د. مصطفى الستيتي - خاص ترك برس

عندما دخل العُثمانيّون إلى قطر عام 1871م بادر الشّيخ جاسم بن محمد بن ثاني إلى التّرحيب بهم ورفع الرّايات العثمانيّة على أرض قطر، وعلى الفَور تمّ تعيينه قائمقامًا على البلاد. وارتبط اسم قطر لوقتٍ طويل باسم الشّيخ جاسم، فقد ظلّ في هذه الوظيفة لمدّة تتجاوز الأربعين عامًا. وبعد وقتٍ قصير من ضمّ قطر إلى الأراضي العثمانيّة، وتحديدًا عام 1876م انتقلت السّلطة في اسطنبول إلى السّلطان عبد الحميد الثّاني المعروف بمناصرته لفكرة الوحدة الإسلامية، والذي مكَث في الحُكم حتّى انقلب عليه الاتّحاديون في بداية القرن العِشرين وغيّروا وجهة السّفينة من الشرق باتّجاه الغَرب.

لقد أدركت السّلطات العثمانيّة في اسطنبول بشكل جيّد منذ البداية حجم النّفوذ الذي يتمتّع به الشّيخ جاسم بين القبائل القطريّة، وعرفت كذلك حجم ثرائه بفضل تجارة اللؤلؤ التي كان يُسيطر على دواليبها بشكل كاملٍ تقريبًا ، كما فَهمت الحُكومة العثمانيّة إلى حدّ كبير طبيعة شخصيّة الشّيخ جاسم الذي وُصف بالشّجاع والعنيد وغير القَابل للابتزاز، والذي كانت له كذلك مُيولات واضحة نحو فكرة الوحدة الإسلاميّة والانتصار للخِلافة العثمانيّة.

وفي الحالات العصيبَة التي مرّت بها البلاد حاول قدر المستطاع أن يُبقي على صلته بالعثمانيّين وأن يتجنّب التّعامل مع الانكليز، وكان يُدرك تمامًا أنّ هدف الانكليز هو السّيطرة على المنطقة وإدخالها كلّها تحت حُكمهم وإرادتهم. وقد كان ينبّه السّلطات العثمانية لهذه المخَطّطات ويحذر مِنها. وفي عام 1893م وقعت حادثة الوجبة القَريبة من الدّوحة، وهي حادثة خطيرة اِشتبكت فيها القَبائل القطريّة مع الجُنود العثمانيّين وقُتل العَشرات من الطّرفين، وبعد انتهاء الحَادثة أرسل الشّيخ جاسم رسالة إلى السّلطان عبد الحميد الثاني بتاريخ 9 رمضان 1310هـ/ الموافق لــ27 مارس سنة 1893م يطلبُ فيها إجراء تحقيق في الموضوع، ويؤكد أنّ "أهالي قَطر من أطوع العَشاير المطِيعين للدّولة العليّة، وقد جَاءتنا وُلاّة ومُتصرّفيّة، اِسألُوهم عن طاعتنا للدّولة. وإن شاء الله إذا وَصل المأمور ليَظهر له صِدق قولِنا ونَدخل على الله وعلى وُكلاء أمير المؤمنين من أُمراء الدّولة العليّة، ونتوجّه بنُور وجهه الكريم أن لا تُؤاخذنا بغير الحقّ والعَدالة والإنصاف لأنّنا في ذمة الله ثمّ في ذمّته، وفي جِوار الله وجِوار مولانا أمير المؤمِنين".

أرسل السّلطان بالفعل لجنة تحقيق إلى عين المكان لكي يَعرف الحقيقة ومُلابسات المشكلة، وبحثت في الموضوع من جميع جَوانبه، ثم أعدّت تقريرًا يحمّل المسؤولية للوالي العُثماني الذي رأت اللّجنة أنّه أساء التّقدير والتّصرّف فصدر القَرارُ بعزله والإبقاء على الشّيخ جاسم في موقعه.  وفي الحقيقة كان يُمكن للشّيخ جاسم في هذه الظروف الصّعبة التي استمرّت نحو الشّهر أن يُؤثِر مَصلحته الخاصّة ويَستنجد بالقُوات الانكليزيّة، وهي التي كانت مرابطة في السّواحل وتترصّد الفُرصة للتدخّل والاستيلاء على المنطقة، بيد أنّ الأمر لم يكن كذلك، فقد أرسل الشّيخ جاسم وأهالي قطر بتاريخ 21 ذي القعدة سنة 1310هـــ/المُوافق لــ6 حزيران سنة 1893م رسالةً إلى السّلطان يعبّرُون فيها عن شُكرهم له لإحقاق الحقّ وتمسّك أهالي قطر بالولاء للدّولة العثمانيّة "فنرفعُ أكفّنا بصِدق الدّعاء والابتهال مُتبتّلين به في الغُدوّ والآصال بأن يُديم حضرة مولانا سُلطان الإسلام والمسلمين وأمين الأمّة المحمدية في العالمين أجمعين".  ورغم تقديم الشّيخ جاسم، بعد هذه الحادثة عدّة طلباتٍ لإعفائه من وظيفة القائمقام فإنّ السّلطات العُثمانيّة رفضت هذه الطّلبات وأصرّت على بقائه في مهمّته.

ومن الأمور التي تستحقّ التأمّل الكيفيّة التي تعامل بها الشّيخ جاسم مع مذهب الشّيخ محمد بن عبد الوهاب،  فقد تبنّاه منذ البِداية وبقي عليه طوال حياته، إلاّ أنّ تبنّيه له لم يُؤثر في علاقته بالعُثمانيين الذين كانوا يُعتبرون، من وجهة نظر "الوهابيّين" في نجد منحرِفين عن الحقّ خارجين عن الدّين. وحسب تتبعّنا لسيرته فلم يُؤثَر عنه أنّه كفّر العثمانيّين أو شكّك في دينهم وعقيدتهم أو حتّى ذكرهُم بسُوء، بل لقد عبر في مُناسبات كثيرة عن تمسكه بالعيش في ظلّ الخلافة الإسلامية العثمانيّة وظلّ سُلطانها سلطان المسلمين،  ووقف مناصرًا لهم بالمال عندما اقتضت الضّرورة ذلك، فعندما اندلعت حرب البَلقان عام 1912م وعلم أهالي قطر بأنّ نقيب الأشراف في البَصرة طالب بك كُلّف بجمع المساعدات الماليّة لمواجهة هذه الحَرب قرّر الشّيخ جاسم إرسال مبلغ قدره ألف وثمانمائة واثنين وثلاثين ليرةً عثمانيّة إلى البَصرة، ومن هناك يتمّ تحويلها عبر البنك العثماني إلى اسطنبول.

ومن الأخبار المهمّة التي نقلتها بعض الوَثائق العثمانيّة، والتي تُؤكد شدّة ولاء الشّيخ جاسم للعثمانيّين، وهو في آخر أيّام حياته رفضَه أيّة خيانة للعثمانيّين ووقوفه ضدّ أيّ تصرّف يُلحق الأذى بهم في المنطقة، فقد أوردت هذه الوثائق أنّ وفاته كانت بسبب تأثره الشّديد وصدمته من تهديدات عبد العَزيز بن سعود بشنّ هُجوم على قطر وطردِ الجُنود العثمانيّين من المنطقة، بلغته هذه الأنباء فاعتلّت صحته ثم توفّي بعد ذلك.

هذه بعض المحطات في علاقة قطر  بتركيا العُثمانيّة تمكّننا إلى حدّ ما من فهم وتفسير سرّ تميّز العلاقة بين البَلدين في الوقت الحالي، فالوَاقع لا يَنفصل عن التّاريخ، والتّاريخ له حضُوره القويّ في واقع العلاقات الدوليّة، وله ثقله مهما حاولنا التّقليل من شأنّ حضوره بل وسطوته في بعض الأحيان. صحيح أنّ الصّلة بين العرب والأتراك انقطعت لعقود بسبب السّياسة التي اتّبعها مؤسسو الجمهورية التّركية الحديثة، وولّت تُركيا وجهها لمدّة طويلة شطر  الغَرب وأعرضت تمامًا عن الشّرق وقضايا الشّرق، إلا أنّ بوصلتها تعدّلت إلى حدّ كبير مع السّياسة التي ينتهجها حزب العدالة والتّنمية منذ وصوله إلى الحكم عام 2002م، بينما واصل حُكّام قطر النّهج نفسه الذي سار عليه الآباء المؤسّسون. ومن جديد وجَد البَلدان نفسيهما متوافقين إلى حدّ كبير، وأحيانًا إلى حدّ التّطابق في كثير من قضايَا الأمّة وعلى رأسها قضيّة فلسطين ورفض الانقلابات ودعم ثَورات الرّبيع العربي.

مثلت العلاقات التّركية القطريّة اليوم نَموذجًا مُتكاملاً في مدى التّعاون والتّنسيق في شتّى المجالات السّياسيّة والاقتصاديّة والثّقافيّة وحتّى العسكريّة. وعند الحَديث عن التّنسيق وعن مدى التّقارب السّياسي بين الطّرفين ينبغي ألاّ ننسى الموقف القويّ والدّاعم لتركيا من قبل قطر إبّان محاولة الانقلاب الفَاشلة صيف عام 2016م، ثم وُقوفها معها بقوة إبّان ما سمّي بالانقلاب الاقتصادي بعد ذلك، كما نتذكر جيّدًا كيف تحرّكت تركيا وبشكل سريع وفوري لمنع أيّ تدخّل غير محسوب من قبل الدّول الأربع التي حاصرت قطر وضربت عليها طوقا برّيا وجويّا وبحريًّا مما مكّن من إفشاله ومنح قطر القُدرة على مقاومة هذا الحصار وتأسيس بدائل اقتصادية أخرى جعلتها تتعافى من هذا الحصار في وقتٍ قصير.

عندما نتحدث عن الحاضر بين البلدين يتعين علينَا أن نستحضر ذلك الماضي أيضًا، فهو حاضر وفاعلٌ في العلاقات الدّولية، والأمثلة على ذلك كثيرة خصوصًا فيما يتعلّق بالعلاقات التّركية العربيّة. ولو تأملنا جيّدً للاحظنا هذا الحُضور القوي للتّاريخ في الرّاهن وللماضي في الحاضر، وللذّاكرة في المخيّلة الجماعيّة اليوم. وقد نحتاج أن ندرس علاقة تركيا بكل دولة من الدّول العربية على حدة لنتبيّن هذا الصّدى القادم من عمق الماضي ليَفعل فعله في أحداث اليَوم.

عن الكاتب

د. مصطفى الستيتي

باحث متخصص في التاريخ العثماني.


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس