فاتح ألطايلي – صحيفة خبر ترك – ترجمة وتحرير ترك برس

إنّ استياء بعض شرائح المجتمع التركي من سير عمليّة المصالحة التي تشرف عليها الحكومة التركية وبالتّنسيق مع زعيم حزب العمّال الكردستاني عبد الله أوجلان، حقيقة لا يمكن لأحد إنكارها.

فجلوس الحكومة على طاولة المفاوضات مع هذا الشّخص الذي أهدر دماء أبناء هذا الشّعب على مدى ثلاثين عاما، من الصّعب تقبّله من قبل الشعب التركي.

لذلك يجب علينا أن ننظر إلى تجارب المجتمعات التي مرّت بمثل هذه المحن لفهم أحاسيسهم وآلامهم. والذي أقصده بهذا. أنّه علينا أن ننظر إلى التّجربة الإنكليزية وكيف جلسوا مع الجيش الإيرلندي القومي على طاولة المفاوضات وخرجوا منها بنتائج إيجابيّة.

فالحروب التي دارت بين إنكلترا والإيرلنديين كانت أشدّ وأطول من الحروب التي جرت بين الدّولة التركية والمتمرّدين الأكراد.

الجيش القومي الإيرلندي تأسّس عام 1919 لتخليص الإيرلنديّين من حكم الإنكليز آنذاك. وهذا يعني أن الإنكليز تعرّفوا على الإرهاب الدّيني والعرقي منذ ما يقارب المئة عام. وما إن مضى عامان على الإرهاب الإيرلندي ضدّ الإنكليز، حتّى قام "لويد جورج" بعقد اجتماع مع الممثّلين الإيرلنديّين في مقرّ مجلس العموم البريطاني عام 1921. وبعد أن باءت المفاوضات بالفشل، بدأت بين الطّرفين مرحلة جديدة من الصّراع المسلّح الذي استمرّ لفترة طويلة.

استمرّ الصّراع بين الطّرفين حتى عام 1997. حيث عقد رئيس الحكومة البريطاني "توني بلير" جلسة مباحثات جديدة مع زعيم إيرلندا "كيري آدمس" وزعيم الحزب الإيرلندي الجمهوري "مارتن ماك غينيس".

خلال هذه المفاوضات، ضمّت اللجنة الإنكليزية اسم "جوناثان باول" الذي فقد والده عام 1940 على يد الإيرلنديّين. ولذلك كان يخلط حساباته الشّخصيّة أيضاً في المفاوضات. حيث قال باول العبارات التالية عن هذا اللقاء "كان من الصّعب عليّ ان أتقاسم نفس الغرفة مع "آدمز" و"مارتن ماك غينيس" اللذان تلطخت أيديهما بدم والدي. كنت أفكر كيف سأتمالك أعصابي عند مصافحتهما. كيف سأنظر إلى وجهيهما".

انعقد اللقاء الأول بين الوفدين الإيرلندي والإنكليزي في ظل أجواء مشحونة ومضطربة. حتى أنّ الشجرة المزيّنة التي خصّصت من أجل الاحتفال بعيد الكريسماس، تمّ تغيير مكانها. لا سيما أن اللقاء انعقد قبل هذا العيد بخمسة أيّام. وقد عبّر باول عن هذا بقوله "أردنا أن لا نسمح للصحفيّين بالتقاط صور الإرهابيّين أمام شجرة العيد. لذلك قمنا بتغيير مكان الشجرة التي كانت أمام مقر مجلس العموم البريطاني".

وبعد الانتهاء من الجولة الأولى للمفاوضات بعدة أيام، رنّ هاتف باول. وإذ بزعيم إيرلندا يطلب من باول اللقاء معه وجها لوجه.

وبناءً على هذا الطّلب استقلّ باول طائرة بريطانيّة وذهب مسرعا إلى إيرلندا. حيث استقبله عنصران من عناصر الزّعيم الإيرلندي واقتادوه إلى المكان السرّي الذي سيتمّ فيه اللقاء.

عندما دخل ماك غينيس الغرفة السّرية، اعتذر من باول لطريقة الاستقبال وصرّح بأنّ التّدابير الأمنيّة استدعت ذلك. حيث جلس الشّخصان على الطاولة وبدأ الحوار بينهما.

وبعد نقاشات مطوّلة، توصّلا إلى حل لمشكلة الإرهاب على الرغم من أنّ الحل الذي توصّلا إليه لم يرضي الطّرفين. لكنّهما تمكّنا من إنهاء الإرهاب.

وعن تلك المرحلة قال باول:

"إن الحكومات والقوى المشروعة، عادةً ما تؤجل المفاوضات مع الجماعات المسلّحة. ونتيجة هذا التّأجيل يفقد الكثيرون أرواحهم. وقد اعترف الجنرال "بيتريوس (قائد الجيش الأمريكي)" بهذه الحقيقة أثناء أحداث العراق. حيث قال هذا الجنرال بأنّهم لم يرغبوا بالتّفاوض مع من تلطخت أيديهم بدماء الجنود الأمريكان وقمنا بتأجيل المفاوضات مراراً لأنّنا وجدنا خطورة في اللقاء مع هؤلاء. إلّا أنّنا أدركنا فيما بعد، أن الخطورة الأكبر هي الامتناع عن المفاوضات".

وفي هذا الصّدد أيضاً تابع باول قائلاً: "إنّ الحكومات تدرك بعد صراع طويل، أنّ الحل العسكري لن يجدي نفعا مع الجماعات المسلّحة. لكنّهم يفضّلون دائماً الخيار العسكري في قمع هذه الجماعات. يظنّون أنّهم سيتغلّبون على الإرهابيين. لكنّ الإرهابيّين وإن غُلِبوا، فهم لا يتقبّلون الهزيمة".

وفي مستهلّ هذا الحديث أيضا يقول باول: "إنّ مهمّة الحكومات صعبة جداً أمام تحدّيات الإرهاب. لأنّ الحكومات تتغيّير بين فترة وأخرى في الأنظمة الديمقراطية. بينما قيادات الجماعات الإرهابية لا تتغيّر أبداً. فهذه القيادات تظلّ محتفظة بسلطتها وتكتسب المزيد من الخبرة مع مرور الزّمن. فهم يتعلّمون أدق تفاصيل القيادة. لا سيما أنّ السلطة البريطانيّة تغيّرت ثمانية مرّات. في حين أنّ القيادة الإيرلنديّة لم تتغير أبداً خلال تلك الفترة".

والنّقطة الأهم في حديث باول هي التّالي: "إنّ جلوس الحكومات مع الجماعات الإرهابية على طاولة المفاوضات يُكسِب هذه الجماعات المشروعيّة القانونيّة. هذا صحيح. فالجماعات الإرهابية تحاول المحافظة على هذه المشروعية. لكنّ هذه المشروعيّة تبقى بلا قيمة وتعدّ آنيّة ولا بدّ أن تزول بعد مدة معيّنة. فالجماعات الإرهابية تفقد صبغتها الشّرعيّة بمجرّد انتهاء المفاوضات بالفشل وتعود لتمارس نشاطاتها الإرهابيّة من جديد. فعلى سبيل المثال، نجد أنّ تنظيم (FARC) الإرهابي فقد كل مشروعيّته بعد أن اعتزل المفاوضات في كولومبيا".

نستنتج من كل ما سبق أنّ المرحلة الأولى هي من أصعب المراحل في المفاوضات مع الإرهابيّين. حيث يتمّ تأسيس الثّقة في هذه المرحلة. فإن تجاوز الأطراف هذه المرحلة بنجاح، فالمراحل القادمة تكون هيّنة وسهلة.

ربّما يتساءل البعض لماذا سردت هذه القصّة. ففي الأمس تلقّينا خبر استشهاد ثلاثة من جنودنا. لم أستغرب أبداً. لأنّني كنت أتوقّع من البداية أنّ هناك أطرافا سيعملون ما بوسعهم من أجل إفشال عملية المصالحة الوطنية. ولربّما لو اتّبعت الحكومة التركية سياسة خارجية ناجحة، لمَا حصل ما حصل بالأمس. لكنّني بنفس الوقت أؤيد سعي الحكومة التركية في البحث عن وسائل تدفع بعمليّة المصالحة إلى الأمام.

فإن تخلّت تركيا عن مسألة المصالحة الوطنيّة بعد كل هذه الأشواط، فإنّ هذا التّخلّي سيقود البلاد إلى محرقة يصعب على الجميع النّجاة منها.

عن الكاتب

فاتح ألطايلي

كاتب في صحيفة خبر ترك


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس