د. وائل مرزا - خاص ترك برس

لم يتقن العرب كيفية التعامل مع تركيا يومًا. والأرجح أنهم لم يفهموها كذلك.

ثاروا عليها أيام "الخلافة"، وعانوا منها زمنَ الجمهورية.

خرجوا على العثمانيين مع فورة القوميات. أسسوا الجمهوريات، واستبشروا خيرًا عندما قامت في تركيا جمهورية قومية. رغم هذا، لم تَصلُح لهم معها علاقةٌ على مدى ثمانين عامًا.

دار الزمن دورته، فوصل "الإسلاميون" إلى السلطة أول مرة. حاولوا التقرﱠب إلى العرب برؤيةٍ تمتزج فيها المصالح بالمبادىء، لكن عرب بداية التسعينيات كانوا لا يزالون خارج التاريخ وخارج العالم. طغى عليهم الخوف من "عبور" النماذج والأفكار، فلم يصافحوا اليد التي امتدت إليهم.

ثم ذهبت ريح العسكر بالإسلاميين، فجاءت حكومات أمسكت أمواج الفرات، ولم تبالِ إن مات العرب من العطش. زاد الضغط وتنوعت أساليبه، ولاحت بوادر الحرب من بعيد. رضي العرب بأقل مما كان معروضًا عليهم في الماضي وأصبحوا واقعيين.

بالمقابل، تطورت تجربة أحفاد بني عثمان.

انتقلوا من الخلافة إلى جمهورية أتاتورك، فعاشوا حلاوة الانفتاح، لكنهم، شيئًا فشيئًا، ذاقوا طعم الغربة في الهوية.

فتح العسكر أمامهم أبواب العالم، وأغلقوا نوافذ التاريخ.

ظهرت نسخةٌ أخرى من تلك "الديمقراطيات" العسكرية الشبيهة بأخواتها في أمريكا الجنوبية وبعض بلدان آسيا. جنرالاتٌ يريدون تطوير بلادهم وفق ما يرون، بالحديد والبسطار.

كان يمكن لوصفة أتاتورك أن تنجح أكثر، لو أنها أدركت خطورة "الاستبداد" في الاجتماع البشري. رغم هذا، تبقى للتاريخ لعبتهُ الخاصة، ومعها "مَكرهُ" الهيجلي: كأن "العَلمنة" القسرية، لفترة، كانت مدخل عودة تركيا إلى ذلك التاريخ. فلولاها، ثمة احتمالٌ أن يكون "إسلاميو" تركيا أقرب للنموذج العربي البائس.

قَبِلَ الأتراك بهذه المعادلة بضعة عقود، وساهم في إقناعهم بذلك قانون القوة وافتقادُ البديل. ثم جاء الانفتاح بما يأتي به، وعاد التاريخ يحمل خزينَ الهوية، ومكرَ العقل، هذه المرة. فنشأ جيل يرفض الواقع ويعمل على تغييره بهدوء: أتى زمنُ تورغوت أوزال.

ظهر الأب الثاني للجمهورية التركية المعاصرة. وفي وجوده، زاد رصيد السياسي وبدأ ينطفىء بريق الجنرال. وصار الحديث عن التنمية والانفتاح والإصلاح أكثر جديةً من أي وقت سابق .

ثم سنحت الفرصة للإسلاميين. وبمزيجٍ من إفلاس السياسيين التقليديين، ورصيد الشعارات، وإنجازات أربكان الشخصية، قفزوا إلى السلطة. لكن البشرية كانت لاتزال تنتظر ثورة الاتصالات وثورة المعلومات وثورة الحريات. والأهم من ذلك، كانت لاتزال تنتظر عولمة تلك الثورات. فانتفضت الجندرمة التركية، وأزاحت أربكان ورفاقه عن القمة.

غير أن العالم كان يتغير جذرياً داخل تركيا وخارجها. ففي الداخل، أدرك تلاميذ أربكان الشباب أن شيخهم لايزال محكوماً بفكر الماضي وأساليبه، فانقلبوا عليه. وأدرك أنصار الديمقراطية من جميع الانتماءات أن نظامهم السياسي بات مهزلةً ستودي بالبلاد والناس، فعافوه وتمنوا تغييره. وأدرك الشعب التركي أنه بحاجة إلى انقلابٍ أبيض يعيد إليه قوتَ يومه، وشيئاً من هوية وكرامة، فذهب يبحث عن بديل. وأدرك العسكر أن زمن عودتهم إلى الثكنات بات قريبًا، ومطلوبًا، فاستعدوا لذلك ماديًا ومعنويًا.

هكذا، ظهر أردوغان وفريقه. تحول الشخص إلى مؤسسة. وانقلب العمل من خلال الشعارات إلى عمل من خلال البرامج. اختفى التركيز على حفظ مظاهر الإسلام، وتركز الهمُّ في تحقيق مقاصده وقيمه. أُعيد ترتيب الأولويات، وتمت إعادة النظر في المهمات وفيمن يقوم بها، وقال أردوغان، يومها، بكل صراحة ووضوح: "نحن لا نحتاج في تركيا لمزيد من المشايخ أو علماء الدين ، وإنما نحتاج لرجال سياسة ماهرين وشرفاء".

لاحَ في أفق تركيا ما قد يُصبح "بديلًا"، فانحاز له شعبُها، وأعطى صوته لما بدا أملًا وشبابًا ومستقبل. ملّ المثقفون الأتراك، العلمانيون منهم وغيرهم، التخويف من بعبع الإسلاميين وقرروا أن يجربوا هذا النموذج الجديد المختلف في كل شيء.

ثم جاء سبتمبر بطائراته وأبراجه، فتغير العالم إلى الأبد.

أدرك الغرب أنه لابد من التعامل مع "إسلامٍ" ما في هذا العالم. وفي حين كان يَعتقد أن هناك إسلامًا واحدًا يعرف ملامحه، أيقن بأنه يمكن أن يكون بين (إسلامٍ) و(إسلام) مابين الأرض والسماء. وحين يكون الخيار بين الإسلام بنموذجه التركي أوالماليزي وبين إسلامٍ عنيف ومنغلقٍ ومعادٍ ومحارب، يبدو الاختيار منطقيًا. فكان الترحيب بما يجري في تركيا من هنا وهناك، وجاءت بداية المباحثات للانضمام إلى البيت الأوروبي.

لكن العرب، وخاصةً الإسلاميين منهم، وقعوا في فخ سوء الفهم مرة أخرى. أصر بعضهم أن ذلك الطلب قمة التبعية، واعتبروه دليلا آخر على تمييع الدين وضياعه. وشاع الحديث في أوساطهم لسنوات عن "إسلامٍ أميركي"، ومعه اتهاماتٌ بالانتهازية والبراغماتية المُفرطة.

ثم ظهرت الإنجازات، ومعها تركيا جديدة، قوية اقتصاديًا وسياسيًا، فأصبحت تجربتها "الإسلامية"، فجأةً، هي "النموذج"، بأل التعريف. اشتعل حماس العاطفة وطغى على قراءةٍ عقلانية لها. حُشرت، بكل تعقيدها وتاريخها ومؤسساتها، في "أردوغان"، البطل والمنقذ و.. الخليفة المُنتظر.

تمﱠ القفزُ على الحقائق، وجرى خلطُ الأوراق. فكثيرٌ من المقدمات التي انطلق منها حزب العدالة والتنمية في تعامله مع الواقع السياسي والثقافي والاجتماعي والاقتصادي التركي مرفوضةٌ لدى الغالبية العظمى التي تُشكّلُ الواقع الحركي للإسلاميين العرب. بل الأرجحُ أن تكون من المُحرّمات المتناقضة مع الشريعة في رؤية هؤلاء. ولولا بعض (المظاهر) الخارجية، لكان من الصعب رؤية أوجه تشابه حقيقية بين أولئك الإسلاميين وأعضاء الحزب التركي.

لم يفهم العرب، وإسلاميوهم، حتى "الخضة" العنيفة التي مرت بها التجربة التركية في العامين الماضيين. لم يسمعوا بالمراجعات التي جرت بين انتخابات حزيران وانتخابات تشرين الثاني، ولا بدعوات العودة إلى أصول الرؤية الأولى ومقدماتها، وتجنب الوقوع الكامل في فخ "الأيديولوجيا" سياسيًا وثقافيًا.

عبرَ الأتراك استحقاق الانتخابات الأخيرة، وسيُظهر الواقع نتيجة مراجعاتهم. لكن العرب توقفوا عند نقطة الطرب بنتيجتها، وعادوا للموال القديم: قراءة الأحداث بطريقتهم الخاصة. تجاهلُ تفاصيل هامة ورئيسة. والقفز فوق الحقائق، لأنها تتناقض مع رؤيتهم للدين ودوره في الحياة. ثم انتقاء ما يعتقدون أنه ينسجم مع تلك الرؤية لتسليط الضوء عليه، والإشادة به بشكلٍ صاخب. بحيث تكون المحصلة في النهاية قراءةً مُفبركة تحاول تلبيس أصحاب الإنجازات الأتراك بلَبوسها الخاص، ثم تعود لمحاولة تجيير إنجازاتهم لمصلحة أصحاب القراءة العرب!

حزينةٌ هي قصتنا مع تجربة الأتراك. وجودُها على مرمى حجرٍ منّا يُظهر عورات واقعنا، فالضِّدَّ يُظهرُ حُسنَهُ الضدُّ. وسوءُ فهمنا لها يزيد مأزقنا عمقا، خاصة فيما يخص نظرتنا لقضايا التغيير والإصلاح. ينظر بعضنا إليها بتشاؤم، لألف سببٍ وسبب، فيزهد في الاستفادة منها. وينظر بعضنا الآخر إلى إنجازاتها بعاطفية ورومانسية، فيرون فيها التجربة التي يجب نسخُها حرفيًا، ونقلها للواقع العربي بحذافيرها، دون إدراك للخصوصيات في كل مجال. وبين هذا وذاك، تبقى التجربة معلقةً أمام أبصار العرب، ويبقى الخيار خيارهم فيما إذا كان فهمهم لها سيكون جزءا من الحل المنشود، أو يبقى جزءًا أزليًا من المشكلة.

عن الكاتب

د. وائل مرزا

باحث في العلوم السياسية، مهتمٌ بالشأن التركي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس