا للمعارضة التركية، كما أن حديثه المتكرر أيضًا عن النظام الرئاسي فهمه البعض على أنه هدف شخصي لأردوغان الذي أصبح أول رئيس منتخب من قِبل الشعب في تركيا، فيما قامت المعارضة التركية بالتحريض على النظام الرئاسي المنشود مما كان له أثر سلبي على نتائج حزب العدالة والتنمية؛ لذا فقد كان واضحًا أن الرئيس التركي قلل كثيرًا من خروجه على الإعلام حتى لا تستغل كلماته وحتى لا يتهم أحمد داود أوغلو بأنه ينفذ إرادة أردوغان، كما بدا واضحًا أن النظام الرئاسي لم يحظ بالتنظير الذي حظي به سابقًا وغاب عن المشهد الإعلامي هو أيضًا ويبدو أنه تم تأجيله لظروف أكثر ملاءمة وليس قناعة بعدم صوابيته، ولعل التأجيل هنا أمر جيد لصالح حزب العدالة والتنمية، وهذه نقطة مهمة كان لها تأثيرها حيث حرم المعارضة من مادة دسمة للتحريض تمثلت في طلب 400 مقعد من الشعب وبدأ يستخدم لغة يفهمها المواطن بشكل أسهل وهي البشارات الاقتصادية والمكافآت كمساعدة المقبلين على الزواج على سبيل المثال.

من الأمور الأخرى المهمة أن الحزب قام بمراجعة قائمة مرشحيه وقام باستبدال عدد كبير ممن خسروا لأسباب تتعلق بأشخاصهم واستبدلهم بأسماء أقوى، كما أنه قام بإغلاق الملفات الخلافية فلم يعد يذكر أي أخبار عن خلافات داخلية مثل التي حدثت بين رئيس بلدية أنقرة وبولنت أرينتش أو تلك التي صاحبت فكرة ترشح هاكان فيدان.

ومن الأمور الأخرى المهمة تناقص حجم التحريض الإعلامي في الصحف والمجلات الغربية على تركيا في الآونة الأخيرة وإن كان ما زال موجودًا  وفجًا، ولعل هذا كان بسبب المرونة التي أبداها الحزب مؤخرًا في التعامل مع القضايا الإقليمية والدولية، كما أن عملية إعادة فتح ملف انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي وتسريع تحقيق بعض المزايا للمواطنين الأتراك متعلقة بتأشيرات السفر لأوروبا قيل إنه أسهم في زيادة أصوات الحزب وإن كان بدرجة قليلة لكنه كان يحمل معاني الاستقرار، فمنذ زمن طويل تركز ذهن المواطن حول الشرق الأوسط المضطرب ولكن الحديث الجديد حول الانضمام للاتحاد الأوروبي بالرغم من صعوباته حمل معاني الاستقرار.

أما في سياسته مع الأحزاب الأخرى فمن أهم ما قام به العمليات المركزة التي وجهها حزب العدالة لاستقطاب كوادر وقيادات في حزب الحركة القومية استطاع من خلالها جذب نائب رئيس الحركة القومية ومؤخرًا انتقل 150 كادرًا من حزب الحركة القومية إلى حزب العدالة والتنمية وهذا كان  له دلالات مهمة منها أن قسمًا معينًا ممن صوتوا للحركة القومية قد صوتوا للعدالة والتنمية هذه المرة وقد استفاد الحزب في هذا من المعركة التي شنها على حزب العمال الكردستاني مما أرضى قسمًا من أنصار الحركة القومية، وأيضًا استفاد من رفض زعيم الحركة القومية للمبادرات التي قدمها حزب العدالة إليه للتحالف مما أدى لانقسام الموقف القومي.

من زاوية أخرى ومن الأمور التي استفاد منها الحزب من خلال تكتيكاته التي أظهرته أكثر قربًا من الشعب أن زعيم أكبر حزب معارض في تركيا كمال كلشدار أوغلو أصبح مثارًا لكثير من الانتقادات حتى من عدد من أنصار الحزب وكوادره الذين يرون فيه شخصًا ضعيفًا لا يصلح لقيادة الحزب، ولعل المشهد الذي وبخه فيه أردوغان بالقول هناك من يجول في البلاد ويقول إنني ديكتاتور ويجلس الآن أمامي ولو كنت ديكتاتورًا هل يستطيع قول هذا!

كما أن قيام الدولة بقيادة حزب العدالة بفتح المعركة مع حزب العمال الكردستاني كانت بمثابة ضرب أكثر من عصفور بحجر واحد؛ حيث أدت  من جهة إلى تعرية السياسة التي انتهجها حزب الشعوب الديمقراطي الذي يحظى بدعم الأكراد، فقد شهدت سياسته بعض التخبطات مما أدى إلى أن يكون هذا أيضًا إيجابيًا لصالح حزب العدالة، فيما قامت بإذابة العامل المشترك وهو تجمع الأحزاب كلها ضد العدالة والتنمية في الانتخابات السابقة، فأصبح حزب الحركة القومية بدلاً من التركيز على العدالة والتنمية بدأ يركز على ما يقوم به حزب الشعوب الديمقراطي ويقوم بخلافه، كما أدى لتراجع بعض أنصار الشعب الجمهوري عن التصويت للشعوب الديمقراطي الذي فقد قرابة مليون صوت في الانتخابات، ومن زاوية أخرى فإن زيادة الإجراءات الأمنية في الشرق والجنوب قللت من عمليات التهديد للناخبين من قِبل العمال الكردستاني.

أما على صعيد الأحزاب الصغيرة فإن حزب العدالة قد قام بعدد من المبادرات من أجل التعاون وبالرغم من أن قادة هذه الأحزاب لم يوافقوا إلا أن أنصار هذه الأحزاب يبدو أنهم تأثروا وشعروا بالامتنان؛ مما أدى إلى أن يصوت قسم منهم للعدالة والتنمية.

ويكمن النجاح الكبير وكلمة السر الأكثر فعالية في أن الحزب جعل المواطن التركي يقتنع أن مستقبل تركيا المستقر هو مع حزب العدالة والتنمية وأن موضوع الحكومات الائتلافية هو مهاترات ستؤدي للخلاف السياسي والتدهور الاقتصادي.

بشكل عام بدت هذه الجولة من الانتخابات على المستوى الداخلي في تركيا قبل بدء التصويت أحسن نسبيًا لصالح حزب العدالة والتنمية من الانتخابات الماضية، وربما أشارت بعض استطلاعات الرأي للتقدم في الأرقام التى كان متوقعًا أن يحصل عليها حزب العدالة والتنمية لكن الصناديق كانت أكثر كرمًا مع حزب العدالة والتنمية وأعطته أكثر مما توقع غالبية أنصاره، ويمكننا القول إن استدراكات الحزب وسياسته بين العمليتين الانتخابيتين قد أفادته وهو يمتلك الآن ثقة أكبر وعليه أن يستفيد منها في مواجهة المشاكل الداخلية والأوضاع الخارجية التي ستبقى تحديًا أمام الحكومة التركية القادمة التي سهل الشعب التركي الطريق أمام عملية تشكيلها.

عن الكاتب

محمود الرنتيسي

باحث فلسطيني في مجال العلاقات الدولية


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس