مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات

أولاً: تمهيد:

تمتد العلاقات بين تركيا ودولة الاحتلال على مدى عشرات السنين، حيث كانت تركيا من أوائل الدول التي اعترفت بها سنة 1949، كأول دولة مسلمة تفعل ذلك . ثم، وبعد انضمام تركيا لحلف شمال الأطلسي North Atlantic Treaty Organization سنة 1952، تعمقت العلاقة بينهما أكثر خصوصاً في المجالين العسكري والأمني، نتج عنها توقيعهما —مع إثيوبيا— الاتفاق الإطاري أو حزام المحيط The Peripheral Pact Treaty سنة 1958 .

وبعد فترات من المد والجزر في العلاقات الثنائية، كان الانقلاب العسكري في تركيا سنة 1980 نقطة تحول في هذه العلاقات التي تسارعت وتعمقت وتجذرت في مختلف المجالات، وشهدت في بداية التسعينيات فترتها الذهبية، التي وصلت لذروتها بزيارة رئيسة الوزراء التركية تانسو تشيلر Tansu Çiller لـ”إسرائيل“ سنة 1994، ثم زيارة الرئيس سليمان دميريل Süleyman Demirel لها سنة 1996.

وقد وقّع الطرفان سنة 1996 تحديداً عشرات الاتفاقيات في المجالات العسكرية والأمنية والاقتصادية والسياسية، أهمها تدريب الطيارين الإسرائيليين في تركيا، وتطوير الدبابات والمقاتلات التركية في ”إسرائيل“، وتواجد مقاتلات إسرائيلية على الأراضي التركية، فضلاً عن تعميق مستوى التعاون الاستخباري على مستوى الأجهزة الرسمية وتبادل المعلومات، وتواجد مراكز تنصت وإنذار مبكر على الأراضي التركية، تتجسس عبرها ”إسرائيل“على بعض دول الجوار ومنها العراق وسورية .

ولم يؤدِّ وصول حزب العدالة والتنمية Justice and Developement Party (AKP) ذي الجذور الإسلامية —على مستوى قياداته وليس على مستوى برنامجه— للحكم في تركيا سنة 2002 إلى تدهور العلاقات بين البلدين، بل استمر التطور فيها وحصلت زيارات ديبلوماسية متبادلة على أعلى مستوى بين الطرفين، أهمها زيارة كل من وزير الخارجية التركي حينها عبد الله غول Abdullah Gül ثم رئيس الوزراء وقتئذ رجب طيب أردوغان Recep Tayyip Erdoğan لـ”إسرائيل“ سنة 2005، والتي لاقت ترحيباً إسرائيلياً كبيراً .

وبالتوازي مع العلاقات الاقتصادية المتطورة باضطراد واضح بين الطرفين، حاولت تركيا لعب دور الوسيط بين ”إسرائيل“ ودول عربية وإسلامية مثل سورية والباكستان، قبل أن تتدهور علاقاتها مع دولة الاحتلال على إثر العدوان على غزة سنة 2008، والتي عدَّته تركيا طعنة في ظهرها، وخيانة لجهدها المبذول على جبهة العلاقات السورية – الإسرائيلية، والتي رعت تركيا فيها مفاوضات غير مباشرة بين الجانبين .

لاحقاً، مرت العلاقات الثنائية بعدة منعطفات وأزمات، مثل حادثة منتدى دافوس Davos Forum الشهيرة في أيلول/ سبتمبر 2009 ، وأزمة إهانة السفير التركي في تل أبيب في كانون الثاني/ يناير 2010 ، حتى وصلت الذروة بالاعتداء الإسرائيلي على سفينة مرمرة والتي انخفضت بعدها العلاقات الديبلوماسية بين الطرفين على إثرها إلى أدنى مستوياتها واستمرت كذلك حتى الآن.

ثانياً: محددات العلاقة مع ”إسرائيل“:

وقبل تحليل الوضع الحالي ومحاولة استشراف المستقبل، ينبغي الوقوف على المحددات التي شكلت وتشكل إطار علاقة تركيا في عهد العدالة والتنمية بدولة الاحتلال، وأهمها:

أولاً: البناء على العلاقة الممتدة بين الطرفين على مدى عشرات الأعوام، وعدم القدرة على (وربما غياب النية لـ) إحداث تغييرات جذرية ومباشرة فيها.

ثانياً: مراعاة الأوضاع السياسية في البلاد حين تسلم الحزب الحكم، وخصوصاً وصاية المؤسسة العسكرية التركية على المشهد السياسي، وهي صاحبة العلاقات المتميزة مع ”إسرائيل“.

ثالثاً: وضع العلاقة تحت بند الخطوط العامة للأمن القومي التركي ومصالح تركيا التي أعاد الحزب الحاكم تفسيرها وصياغتها ولم ينقلب عليها بشكل دراماتيكي.

رابعاً: نظرية الحزب في ضرورة تطويع السياسة للاقتصاد في السياسة الخارجية، أي “الارتباط المعزز” بينهما، في ظروف العلاقات الطبيعية مع الدول، والفصل (فك الارتباط) بينهما في فترات التوتر، أي الحفاظ على العلاقات التجارية والاقتصادية على الرغم من الخلافات السياسية، وهو ما فعلته تركيا بعد أزمة سفينة مرمرة .

خامساً: تجنب تركيا للمواجهات المباشرة والحادة مع أيّ طرف، وصعوبة تحركها منفردة دون شركاء إقليميين، بغض النظر عن مدى ارتفاع سقف الخطاب.

سادساً: اعتبار العلاقة مع دولة الاحتلال جزءاً من منظومة علاقات تركيا الغربية —الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي— ومفتاحاً لنيل ثقة هذه الأطراف من خلال العلاقة الجيدة، أو على الأقل غير المتأزمة، معها.

سابعاً: حاجة تركيا لـ”إسرائيل“ في عدة مجالات، وتحديداً التعاون الأمني وتطوير الأسلحة والصناعات الدفاعية، خصوصاً في أعوام حكم العدالة والتنمية الأولى.

ثامناً: مراعاة التدرج في العلاقة، بحيث تنعكس قوة وضع الحزب الداخلي على العلاقة مع دولة الاحتلال، تخففاً من بعض الالتزامات والروابط، بشكل هادئ وبطيء لا يؤدي إلى أزمات حادة معها ولا يستثير الغرب ضدّ أنقرة.

تاسعاً: عدم تجاوز السقف العربي – الدولي في التعامل مع القضية الفلسطينية، والالتزام بالحل السياسي لها وفق رؤية “حلّ الدولتين” Two – State Solution، والمبادرة العربية للسلام Arab Peace İnitiative، بل والدعوة لإشراك حركة حماس في عملية التسوية .

عاشراً: عدم تخطي حدود الدعم السياسي – الإعلامي – المالي للفصائل الفلسطينية، مع مراعاة أن يكون الدعم المالي تحديداً على شكل معونات إغاثية وإنسانية ومشاريع دعم للبنية التحتية، لعدم الإضرار بالعلاقة مع دولة الاحتلال قبل الأزمة معها.

وبناء على هذه المحددات وفي ضوئها نسج حزب العدالة والتنمية علاقات تركيا مع ”إسرائيل“ على مدى أعوام، حتى تأزمت العلاقة معها على عدة مراحل كما ورد آنفاً. وعلى الرغم من أن الحكومة التركية لم تكن داعمة لفكرة أسطول الحرية ورحلته لكسر الحصار عن قطاع غزة سنة 2010، إلا أن الاعتداء عليه وقتل عشرة مواطنين أتراك (تسعة مباشرة، وواحد بعد أشهر من العلاج تأثراً بجراحه) وضعها في موقف الذود عن سيادة البلاد ومواطنيها.

ولذلك فقد اتخذت تركيا عدداً من الإجراءات العقابية تجاه ”إسرائيل“، مثل سحب السفير التركي وطرد السفير الإسرائيلي، وإلغاء مناورات عسكرية ثنائية مبرمجة مسبقاً، وإلغاء صفقات سلاح ومنها شراء طائرات بدون طيار منها، فضلاً عن تجميد عشرات الاتفاقيات في مختلف المجالات معها .

لاحقاً، أعلنت تركيا شروطها الثلاثة لعودة العلاقات إلى سابق عهدها مع ”إسرائيل“، والتي تمثلت في الاعتذار عن الاعتداء، ودفع تعويضات مادية لعائلات الشهداء العشرة، وكسر الحصار عن قطاع غزة.

ثالثاً: المحفزات والعقبات:

بدأت اللقاءات الثنائية بهدف تطويق الأزمة بين الطرفين مبكراً جداً، حيث التقى وزير الخارجية التركية أحمد داود أوغلو Ahmet Davutoğlu سراً بوزير الصناعة والتجارة الإسرائيلي بنيامين بن إليعازر Binyamin Ben-Eliezer في بروكسل في 1/7/2010، دون أن يفضي ذلك اللقاء إلى نتيجة إيجابية .

تتالت اللقاءات بين مسؤولي البلدين وتكرر الفشل في التوصل لاتفاق ما، بسبب إصرار تركيا على شروطها الثلاثة ورفض ”إسرائيل“ لها، حتى حملت سنة 2013 جديداً باعتذار بنيامين نتنياهو Benjamin Netanyahu من أردوغان، بضغط من الرئيس الأمريكي باراك أوباما Barack Obama، في شهر آذار/ مارس، فيما بقي الشرطان الآخران دون تنفيذ حتى اليوم .

بعد هذا الاعتذار تسارعت اللقاءات بين الطرفين، فاجتمعا في أنقرة في أبريل/ نيسان ثم في القدس في أيار/ مايو من سنة 2013، ثم توصلا إلى مسودة اتفاق لم يكتب له الخروج إلى حيّز التنفيذ .

وافقت ”إسرائيل“ سنة 2014 على تعويض أسر الضحايا بمبلغ 20 مليون دولار، دون أن تنفذ ذلك، والتقى الطرفان مرة أخرى في حزيران/ يونيو 2015، قبل أن تسرّب وسائل الإعلام العبرية أخباراً عن “اتفاق قد تمّ فعلاً” بين الطرفين . بينما بدى الموقف التركي في المقابل مرتبكاً بعض الشيء، فتذبذت تصريحات المسؤولين الأتراك بين الإقرار بوجود محادثات ونفي توقيع اتفاق نهائي، بين الحديث عن ثبات الموقف التركي من سياسات ”إسرائيل“ واعتبار “الشعب الإسرائيلي صديقاً للشعب التركي” ، بين الرغبة في التقارب باعتباره مصلحة “للبلدين والمنطقة”  والتباهي بأن تركيا هي أول دولة “ترغم إسرائيل على الاعتذار” ، بين التأكيد على شروط أنقرة الثلاثة في بعض التصريحات وذكر صيغة “تخفيف الحصار” بدل “رفع الحصار” في بعضها الآخر .

ما يميز هذه الجولة من المفاوضات بين الطرفين مجموعة من العوامل المحفزة، منها ما هو متعلق بالظرف الإقليمي – الدولي الدافع للطرفين نحو التقارب، ومنها ما هو خاص بكل منهما على حدة، ومنها ما هو مرتبط بما سبق من مباحثات، أهمها:

• عدم ممانعة تركيا عودة العلاقات من الناحية المبدئية وربطها الأمر بشروط إجرائية.

• تضرر الطرفين من فترة انقطاع العلاقات الديبلوماسية، فتركيا، وفق الحسابات البراجماتية الإقليمية، فقدت القدرة على لعب دور مؤثر في القضية الفلسطينية بعد تردي علاقاتها مع كل من تل أبيب والقاهرة، بينما حال الفيتو التركي دون مشاركة ”إسرائيل“ في بعض أنشطة ومناورات حلف الناتو، فضلاً عن أن ”إسرائيل“ فقدت صداقة دولة إقليمية كبيرة، في فترة تمر فيها المنطقة بتحولات سياسية – اجتماعية ضخمة تمتاز بسيولة كبيرة ونتائج غير متوقعة.

• الانتهاء منذ فترة طويلة من الشرطين الأولين، ووقوف المحادثات عند الشرط المتعلق بحصار غزة.

• رغبة الطرفين في ترميم العلاقة بينهما لطي صفحة الخلاف والتوتر.

• الضغوط الأمريكية على حليفيها الاستراتيجيَيْن في المنطقة للتقارب في ظلّ المتغيرات الإقليمية الكثيرة.

• قناعة الطرف الإسرائيلي بعدم جدوى تأخير الملف أكثر من ذلك، بعد أن كان يراهن على تراجع آخر لحزب العدالة والتنمية في انتخابات تشرين الثاني/ نوفمبر الفائت، يضعف موقف تركيا في المباحثات. بينما أعادت الانتخابات الحزب إلى أغلبيته البرلمانية وساعدته على تشكيل حكومة قوية بمفرده، فاضطر نتنياهو لتفعيل الملف المجمد على طاولته منذ 2014.

• تطورات الأزمة السورية وما نتج عنها من مهددات مشتركة للطرفين، في مقدمتها تنظيم الدولة (داعش).

• التواجد الروسي العسكري المباشر في سورية منذ نهاية أيلول/ سبتمبر الماضي، وهو عامل مهدد لكلا الطرفين، بغض النظر عن درجة التنسيق بين روسيا و”إسرائيل“.

• النفوذ الإيراني المتزايد في المنطقة، وخصوصاً في سورية، والذي ينظر له الطرفان بنوع من الريبة، تحديداً بعد الاتفاق النووي بين إيران ودول 5+1 الذي يتوقع أن يزيد من هذا النفوذ.

• الحاجة المتبادلة في ملف الغاز الطبيعي، بعد العقوبات الروسية الاقتصادية على تركيا واكتشاف حقول على الشواطئ الفلسطينية واللبنانية تتجه ”إسرائيل“ للسيطرة عليها واستثمارها، بحيث تقلل تركيا من نسبة اعتمادها على الغاز الروسي (55% من حاجة تركيا من الغاز الطبيعي يأتي حالياً من روسيا)، وتجد ”إسرائيل“ سوقاً جديدة وممراً لعبور “غازها” إلى الدول الأوروبية .

• العزلة السياسية النسبية التي تعانيها تركيا في المنطقة، والنداءات المتكررة من مسؤولين في الحكومة والحزب الحاكم بضرورة مراجعة السياسة الخارجية وتصويب مسارها، في محاولة لتقليل الخصوم وتدوير الزوايا مع عدد من دول المنطقة .

• تأييد جزء مهم من المعارضة التركية (حزبي الشعب الجمهوري والشعوب الديمقراطي تحديداً) لتعديل سياسة تركيا الخارجية، وخصوصاً في جزئية إعادة العلاقة مع ”إسرائيل“.

• رغبة تركيا في كسب دعم يهود روسيا لكبح جماح بوتين في حزمة عقوباته ضدّ تركيا، فضلاً عن زيادة التوتر معها.

• انشغال أنقرة بالتصعيد العسكري مع حزب العمال الكردستاني منذ تموز/ يوليو 2015، ورغبتها في التركيز على حسمه أولاً، وتحييد العامل الخارجي في إذكائه ثانياً.

• التخوف التركي من تسارع خطوات المشروع السياسي لأكراد سورية على حدودها الجنوبية، وهو ما تراه أنقرة خطاً أحمر وفق معايير أمنها القومي، مضافاً للعلاقات التي تربطهم بدولة الاحتلال سياسة وتسليحاً. حيث تأمل تركيا أن تحدّ من طموح حزب الاتحاد الديمقراطي (الكردي السوري) في إقامة ممر كردي شمال سورية يمتد من حدود العراق إلى البحر المتوسط، من خلال التقارب مع تل أبيب وإرضائها.

• رغبة تركيا في تسجيل إنجاز سياسي لها من خلال إسهامها بتخفيف الحصار عن قطاع غزة، ووصول مباحثات “تثبيت وقف إطلاق النار” غير المباشرة بين ”إسرائيل“ وحماس إلى طريق مسدود، الأمر الذي قد يعزز الدور التركي في الشأن الفلسطيني.

• تطور العلاقات الاقتصادية والتجارية بين الطرفين منذ 2010 (بل منذ تسلم العدالة والتنمية الحكم سنة 2002) بالرغم من الأزمة الديبلوماسية بينهما، ورغبتهما في زيادة حجم التبادل التجاري بينهما، ومركزية المصالحة السياسية في هذا السياق. حيث زاد حجم التبادل التجاري بين أنقرة وتل أبيب منذ سنة 2010 التي وقع فيها حادث مافي مرمرة وحتى سنة 2014 بنسبة 69.5% (من 3,440  مليون دولار سنة  2010إلى 5,832 مليون دولار سنة 2014) :

من ناحية أخرى، ما زالت تقف أمام هذه المباحثات— كما سابقاتها— عدة عقبات، في مقدمتها:

• رفض دولة الاحتلال لرفع الحصار بشكل كامل عن قطاع غزة، باعتبار أنه سيكون عاملاً مساعداً لفصائل المقاومة هناك.

• تعذر تنازل تركيا عن شرط رفع الحصار تماماً، على الأقل لأنه سيسيئ لسمعتها في المنطقة وبين الفلسطينيين خاصة، وسيحرجها أمام الرأي العام التركي في الداخل.

• المعارضة الشعبية في تركيا للاتفاق، فضلاً عن معارضة وقف الإغاثة الإنسانية (İ.H.H.) الذي سيَّر سفينة مافي مرمرة، لتطبيع العلاقات بهذا الشكل، لا سيّما وأن التسريبات الإعلامية تحدثت عن تعهد تركيا بوقف كافة القضايا المرفوعة ضدّ قادة إسرائيليين في تركيا .

• حملات التراشق الإعلامي بين الطرفين خلال فترة المقاطعة، والتي زادت من الفجوة بينهما، لا سيّما على المستوى الشخصي بين أردوغان ونتنياهو.

• الإشارات الكثيرة والتصريحات التي صدرت عن تل أبيب فرحاً واستبشاراً بتراجع حزب العدالة والتنمية في انتخابات حزيران/ يونيو 2015، باعتباره تمهيداً لخسارة حركة حماس أحد داعميها الإقليميين .

• الاتهامات التركية لـ”إسرائيل“ باستهداف تركيا، عبر الورقة الكردية في الداخل والشمال السوري، فضلاً عن التسريبات الحكومية بعلاقة خاصة تربط جماعة فتح الله جولن Fethullah Gülen المتهمة بتأسيس تنظيم سري للسيطرة على الحكم في البلاد بتل أبيب.

• تراجع حاجة تركيا لـ”إسرائيل“ في مجالات الصناعات الدفاعية واستيراد الأسلحة، بعد أن نوعت مصادر استيرادها للأسلحة، فضلاً عن قطعها أشواطاً مهمة —ما زال أمامها الكثير— في الصناعات المحلية في مجال السلاح.

• غياب إجماع إسرائيلي داخلي على ملف المصالحة مع تركيا، وصعوبة تسويق نتنياهو اتفاقاً مع أنقرة لشركائه في الائتلاف الحكومي اليميني.

• تكرر فشل جولات المباحثات السابقة، ونشوء حالة من عدم الثقة لدى الجانبين في نوايا الطرف الآخر.

• تحفظ مصر على التقارب بين ”إسرائيل“ وتركيا، وفق ما تسرب من أخبار في الإعلام الإسرائيلي، وعدم رغبة تل أبيب بإثارة حفيظة القاهرة من أجل اتفاق غير مضمون الإبرام مع أنقرة .

• مواقف تركيا من الثورات العربية وقضايا المنطقة التي لم تتغير في خطوطها العامة، وما زالت تتعارض مع رؤية ومصالح تل أبيب.

• تعرف ”إسرائيل“ أن أيّ اتفاق لإعادة العلاقات مع تركيا لا يضمن لها بالضرورة تحجيم العلاقة بين الأخيرة وحركة حماس، وأنها لا تقدر على إجبار أنقرة على ذلك، وهو شعور غذّته بعض الرسائل المتضمنة دعوة الأخيرة لرئيس المكتب السياسي لحماس خالد مشعل في ذروة الحديث عن المصالحة المرتقبة بين الطرفين .

رابعاً: السيناريوهات المحتملة:

بالنظر إلى كل ما سبق، قد يبدو أن الاحتمالات النظرية لشكل العلاقات الثنائية بين الجانبين عديدة ومتنوعة، بينما يمكن استبعاد بعض السيناريوهات بنظرة واقعية – عملية. فلا ترى هذه الورقة أن سيناريوهات مثل تطبيع العلاقات بين الطرفين بتقديم أحدهما تنازلاً كاملاً للآخر (كسر تام للحصار، أو تخل كامل عن هذا الشرط)، أو تأزم العلاقات بين الجانبين بشكل كبير يصل لدرجة انهيار المباحثات تماماً وعدم العودة إليها مطلقاً، أو بقاء الحال كما هو عليه بلا أفق للحل بين الطرفين، لا ترى أنها سيناريوهات وافرة الحظ عملياً. ولذا يقتصر هذا البحث على سيناريوهين اثنين ممكنـَي الحدوث ووافرَي الحظ واقعياً:

1. السيناريو الأول، بلورة اتفاق ما بين الطرفين: يُجسِّر الهوة بينهما ويعيد العلاقات الديبلوماسية إلى سابق عهدها، وهو السيناريو المرجح برأينا (إذا ما بقيت البيئة الإقليمية والدولية على حالها)، بغض النظر عن تحققه قريباً أو على المدى المتوسط. وفق هذا السيناريو سيستطيع الوفدان المختصان من الطرفين الاتفاق على حلّ وسط بين كسر الحصار التام أو التخلي عنه بشكل كامل، لا يمس خطوط ”إسرائيل“ الحمراء المتعلقة باستفادة قوى المقاومة الفلسطينية من كسر الحصار، ولكن أيضاً لا يحرم تركيا تماماً من تسويقه على أنه “كسر” أو “تخفيف” للحصار المفروض على القطاع منذ سنوات.

هذا الحل الوسط قد يكون ممراً بحرياً تركيا أو عالمياً نحو قطاع غزة لإدخال المواد الأساسية (برقابة دولية)، أو “وضع خاص” يعطى للسفن ومؤسسات المجتمع المدني التركية للدخول إلى غزة، فضلاً عن تسهيل إعادة الإعمار، وهو ما يعني أن الاتفاق سيكون مرضياً عنه مصرياً في الحد الأدنى، أو سيكون ضمن اتفاق إقليمي أوسع (يشمل تحسن العلاقات التركية – المصرية) في الحد الأقصى. بيد أن هذا السيناريو لا يعني بالضرورة عودة العلاقات التركية – الإسرائيلية إلى حالة التحالف الاستراتيجي التي عرفها الجانبان في تسعينيات القرن الماضي. ذلك أن حجم المتغيرات على طرفَي المعادلة كبير جداً، فلا تركيا اليوم هي تركيا الأمس ولا حاجتها لـ”إسرائيل“ هي الحاجة نفسها، ولا يمكن تصور عودة التعاون الاستخباري —مثلاً— بين الطرفين لحالة التبعية التي كانت تعاني منها تركيا سابقاً. الأرجح، في هذا السياق، هو عودة التمثيل الديبلوماسي وتطور العلاقات الاقتصادية في قطاعي التجارة البينية والسياحة، والتعاون تحت أطر المنظمات الدولية، وخصوصاً حلف الناتو، في القضايا ذات الاهتمام المشترك، لكن باحتفاظ كل طرف برؤيته وأولوياته بل وهواجسه من الطرف الآخر.

أخيراً، لا يتوقع أن ينعكس هذا السيناريو بشكل كارثي على الطرف الفلسطيني، وخصوصاً حركة حماس. فالعلاقة بين تركيا والحركة ليست مبنية بشكل كامل على الخلاف التركي – الإسرائيلي، ولذلك فليس من المتوقع أن تتبدل بنسبة 180 درجة لدى عودة العلاقات. فالعلاقات التركية – الفلسطينية والتركية – “الحمساوية” تسير وفق أطر ومحددات عدة، منها التاريخي والسياسي والديني والمبدئي والمصلحي، ولا يمكن لها أن تنقلب رأساً على عقب بمجرد عودة العلاقات بين الطرفين.

2. السيناريو الثاني، فشل المحادثات بين الجانبين: في انتظار تطورات محلية و/أو إقليمية تعيد فتح الملف وتُجلس الطرفين إلى الطاولة مرة أخرى في محاولة جديدة للتقارب، قد تكون أوفر حظاً من الجولة الحالية. هذا السيناريو الأقل حظاً من سابقه يعني أن العوامل المحفزة الكثيرة التي سبق ذكرها لم تكن كافية لتجاوز الجانبين العقبات الماثلة في الطريق، أو أن المهددات المشتركة لم تسعفهما لجسر أزمة الثقة بينهما، أو أن المشهد الداخلي على طرفي المعادلة ما زال أقوى من المحفزات الإقليمية.

وعليه، سيبقى الوضع، وفق هذا السيناريو، كما هو عليه الآن: استعداد مبدئي من الجانبين للتصالح، وإرادة متبادلة بإنهاء القطيعة، وشروط تركية ماثلة وإن بدت اليوم أكثر مرونة من ذي قبل، وتشوُّف إسرائيلي لأي حلّ يمكن تسويقه في الداخل على أنه لم “يكسر” الحصار عن “القطاع المتمرد” الذي يؤوي “المخربين”.

بيد أن فشل هذه الجولة لا يعني أن الجانبين سيعودان لنقطة الصفر مرة أخرى، فالسياقات المذكورة آنفاً، إضافة لاتفاق الطرفين على النقاط المتعلقة بهما —حصار غزة يخص طرفاً ثالثاً في نهاية المطاف— حتى الآن، فضلاً عن ثبات بل وتطور عدد من المخاطر المشتركة، كلها عوامل تعني أن التعاون في الحد الأدنى بينهما سيظل قائماً بغض النظر عن التمثيل الديبلوماسي بينهما، دون أن ننسى أن العلاقات الاقتصادية في نمو مستمر ويتوقع أن تزداد سرعة نموها بعد الأجواء الإيجابية التي عكسها الطرفان.

أخيراً، ومن جهة أخرى، فإن تأجيل إبرام الاتفاق بسبب فشل هذه الجولة من المباحثات لا يعني أيضاً بالضرورة أن تجاوز أنقرة لبعض الخطوط والسقوف في علاقاتها الفلسطينية و”الحمساوية” سيستمر بالشكل نفسه والوتيرة نفسها، ولا أن “الامتيازات” التي حصلت عليها حماس تحديداً غير قابلة للتراجع. فرغبة الطرفين في تحسين العلاقات تتطلب إجراءات بناء ثقة من الجانبين، وقد يمسُّ ذلك العلاقة مع حماس لتدفع فواتير بعض هذه الإجراءات بالنسبة للطرف التركي، فضلاً عن أن العلاقة مع الأخيرة تستجلب ضغوطاً على أنقرة من حلفائها الآخرين وفي مقدمتهم الولايات المتحدة، دون أن نغفل أن بعض هذه “الإجراءات” قد تمّ بالفعل على مدى الشهور السابقة إما كمبادرة من طرف حماس أو على شكل “رجاء” وتنسيق بين أنقرة والحركة، ومن ذلك مغادرة بعض قياداتها الأراضي التركية بُعيد انتخابات حزيران/ يونيو 2015.

خلاصة:

بعد أكثر من خمسة أعوام من القطيعة الديبلوماسية بين تركيا و”إسرائيل“، يبدو الطرفان أقرب من أيّ وقت مضى لجسر هوة العلاقات بينهما وإعادتها لوضعها الطبيعي، تأثراً بعوامل وسياقات عدة محلية وإقليمية. الأجواء الإيجابية التي عبر عنها الطرفان، وخاصة التركي، تعكس بالضرورة التقدم الحاصل في هذه المباحثات بالقدر نفسه الذي تعكس فيه رغبة الجانبين وحاجتهما لهذا التقارب.

ولئن رجحت هذه الورقة سيناريو تطبيع العلاقات وعودة التمثيل الديبلوماسي بينهما، إلا أن حجم المتغيرات خصوصاً لدى الطرف التركي لا ينبئ بتحالف استراتيجي قديم متجدد بينهما بقدر ما يخدم اتفاق الضرورة في ظلّ الظروف المستجدة. كما أن عدم اتفاق الطرفين على كامل تفاصيل الاتفاق لا يعني بأنه غير وارد أو وشيك، بقدر ما يعني أنه يحتاج لمزيد من الإنضاج على نار المتغيرات على جانبي طاولة التفاوض.

وفي كل الأحوال، فسواء أشَهدنا اتفاقاً يعيد العلاقات بين الطرفين أم تأجل ذلك إلى حين، فإن حداً أدنى من التعاون لا شكّ موجود بفعل انضواء الطرفين تحت المظلة نفسها في بعض الملفات الإقليمية، وهو ما يعني مرة أخرى أن تركيا 2016 ليست أبداً تركيا 2011.

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!