د. مصطفى الستيتي - خاص ترك برس

من المواقف المهمّة التي تجلّت فيها الأخوّة العربيّة التّركية أثناء الحرب العالميّة الأولى ذلك التّضامن الذي أبداه العرب من شرق البلاد العربيّة وغربها مع الأتراك العثمانيّين في حربهم المصيريّة والحاسمة في شَنق قلعة، والتي انتهت بانتصار العثمانيّين وهزيمة مدوّية للمعتدين الأوروبيين. فإلى جانب مشاركة متطوّعين من الشّام والعراق وطرابلس الغرب ومصر للقتال في هذه الحرب تشكّلت هيئة علميّة مكونة من علماء وأدباء وشعراء وصحفيّين وزارت اسطنبول للاطلاع عن قرب على الأحداث، وإبداء التّضامن مع الحكومة العثمانيّة في هذه الحرب. فكيف كانت أطوار هذه الرّحلة، ومن هم الأعضاء المشاركون فيها، وما هي انطباعات الوفد بعد انقضاء مهمّته في الآستانة؟ 

البعثة العلميّة: أعضاؤها ومهمّتها   

تعد معارك جنق قلعة وشبه جزيرة كليبولي عام 1915م من أخطر المعارك العالميّة البحريّة والبرّية، وقد اشتركت فيها القوى الكبرى مثل بريطانيا وإيطاليا وفرنسا بجيوشها المكوّنة من مواطنيها وأبناء المستعمرات مثل مصر والهند والسّنغال وغيرها. ‏واستشهد في تلك المعارك من الجيش العثماني أكثر من مئة ألف جندي، وسقط من الأعداء أكثر من مئة وخمسين ألف قتيل في البر والبحر على سواحل بحر إيجة، ومضيق الدّردنيـل في معـارك استمرتْ تـسعة أشهر.

وأثناء الحرب رأى أحمد جمال باشا ناظر البحريّة والقائد العام للجيش الرّابع العثماني المخيِّم في سورية أن يختار أناساً مأمونين من أهل الشّام لزيارة الغُزاة في جنق قلعة "لِيُبْصِروا بأعيُنِهم مَبْلَغَ حَوادثِ الانتصارات مِن الصِّدْقِ، حتى إذا رجعوا إلى قومهم، يصفون لهم ما شاهدوا، وليس بَعْدَ العيان من شاهدٍ... ويؤكّد للتُركِ عواطِفَ العربِ القديمة، وَهُمَا الشّعبان اللّذان حَمَيَاْ بيضةَ الخلافة يَداً بِيَدٍ مُنْذُ أوائِلِ الدّولة العباسية...".  

وقد تشكلت لهذا الغرض هيئة علميّة من بلادِ الشَّامِ سُمِّيَت "البِعْثَةُ العِلميّة إلى دارِ الخِلافةِ الإسلامِيّةِ"، وضَمَّت مجموعة من الأُدباء والعُلماء والمشايخ والشُّعراء والصحافِيّين.  وأعضاء هذه البعثة العلميّة هم على النّحو التالي: أبو الخير عابدين مفتي دمشق، ومعه: عبد المحسن الأسطواني، وعطا العجلاني، ومن حماة أحمد الكيلاني، ومن حمص توفيق الأتاسي، ومن حوران محمد الزّعل ومحمد الحلبي، ومن حلب المفتي محمد العبيسي، والشّيخ محمد بدر الدّين النّعساني، وعبد اللطيف خزنه دار، ومن اللاّذقية محاسن الأزهري، ومن عينتاب: المفتي عارف أفندي، ومن بيروت المفتي مصطفى نجا، ومن طرابلس الشّام الشّيخ عبد الكريم عويضة، ومن جبل لبنان الشّيخ عبد الغفار تقيّ الدّين، ومن القدس المفتي طاهر أبو السّعود، والشّيخ علي الرّيماوي، ومن عكّا الشيخ إبراهيم العكي، والشّيخ عبد الرّحمن عزيز، ومن حيفا المفتي محمد مراد، ومن يافا الشّيخ سليم اليعقوبي، ومن نابلس محمد رفعت تفاحة، وعبد الرّحمن الحاج إبراهيم.

واختار الجيش الرّابع العثماني لعضوية الوفدِ أيضاً حبيب العبيدي، والشّيخ تاج الدّين بدر الدّين، والشّيخ عبد القادر الخطيب، والشيخ أسعد الشّقيري مفتي الجيش الرّابع ورئيس مجلس التّدقيقات الشّرعية. ومعهم من أرباب الصُّحُف: حسين الحبال صاحب جريدة "أبابيل"، وعبد الباسط الأنسي صاحب جريدة "الإقبال"، ومحمد الباقر  صاحب جريدة "البلاغ"، ومحمد كرد علي صاحب جريدة "المقتبس".

وحسب ما جاء في الكتاب الذي أعدّه الصحفيّون الأربعة الذين شاركوا في البعثة بعد عودتهم إلى الشّام فإنّ هدف البعثة العلميّة يتمثل في ثلاثة أمور أساسيّة: أولها: "عرض إخلاصِ السّوريّين على سدّة الخلافة الإسلاميّة الكبرى"، وثانيها: "مُشاهدة عظمة الدّولة العليّة واستعدادها الحربيّ، وثالثها: "بثّ عواطف أهالي هذه البِلاد إلى إخوانهم الغُزاة المجاهِدين".  وهنا نود التنبيه إلى أمر مهمّ، فهذه المشاركة الواسعة في هذا الوفد من فئات مختلفة يدلّ على أنّ الجهود الجبّارة التي بذلها الإنكليز والفرنسيّون لتسميم العلاقات العربيّة التركيّة، ودقّ إسفين بين الشّعب التّركي والشّعب العربي لم تُثمر، بل أشعرت الشّعبين بالخطر أكثر فأكثر وقوّت اللّحمة أكثر بين الطّرفين. وكانت هذه البعثة خير تعبير على فشل المساعي للتّفريق بينهما. ففي هذه المرحلة المهمّة والخطيرة كان الانكليز يشجّعون الشّريف حسين أمير مكة على الانفصال عن الدولة العثمانيّة، وقدّموا له الوعود بتنصيبه ملكا  على العَرب إذا وقف إلى جانبهم. وإذا كانت مطامع الشّريف حسين في الحكم قد دَفعته إلى التّحالف مع الانكليز وإعلان العداء للأتراك العثمانيّين، فإنّ قسما كبيرًا من العرب لم يَقع في الفخّ الذي نُصب لهم ودعوا إلى صيانة وحدة الأمّة العربيّة التركيّة وإحباط الخطط الغربيّة الاستعماريّة بالمنطقة.

البعثة العلميّة تتوجّه إلى استانبول

اِنطلق أعضاء الوفد نحو حلب في 15 سبتمبر سنة 1915م، وتمّ انتخاب الشّيخ أسعد الشّقيري لرئاسة الوفد، وقد تخلّف اثنان عن الحضور هما مندوبُ الكركِ، ومندوبُ جبلِ عامل.  وغادر الوفدُ مدينة حلب ووصل إلى محطة قطارات حيدر باشا في الآستانة في  24 سبتمبر 1915م، فجرى لهم استقبال شعبيّ ورسْمِيّ بإشرافِ رجال الدّين والدّولة، وحظيت البعثة باستقبال السُّلطان محمد رشاد، ورجالِ الدِّين والدَّولة في جامع الحميديّة المجاور لقصر يلدز.

ثم تَوَجَّه أعضاءُ تلك البِعثة لزيارَة معالِمِ الآستانةِ ومتاحِفِها، ثم زاروا نظارَةَ الحربيّة العثمانيّة، والبابَ العالي، ونظارةَ البحريّةِ، ومراكِزَ المجهودِ الحربيّ، ومصانعَ الأسلحة والذخائر، وأُلْقِيَتْ بِتِلْكَ المناسبات الخطاباتُ والقصائدُ الشّعريّة. ثم انتقل أعضاء البعثة إلى ساحل "شبه جزيرة كليبولي" التّركية، ثم انتقلوا بالعربات إلى النّقاط العسكرية، وتبادلَ أعضاءُ الوفدِ الخطابات مع الضُّباطِ العُثمانيّينَ المرابطينَ في ميادينِ القتال، وقد قَضَى أعضاءُ البعثةِ مَع المجاهِدين فترَةَ عِيد الأضحى في الخَنادق. وزاروا المستشفيات الميدانيةَ وواسوا الجرحى، وشجّعوا الأطبّاء والممرضات.

كما زاروا مَيادينَ القِتالِ على سواحلِ شبه جزيرة "كليبولي" و"جنق قلعة"، واستقبلهم مصطفى كمال بك، وأركانُ حَرْبِهِ قادة الفرقَةِ العَسكريّة التي تتشكّلُ من مجاهدي ولاية حلب السّورية. وشاركوا ببعضِ المعارِكِ مع العدوّ الذي كان لا يَبْعُدُ عَنهُم مسافات قريبة، وأطلقوا الرّصاص، ورَمَوا القنابلَ نحوَ العدو الْمُعتدي، وكان هدفُهُم من ذلك رَفْعَ مَعنوياتِ العَسْكرِ العثمانيّين المجاهدين، ثم ركبوا الباخرةَ، وعادوا إلى الآستانة، ودوَّنَ بعضُ أعضاءِ الوفدِ مُذكَّراتهِمْ حَوْلَ زيارةِ ميادين الجهاد.

وبعد زيارةِ بعْضِ مَعالِمِ الآستانة المدنيّة والعسكرية، غادَرَ أعضاء الوفد الآستانة يوم الاثنين 2 تشرين الثّاني 1915م انطلاقاً من محطة قطارات "حيدر باشا" عائدين إلى بلادِ الشّام.

انطباعات الوفد عن الزّيارة

حظي الوفد الذي زار الآستانة باهتمام المسؤولين العثمانيّين  وعنايتهم، وأثنى الوفد على ما لمسوه من رجال الدّولة ومن السّياسيين والعلماء من حفاوة وحسن استقبال. واعتبر الوفد أنّ تلك المعاملة ليست غريبة باعتبار ما بين العُنصرين العربي والتركي من أواصر الأخوّة الضّاربة في أعماق التّاريخ، فهي أخوة صلبة ومتجذّرة. وقد عبّرت كلمات أحد الأتراك عمّا رآه وشهده بعينيه من حسن معاملة لهذا الوفد على النّحو التّالي: "إنّ ما عَاملت به الحُكومة وفدَكم العلميّ من ضُروب الإكرام والاحترام لا تُعامل بأكثر منه الأباطرة والقياصرة والملوك وزعماء الأمم إذا جاؤوا بلادها".

وقد اِعترف أعضاء البعثة بهذا الكَرم في التّعامل، "نعم لقد بذلت حكومتُنا الجهد لتوفّر لوفدنا رفاهيّته وراحته في حلّه ومرتحله، وتلطّفت في معاملته في دار الحرب، كما تلطّفت في دار الخلافة. لقينا من حضرة أمير المؤمنين الخليفة المعظّم وحضرة سموّ وليّ عهده الأفخم ونظارة الدّولة وغيرهم من الموظفين، على اختلاف درجاتهم وأعمالهم، حتّى من أصغر جنديّ في الحرب ما ترتاح له النّفس وتذكره بالإيجاب على توالي الأحقاب".

إكرام أعضاء هذا الوفد لم يكن فقط من قبل السّياسيين والعلماء والنّخب المثقّفة العثمانيّة، بل كذلك من قبل عامة النّاس في الشّارع العثماني، فـ"كانوا حيثما يُنقلون يصادفون أنواعًا من اللّطف والظّرف وتفنّن القَوم".

ويؤكد أعضاء الوفد على ضرورة أن يكون ثمة تواصل بين العرب والأتراك وأن يفهم بعضهم بعضا فهمًا صحيحًا  وأنّ "من أعظم القُصور أن لا يعرف أهل الوطن الوَاحد بعضهم بعضًا، ولا يدرك البعيد فضائل القريب، ولا ينفقُ الإنسان مما عنده، ويعلم أنّ الدّنيا تنتهي وراء حدود نظره وعقله".

ورغم المتاعب والمشاقّ التي تجشّمها أعضاء الوفد، إلاّ أنّهم كانوا سعداء بما رأوه من آثار الحضارة والتّقدم في دار السّعادة، وما لمسوه من حرارة العاطفة الإسلامية من الأتراك، ومن جمال تلك البلاد العظيمة "إن دار الخلافة جنّة أرضية لم يسعد الخالق بلدًا إسعاده له، ولولا تلك السّماحة والرّجاحة والصباحة في أهلها لرغب عن سكناها السّاكنون ولما خط بها حرفا الكاتبون".

ومما شدّ الوفد في طبيعة التّركي أنه يكنّ للعربي حبًّا شديدًا ويتعلّق بكل ما يصل يفد إليه من البلاد العربية "فالأتراك والعرب متشابهون، وتشهد في التركيّ صلاحًا فطريّا يقدّس كلّ ما يأتي من الحرمين، ولذلك يقدّس العرب ويحبّهم". "والتّركي في الأناضول يتبرّك بالعربي كما يرحّب العربي بالتّركي في بلاده، وكيف لا يتحابّان وقد تمازجت روحاهما منذ جمع الإسلام بينهما وآخى الوطن على عهد أوائل الدّولة العباسية، فالحبّ بينهما طويل متسلسل من الآباء للأحفاد".

ويعطي الوفد انطباعًا بأنّ ثمة حاجة ماسّة لكي يزيد التّواصل بين العرب والأتراك أكثر، وفي الكتاب الذي ألّفه الصّحفيون الأربعة بعد عودتهم من مهمّتهم في دار السّعادة دعوة لمزيد من التّمازج بين العنصرين العربي والتّركي لكي يذهب سوء التّفاهم بن الطّرفين في مرحلة دقيقة وحسّاسة من تاريخ الدّولة العثمانيّة. فقد نشطت الآلة السّياسية والدّعاية الإعلامية الغربيّة لبث الفرقة بين العرب والأتراك، وظهرت كتابات كثيرة في الصّحف الغربيّة تهدف إلى زرع الكراهية بين الطّرفين، وذلك من أجل تحقيق هدفٍ استراتيجي قديم وهو تمزيق أوصال الدّولة من خلال زرع فكرة القوميّة بين العرب، وتحريض القبائل العربية في العراق والشّام والحجاز وغيرها من المناطق على الثّورة ضدّ الوجود العثماني في تلك المناطق. وقد نجحت تلك المخطّطات في النّهاية بإعلان ما سُمي بالثّورة العربية الكُبرى التي قادها شريف مكّة عام 1916م، أسفرت في النهاية عن طرد الأتراك العثمانييّن من البلاد العربيّة ودقّ إسفين بين العرب والأتراك مازالت آثاره باقية حتى اليوم، رغم التّقارب الكبير الذي حصل بين الطّرفين.

عن الكاتب

د. مصطفى الستيتي

باحث متخصص في التاريخ العثماني.


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس