احسان الفقيه - خاص ترك برس

"أما بعد، فقد أرسلنا هذا الكتاب مبشرًا بما رزق الله لنا في هذه السنة من الفتوح التي لا عين رأت ولا أذن سمعت، وهي تسخير البلدة المشهورة بالقسطنطينية، فالمأمول من مقر عزكم الشريفة أن يبشر بقدوم هذه المسرة العظمى والموهبة الكبرى، مع سكان الحرمين الشريفين، والعلماء والسادات المهتدين، والزهاد والعباد الصالحين".

 تلك هي رسالة السلطان العثماني محمد بن مراد الثاني إلى شريف مكة، يهنئه فيها بتحقيق بشارة النبي صلى الله عليه وسلم بفتح القسطنطينية، فيأتيه الجواب محملا بالتهاني والتبريكات من شريف مكة:

"وفتحناها بكمال الأدب، وقرأناها مقابل الكعبة المعظمة بين أهل الحجاز وأبناء العرب فرأينا فيها من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين، وشاهدنا من فحاويها ظهور معجزة رسول الله خاتم النبيين وماهي إلا فتح "القسطنطينية" العظمى وتوابعها التي متانة حصنها مشهورة بين الأنام، وحصانة سورها معروفة عند الخواص والعوام وحمدنا الله بتيسير ذلك الأمر العسير وتحصيل ذلك المهم الخطير، وبششنا ذلك غاية البشاشة، وابتهجنا من إحياء مراسم آبائكم العظام والسلوك مسالك أجدادكم الكرام".

وأما في القاهرة، فيصف ابن إياس في كتابه بدائع الزهور، بهجة المصريين بهذا الفتح فيقول: "وفيه وصل قاصد ملك الروم محمد بن عثمان يخبر السلطان بفتح القسطنطينية العظمى، وقد صنع المكائد في فتحها، وكان الفتح منها في يوم الثلاثاء، في العشرين من جمادى الأولى من هذه السنة، فلما بلغ ذلك، دقت البشائر بالقلعة، ونودي في القاهرة بالزينة، ثم أن السلطان عين يرشباي أمير آخور ثاني رسولاً إلى ابن عثمان يهنئه بهذا الفتح".

بشرى تحقيق وعد النبي صلى الله عليه وسلم وحلم المسلمين منذ العهد النبوي بفتح القسطنطينية، جمعت قلوب العرب والأتراك معا، كما جمعتهم راية الإسلام، وهكذا كانوا.

علاقات ضربت جذورها في الحضارة الإسلامية بين العربي والتركي، وبعدما حملت الجزيرة العربية مشعل الرسالة إلى العالمين، استضاءت بها الأجناس والأعراق، كان من بينها الأتراك، عندما عبر قتيبة بن مسلم نهر جيحون، وتحولت الترك من مواجهة العرب إلى الانصهار معهم في بوتقة الإسلام.

وكانت لغة العرب لغة القرآن، هي جسر العبور التركي إلى الوطن العربي، وخرج الأتراك بالإسلام ولغته من حصار القومية إلى العالمية.

لقد اعتمد الأتراك اللغة العربية قبل نشأة الإمبراطورية العثمانية، يقول المؤرخ التركي يلماز أوزتونا في كتابه  "تاريخ الدولة العثمانية" عن سلالة "القرة خانيون" التي اعتنقت الإسلام في القرن التاسع الميلادي: "ترك القرة خانيون اللغة الأويغرية، وبدءوا بكتابة التركية بالأحرف العربية، وبذلك بدأت دورة دامت ألف عام في كتابة اللغة التركية بالأحرف العربية".

مائة وخمسون مليون وثيقة، هي ما يحويه الأرشيف العثماني الذي يعد ثالث أكبر أرشيف في العالم من حيث عدد الوثائق، وضمن حوالي 50% من وثائق الأرشيف الهائل - وهي ما تم تصنيفه – تنسج كل وثيقة حكاية في علاقة الأتراك بالعرب.

كتاب ديوان لغات الترك لمؤلفه التركي محمود الكاشغري عام 466هـ، والذي عرّف العرب بصورة موسوعية بلغة وثقافة الترك، يكشف علاقة الأتراك بالعربية حتى أثناء وجودهم في آسيا الوسطى موطنهم الأصلي، ويدل على أن لغة العرب مثّلت أحد أحجار الزاوية في المكون الثقافي لهم،  وارتبطت عقائديا بالضمير الجمعي التركي، وأقبل مفكرو وعلماء الدولة العثمانية على إتقانها من خلال الدراسة المباشرة للقرآن وعلوم الدين، وعبر ترجمة الكتب العربية الإسلامية، ووفود العلماء العرب إلى مدن الإمبراطورية، وانتقال العلماء الأتراك إلى البلدان العربية.

كان العرب في عصور الضعف يلتمسون قوة إسلامية تجمع الشتات، وتلم الشمل الإسلامي الذي تبعثر على مائدة المؤامرات والدسائس وخيانة الولاة والعمالة للشرق والغرب، فما إن لاحت هذه القوة الناشئة التي ترفع راية إسلامية، حتى وجد الكثيرون ارتياحا للدخول تحتها.

يقول الدكتور محمد حرب في كتابه "العثمانيون في التاريخ والحضارة": "قال يانسكي في كتابه عن السلطان سليم الأول، إن علماء مصر كانوا يراسلون السلطان سليم الأول منذ بداية توليه عرش بلاده، لكي يقدم إلى مصر على رأس جيشه، ليستولي عليها ويطرد منها الجراكسة".

حمى العثمانيون بلاد العرب من أخطار كادت أن تفتك بها، حيث سعى البرتغاليون لدخول البحر الأحمر والتوغل في إقليم الحجاز واحتلال ميناء جدة، والانطلاق بعدها لاقتحام المسجد الحرام وهدم الكعبة ونبش قبر النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة، ثم التوجه بعد ذلك للاستيلاء على بيت المقدس، لتكون المقدسات الإسلامية في حوزتهم.

وقد تم إحباط محاولتين للسفن البرتغالية في اجتياح ميناء جدة، كانت الأولى منهما عام 923ه الموافق 1517م، والثانية بعدها بثلاثة أعوام  (926هـ / 1520م).

وتقدم العثمانيون لإنقاذ عرب شمال إفريقية في الصراع الصليبي الذي احتدم بينهم وبين الإسبانيين والبرتغاليين الذين أرادوا احتلال هذه الأقاليم وتحويل سكانها إلى المسيحية.

كما تصدت الدولة العثمانية للسفن الصليبية التي كان تغير على موانئ مصر والشام، وعملت على تصفية الجيوب والقواعد الصليبية.

وكان من أبرز الأخطار التي دفعتها الدولة العثمانية، خطر الدولة الصفوية الشيعية التي كادت تلتهم المنطقة، وكسرت شوكة دولتهم في عهد السلطان سليم الأول في معركة جالديران عام 1514م.

ومنذ ذلك العهد، بقيت جغرافيا الوطن العربي تحت الهيمنة العثمانية، التي أولت الجزيرة العربية وخاصة الحرمين اهتماما خاصا، ولقب سليم الأول نفسه بحامي حمى الحرمين الشريفين.

يقول أكمل الدين إحسان أوغلي في كتاب "الدولة العثمانية تاريخ وحضارة": "كانت فكرة الخلافة قد اكتسبت مغزى جديدا عند العثمانيين، تجلى في تأمين طرق الحج، وحماية الأماكن المقدسة، والدفاع عن الإسلام والمسلمين، ووضعهم تحت شمسية الحماية".

وفي فترة من فترات الضعف الذي دب في جسد الدولة العلية، تنامت النعرات القومية بين العرب والأتراك، واحتضنت الدول الأوروبية الاتجاه المناهض للخلافة العثمانية الإسلامية، ودعمت المؤرخين والمفكرين في مصر والشام في تأصيل الإطار القومي وتعميقه، أمثال جورجي زيدان وأديب إسحاق وسليم نقاش وفرح أنطوان وغيرهم، وذلك بعدما فشلت الصهيونية في الضغط على السلطان عبد الحميد للسماح لهم بتكوين وطن قومي في فلسطين، وفي وقت حاول فيه جمع العالم الإسلامي والعربي تحت لواء الجامعة الإسلامية.

لم ينعزل الأتراك عن العرب إلا بعد سقوط الخلافة العثمانية وإعلان الجمهورية التركية عام 1923، ساعتها يمّمت تركيا وجهها شطر الغرب، وحدثت الفجوة الكبرى بين الطرفين.

فالعرب يرون أن الجمهورية التركية قامت على جثمان الخلافة وأجهزت على ما تبقى من حلم المسلمين في وجود راية واحدة تجمعهم، ومن جهة أخرى فإن النظام التركي العلماني يرى أن صياغة الإنسان التركي الجديد يستلزم التقارب مع الغرب، وقطع الطريق أمام النظر إلى التراث، والذي يعد العرب جزءًا أساسا فيه.

تعرض العثمانيون الأتراك لظلم بيّن، حيث صورتهم مناهج التعليم في الوطن العربي التي وضعت بأقلام قومية، على أنهم غزاة محتلون، علما بأن العرب كانوا يطلقون على القوات العثمانية الموجودة في أراضيهم بالحامية العثمانية وليس الاحتلال العثماني.

وفي المقابل، تعرض العرب للظلم بسبب هذه النعرات القومية، واتهموا بأنهم خانوا الدولة العثمانية وكانوا سببا في إسقاط الخلافة، والحقيقة المؤكدة أن الحركات الانفصالية التي قامت ضد الأتراك لم تكن تعبر عن اتجاه عربي عام، وعن هذه الحركات يقول الدكتور عبد العزيز الشناوي في كتابه "الدولة العثمانية دولة إسلامية مفترى عليها" :

"من الخطأ وصفها بأنها حركات استقلالية أو انفصالية عن الدولة العثمانية، لأنها كانت حركات تزعمها أصحاب عصبيات أو قواد عسكريون أو زعماء دينيون من أتباع مذاهب دينية إسلامية استهدفوا منها الانفراد بشؤون الحكم والإدارة والمال، على أن تكون الولاية في الأعم الأغلب في نطاق الدولة العثمانية، ومن الأمثلة التي تساق في هذا الصدد على بعض هذه الحركات بشتى قياداتها: حركة علي بك الكبير في مصر، والنزاع بين قبائل الأكراد والباشوات العثمانيين في العراق، وكذلك الصراع بين الزيدية والدولة العثمانية في اليمن".

وفي الوقت نفسه فإن ما قام به الشريف حسين أمير مكة من تحريض القبائل على عصيان الدولة العثمانية والتحالف مع الإنجليز، لم يكن له أية قيمة كبيرة من الناحية العسكرية.

وكما يقول شاعر الإسلام محمد إقبال:

فرّقتهم مذاهب القول لكن       جميع الرأي مقصدٌ في الصميمِ

فمن آن لآخر، برز زعماء أتراك أرادوا الاتجاه بتركيا إلى أحضان العالم العربي الإسلامي، وهدم ذلك الحاجز بين الأتراك والعرب، كان أبرزهم الأستاذ نجم الدين أربكان رحمه الله الذي كان يتزعم حزب الرفاه، ليحاول تعديل مسار العلاقات التركية العربية.

لقد كان أربكان ذا توجه إسلامي، وأدرك أن مجاله الحيوي هو بلاد الوطن العربي والشرق الأوسط، لتبدأ العلاقات التركية العربية في التحسن والانتعاش عل الخلفية الأيديولوجية التي تجمعهما.

فرأى نجم الدين أربكان ضرورة الوحدة مع العالم الإسلامي الذي يتصدره العرب، وهو ما بلوره في تأسيس مجموعة الثماني الإسلامية.

وفشل هذا التوجه وعادت عزلة تركيا مرة أخرى عن العالم العربي، إثر الانقلاب الذي أطاح بنجم الدين أربكان عام 1997، وأقصى رموز الحزب عن الحياة السياسية التركية.

ومنذ تولي حزب العدالة والتنمية زمام الأمور في تركيا عام 2002م، بدأت أبرز محطات التقارب العربي التركي، وصرح أردوغان بأنه ينوي إعادة بلاده إلى أحضان العالم العربي والإسلامي.

ظهرت أمارات هذا التوجه التركي بصورة واضحة إبان الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة في ديسمبر 2008 ويناير 2009، والذي أبرز التعاطف التركي تجاه القضية الفلسطينية.

وبرزت ملامح هذا التقارب والتعاطف عندما وجه أردوغان تلك الصفعة لـ شيمون بيريز خلال المنتدى الاقتصادي دافوس عام 2009، وكانت البوابة التي عبر منها الأتراك إلى قلوب العرب، خاصة بعد محاولة كسر الحصار عن قطاع غزة والتي شهدت حادث السفينة مرمرة، والذي ترتب عليه طرد السفير الإسرائيلي في تركيا وتأزم العلاقات بين الجانبين التركي والإسرائيلي.

ظهر هذا التقارب في الاهتمام العربي الجاد بقضايا الداخل التركي، ممثلا في الاستحقاقات الانتخابية التي يؤيد فيها العرب إخوانهم الأتراك كما لو كانوا بينهم، ليظهر أوج هذا الاهتمام في التفاعل المذهل لدى الشعوب العربية في رفض الانقلاب التركي الفاشل الذي كاد أن يعصف بالدولة في العام الماضي، وما تبع إخفاقه من بهجة عارمة سرت بين الشعوب العربية، ورسائل التهاني من معظم الحكومات العربية.

العالم العربي له موقع مركزي من سياسة الانفتاح التركي الجديدة على أساس المشتركات التاريخية والحضارية بين العرب والأتراك، وإن الآمال متعلقة بهذا التعاون والتفاهم في ظل الظروف الراهنة التي يُستهدف فيها الجانبان على السواء، ومن ثم فلا سبيل لمواجهة هذه الأزمات إلا بتحقيق مقاربة في شتى المجالات تتناسب مع حجم التحديات

عن الكاتب

احسان الفقيه

كاتبة أردنية


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس