د. علي حسين باكير - القبس الإلكتروني

ما أن أزيل الحظر على إعلان النتائج حتى همّ بن علي يلديريم مرشّح حزب العدالة والتنمية بعقد مؤتمر صحافي أعلن فيه إقراره بهزيمته واحترامه لإرادة الناخبين في اسطنبول، مهنّئاً في الوقت عينه منافسه مرشّح تحالف المعارضة أكرم إمام أوغلو بالفوز، ومتمنيا له التوفيق والنجاح في مهامه الجديدة. المشهد كان استثنائياً، لأنّ الاتراك لم يضطروا الى الانتظار هذه المرّة الى منتصف الليل لمعرفة النتيجة. فبخلاف الجولة السابقة، لم تكن هناك منافسة كبيرة، وحسم إمام أوغلو المعركة لمصلحته بالضربة القاضية، رافعاً الفارق بينه وبين يلديريم من %0.1 قبل أقل من ثلاثة أشهر الى نحو %9، ليحصد ما يقرب من 4 ملايين و700 ألف صوت في مقابل نحو ثلاثة ملايين و900 ألف صوت ليلديريم.

رئيس الجمهورية رجب طيب أردوغان الذي أصر على حملة الإعادة مؤكّداً على دعمه لمرشح الحزب هنّأ هذه المرّة مرشّح المعارضة بفوزه، لافتاً الى أنّ «الإرادة الوطنية تجلّت مرة أخرى اليوم»، ومتمنياً أن تعود نتيجة انتخابات بلدية إسطنبول بالخير على المدينة. كذلك خرج قادة أحزاب المعارضة بكلمات تبارك لمرشحهم بالفوز، وأكّد إمام أوغلو انّ «انتخابات اليوم تعني فتح صفحة جديدة ومشتركة بالنسبة للجميع، صفحة تتضمن العدالة والمساواة والمحبة والتسامح»، مشيراً الى أنّ انتخابات إسطنبول حطمت الكثير من الأحكام المسبقة تجاه تركيا، ومؤكّداً أنّه لن يكون هناك تفرّد وإنما ستجري الاستفادة من الجميع. 

هزيمة «العدالة والتنمية»

انتهت عملية إعادة الانتخابات في إسطنبول، لكن تداعيات هذه النتيجة سيكون لها ما بعدها على السياسة التركية بالتأكيد.

يمكن إيجاز المشهد المعقّد بالقول إنّ المعارضة خاضت المعركة بصفوف موحّدة وبدافع قوي، خاصة انّ الجولة الأولى كانت قد زرعت في أنصارها الأمل بما كان يُعتقد لسنوات طويلة بأنّه غير ممكن - أي هزيمة حزب العدالة والتنمية - هذه الهزيمة حفّزت المعارضة على تكرار نفس الأسلوب، ونجحت في نهاية المطاف في حصد المزيد من الأصوات مقارنة بالجولة الاولى، وإن كنّا نحتاج لاحقاً الى البحث في النتائج الدقيقة لمعرفة أي من الشرائح الانتخابية بالضبط زاد من نسبة التصويت لمصلحة مرشّح المعارضة.

في المقابل، خاض حزب العدالة والتنمية المعركة بصفوف متضعضعة ومنقسمة على نفسها، وقد زادت هذه الانقسامات بُعيد نتائج الجولة الأولى وطريقة التعاطي معها والإصرار على إعادة الانتخابات. عامل آخر لعب دوره في هذه المعادلة أيضاً، إذ إنّ شريحة من قاعدة الحزب من المستائين من أدائه السياسي والاقتصادي وممّن لم يصوّتوا له في الجولة الأولى لم يعد لديهم حافز للتصويت ولا يريدون من الحزب أن يفهم أنّ أصواتهم مضمونة له فأصروا على ما يبدو على مواقفهم لمعاقبة الحزب مرّة أخرى، وربما ذهب بعضهم أبعد من ذلك للتصويت للمعارضة أيضاً. 

النتيجة تؤكّد مجدداً الاتجاه السائد أخيراً في ما يتعلّق بتراجع شعبية حزب العدالة والتنمية. الحزب يدخل الآن مرحلة خطيرة ليس لأنّه خسر الانتخابات البلدية في أغلبية المدن الكبرى وبفارق كبير في كثير منها كما حصل في إسطنبول وأنقرة وإزمير، بل لأنّ مشاكل الحزب الداخلية والخلافات بين أقطابه والانقسامات العمودية والأفقية تزداد فيه، كذلك الأمر بالنسبة لمشاكل الحزب السياسية والاقتصادية على وجه الخصوص في الحكم آخذة في الازدياد هي الأخرى من دون وجود أفق على ما يبدو لحلّها. هناك من يشعر بأنّ الحزب لم يعد الحزب نفسه الذي كان سائداً من قبل، وأنّ تغييرات كبيرة دخلت عليه في السنوات القليلة الماضية غيّرت من شكله ومضمونه وسياساته وهو ما أضر بالحزب بشكل غير مسبوق، لا سيما مع انسحاب عدد كبير من العناصر المؤثّرة والفاعلة فيه إما اعتراضا على هذا الوضع وإما إقصاء من قبل منافسيهم. 

اختبار للمعارضة 

نتائج الانتخابات ستدق ناقوس الخطر للحزب الحاكم من دون أدنى شك، لكنّها ستكون في نفس الوقت بمنزلة تحد غير مسبوق للمعارضة. المعارضة ستصبح في موقع المسؤولية في واحد من أهم المواقع الرسمية في الدولة التركية. إسطنبول مدينة يقطنها ما يزيد على 15 مليون نسمة، وصاحب هذا المنصب يجري انتخابه من الناس فيها بصورة مباشرة تماماً كما هو الحال بالنسبة الى رئيس الجمهورية، وبهذا المعنى فانّ له شرعية خاصة من الناس، وسيكون قيّماً على تقديم الخدمات لهم. 

فانّ نجح في مهمّته، نجحت المعارضة معه في تسويق نفسها وترتيب أوراقها، وقد يصبح الطريق معبّداً امامها لكي تكرر نفس أسلوب التحالف في الانتخابات البرلمانية القادمة، وهو ما سيشكّل خطراً كبيراً على حزب العدالة والتنمية بالفعل، ذلك أنّ أصوات انصار أحزاب المعارضة في عموم تركيا تشكّل الأغلبية، وسيكون من شبه المستحيل على حزب العدالة التغلب عليها مجتمعة. أمّا إذا فشلت المعارضة في اختبار إسطنبول، فستكون قد قدّمت لحزب العدالة والتنمية فرصة أخرى للعودة مجدداً. 

أداء إمام اوغلو الشخصي في إسطنبول مهم جداً كمقياس للمرحلة المقبلة. لقد نجح حتى الآن في اختبار الانتخابات مرّتين وحصل على ما يقرب من 4 ملايين و400 ألف صوت. اذا أثبت إمام أوغلو جدارته في مهمّته الرسمية خلال السنوات الأربع القادمة، فانّ ذلك سيرسّخ من موقعه حينها في السياسة التركية، وسيكون من الممكن حينها طرح اسمه كمنافس رئاسي في الانتخابات الرئاسية المقبلة بعد أربع سنوات. 

معسكر المعارضين

أخيراً، نتيجة انتخابات الإعادة هذه ستقوّي من دون شك من معسكر المعارضين داخل حزب العدالة والتنمية، سواء ممّن اعترضوا علناً على السياسة القائمة وحذروا منها ومن نتائجها على الحزب والدولة كما فعل رئيس الوزراء الأسبق أحمد داوود أوغلو، أو ممّن لم يعبّروا عن انتقاداتهم علناً بعد وكانوا ينتظرون ربما الفرصة المناسبة لفعل ذلك. كما ستعطي هذه النتائج حافزاً أكبر لمن جرى إقصاؤهم من الحزب أو تنحيتهم إما خوفاً من وزنهم أو خشية من منافستهم أو لمجرد الاختلاف في وجهات النظر لكي يتحرّكوا ويعلنوا عن خطواتهم القادمة إذا كانوا يحضّرون فعلاً لمثل هذه الخطوات. هذان المعسكران في توسّع منذ سنوات وستكون لديهما فرصة الان لكي يعبرا عن نفسيهما سياسياً من خلال حزب او أحزاب جديدة او من خلال تحالفات جديدة، وللمعسكر الثاني على وجه التحديد وزن مهم لأنّه يضم عدداً من مؤسسي حزب العدالة والتنمية ممّن يحظون بقاعدة شعبية ولا يمكن الاستهانة بهم. 

عن الكاتب

د. علي حسين باكير

مستشار سياسي - باحث في العلاقات الدولية والشؤون الاستراتيجية


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس