معاذ السراج - خاص ترك برس

بعد قرابة عقد من الزمان، ما تزال الثورات تتجدد في العديد من بلدان الشرق الأوسط، وما تزال مساراتها تتأرجح بين الإخفاق والنجاح، والتردد والإقدام، وبعضها دخل في دوامة من العنف والصراعات المسلحة، وبعضها الآخر لا زال في طور سجال سياسي مرير، يدفع إلى الاعتقاد بأن من المبكر الحديث عن نهاية قريبة محتملة، لأي من هذه الثورات، مع أن استمرارها بحد ذاته، يحمل الكثير من المؤشرات الإيجابية، ولو على المدى الطويل.

في التحليل النظري لما يحدث، يمكن القول بأن عوامل ذاتية، وأخرى خارجية، أثّرت على الثورات، وأن هذه العوامل والتداخلات الكبيرة فيما بينها، وضعتها أمام خيارات أحلاها مرٌّ، كما يقال، ومنعت عليها فرص النجاح، إلا أنها وبمقابل ذلك، أظهرت وعيًا عمليًا بالعديد من المشكلات الجوهرية التي تواجه شعوب المنطقة، تمثّل على سبيل المثال برفض الفئوية والطائفية، وحلول التجزئة والمحاصصة، وتمثل كذلك برفض التدخلات الخارجية إلخ، وقد أعادت ثورتا العراق ولبنان اليوم تجديد هذه الصورة، التي اتسمت بها الثورات كلها، وخاصة في بداياتها، ومن المؤكد أن هذا الأمر يصدق على ثورة الشعب الإيراني هو الآخر، ذلك أن بلدان المنطقة تشترك في الظروف الموضوعية ذاتها، وأن ذهنية ومخيلة شعوبها، تختزن ذات الأحاسيس والمشاعر تجاه المشكلات التي تواجه الجميع دون استثناء.

من ناحية أخرى، تجدر الإشارة هنا إلى جانب مهم يسلط الضوء على طبيعة القوى المضادة لثورات الربيع، وعلاقة ذلك بالتدخلات الخارجية التي تهدف في المحصلة إلى منع حدوث أي تغيير جوهري لا يضمن مصالح القوى الكبرى وأهدافها بعيدة المدى، ومع الإقرار بأن هذا العامل يضع المسألة برمتها في معادلة صعبة الحل، إلا أنه يؤكد في الوقت نفسه على الدوافع والأسباب التي أدت وتؤدي باستمرار إلى تآكل مصداقية هذه القوى، ويفسر حجم الغضب والكراهية، والرفض المتزايد، لتدخلاتها في المنطقة، ويذكر مجددًا، العلاقة الوثيقة للتاريخ السياسي للشرق الأوسط بالسياق العاطفي للمآسي السياسية المحسوسة أو الملحوظة أو المروية التي ولّدت هذا الكم من الغضب والكراهية، وتسببت أحيانًا بردود أفعال حادة، ما يقود إلى استنتاج أكيد بأن فهم ما يحدث في الشرق الأوسط لا يمكن يتم دون الأخذ بعين الاعتبار طبيعة النظام الدولي والقوى المهيمنة عليه، والتي ما زالت ترفض النظر إلى الحلول الحقيقية، قد تسمح وحدها بالخروج من حالة لا استقرار، والاستمرار في دوامة العنف، بأشكاله الأكثر فالأكثر دموية.

وهذا ما يعيد التأكيد على تساؤلات ما زالت تُطرح حول طبيعة الثورات وأهدافها ومآلاتها، من جهة، وعلاقاتها بمجمل الصراعات والحروب التي لم تتوقف في المنطقة طيلة العقود الأخيرة، والتي يبدو أنه من العسير فهمها وفهم دوافعها وخلفياتها بعيدًا عن التاريخ السياسي للمنطقة وظروف نشأتها وتكوينها على الصورة الراهنة قبل مائة عام.

ومن المعلوم أن تكوين الشرق الأوسط الحديث، كان مشروعًا أوربيًا بامتياز، قادته بريطانيا وفرنسا، من خلال تأسيس عشرات الكيانات السياسية على أنقاض الدولة العثمانية المنهارة، وفرض الانتدابات الاستعمارية عليها، وفق قرارات عصبة الأمم، تحت ذريعة تطوير هذه الكيانات ومساعدتها على النهوض وتحقيق الاستقلال، وقد رأى كثيرون أن هذا المشروع أتاح فرصة تاريخية لظهور عشرات الدول على الساحة السياسية، وفق النموذج الأوربي للدولة الحديثة، لكن شيئًا من ذلك لم يتحقق على الإطلاق، وبعد عقود مريرة، اتضح أن أكثر هذه الكيانات لم تكن سوى مشاريع دول فاشلة، أريد لها أن تكون هكذا، وهي في الواقع أكثر من تركة ثقيلة لها التاريخ المأساوي، والأهم من هذا هو أن هذه الذرائع لم تكن في الحقيقة سوى غطاء يخفي وراءه أهدافًا بعيدة تتعلق بتفتيت المنطقة وإنهاء دورها السياسي والحضاري إلى الأبد، وأن سياسة هذه الدول التي لم تتغير حتى اليوم، تؤكد بما لا يدع مجالًا للشك أنها لم تتخل في أي وقت عن تعهداتها الضمنية بالحفاظ على هذه "المكتسبات الاستراتيجية" المتمثلة في التجزئة والتفكيك السياسي والاجتماعي وإدامة العنف والصراعات الدموية، مهما كلف الأمر.

ولعل هذا ما يفسر المحاولات المتكررة لإعادة تشكيل المنطقة والتي لم تتوقف منذ تسعينات القرن العشرين، على وقع التطورات التي طرأت على مسرح السياسة الدولية، نتيجة تفكك الاتحاد السوفييتي وانتهاء الحرب الباردة، ونتيجة للعولمة والتطورات التكنولوجية الهائلة، من جهة أخرى، والتي تجاوزت في تأثيراتها الحدود الجغرافية والسياسية، وأفضت في النهاية إلى ظهور مشاريع وتصورات جديدة لإعادة تشكيل الشرق الأوسط، وفق هذه المعطيات الجديدة. ولم تكن الأحداث والاضطرابات التي شهدتها المنطقة منذ تلك الفترة وما قبلها ببعيدة عن مجمل هذه التطورات.

الأبرز بين هذه المشاريع أطلقه شمعون بيريز تحت مسمى "الشرق الأوسط الجديد"، وضمّنه في كتاب له بهذا العنوان أصدره عام 1996، وجاء بعده مشروع "الاتحاد من أجل المتوسط"، الذي أطلقه الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي بعد وصوله إلى الحكم في أيار/ مايو عام 2007. لكن أيًا من المشروعين لم يحالفه النجاج، وبالنسبة لشعوب المنطقة، فإنه إذا كان مشروع بيريز قد ارتبط بالتطبيع السياسي والاقتصادي مع إسرائيل، وهو أمر مرفوض بطبيعة الحال، فإن مشروع ساركوزي، اعتبر هو الآخر، نوعًا من الالتفاف على مشاكل المنطقة وليس بغرض حلها، وقد قال عنه برهان غليون حينها: "يتحدثون عن الهوية المتوسطية لإرضاء بعض المثقفين العرب، لكنهم غير مستعدين لمعالجة القضايا الحساسة التي تهم العرب".

أمريكا بدورها لم تكن بعيدة عن المشهد، وبدفع من المجموعات اليمينية والمحافظين الجدد والمجموعات الأصولية الدينية، كانت قد بدأت بإعادة ترتيب أوراقها في الشرق الأوسط، وفق تصورات خاصة، باسم الديمقراطية واستئصال التطرف الإسلامي، والحفاظ على أمن إسرائيل، مما أدخل عناصر إضافية على مشكلات المنطقة وقضاياها المستعصية، ستتسبب في تصعيد الصراعات، وستكون ضمن جملة الأسباب في اندلاع الثورات لاحقا.

نعوم تشومسكي يؤكد أن "إدارة بوش كان من الممكن أن تشرع في فكرة تقسيم الشرق الأوسط حالًا إذا توفرت لها الأسباب"، ولم يستبعد أن تعمد واشنطن بقيادة أوباما، مستثمرة أحداث الربيع العربي، إلى تقسيم جديد للشرق الأوسط يسهل عليها التعامل مع كيانات صغيرة، ويتساءل تشومسكي: "بعد الشرق الأوسط القديم الذي شكلته بريطانيا هل نصل إلى شرق أوسط جديد تشكله أمريكا؟".

ومن المؤكد هنا أن تعدد المشاريع واختلاف طبيعتها وأهدافها، يعود إلى عامل الصراع والتنافس بين القوى الكبرى نفسها، خاصة مع تغير موازين القوى عما كان عليه الحال في أوائل القرن العشرين، حين كانت بريطانيا وفرنسا تتصدران قائمة الدول الأقوى. ومن المؤكد أيضًا، أن الحضور القوي اليوم لهذه القوى وغيرها، على ساحة الصراع في سورية وليبيا واليمن والعراق وغيرها، يعيد إلى الأذهان تلك الصورة ذاتها، التي كان لها أكبر الأثر في رسم خارطة المنطقة قبل مائة عام، وسيكون لها اليوم الأثر ذاته فيما سيؤول إليه مستقبل المنطقة ومآلها.

ونستذكر هنا ما قاله برنارد لويس قبل الثورات العربية بعقود: "سنكون في وضع أفضل لفهم هذه الحالة إذا نظرنا للاستياء الحاصل في الشرق الأوسط ليس كصراع بين دول أو شعوب، ولكن كصدام بين الحضارات"، ثم عاد ليؤكده مرة أخرى في كتابه "الغرب والشرق الأوسط"، حيث قال: "نحن نواجه الآن مزاجًا أعلى بكثير من المواضيع والسياسات والحكومات التي تتبعها وهذه لا تقل عن صدام الحضارات، ربما هي غير معقولة ولكنها بالتأكيد ردة فعل تاريخية لعدو قديم ضد إرثنا اليهودي - المسيحي ضد حاضرنا العلماني والتوسع العالمي للاثنين معا". هذه المقولات ومثيلاتها، تلقي الضوء على البعد الآخر وربما الأهم للثورات العربية، ولمجمل الصراعات الدائرة في الشرق الأوسط، والذي يتعلق بعامل التدخل الخارجي.

أما ديفيد فرومكين، وفي كتابه "نهاية الدولة العثمانية وتشكيل الشرق الأوسط الحديث" فقد قال: "لعل أزمة التمدين السياسي التي يجتازها الشرق الأوسط الآن لا تنبثق فقط من تدمير بريطانيا للنظام القديم في المنطقة عام 1918 ومن قراراتها عام 1922 في كيفية استبدال ذلك النظام بل تنبثق أيضًا من غياب القناعة في السنين اللاحقة، ببرنامجها الذي فرض التسوية عام 1922".

ولعل عبارة "سلام ما بعده سلام"، أو "سلام ينهي كل سلام"، صدّر بها كتابه، تختزل أحداث هذا تاريخ الشرق الأوسط ومآسيه التي لم تتوقف إلى اليوم.

يقال إن التاريخ سجل حي لتغييرات لا تتوقف، وتذكرة بأن لا شيء يدوم إلى الأبد، وحتى بعض الأشياء التي تستمر لمدة طويلة، فإنها ستزول ولن تعاود الظهور ثانية.

العبرة التي يمكن استخلاصها، هي أن شعوب الشرق الأوسط قد فقدت قدرتها وصبرها وقابليتها للاستمرار في الواقع الراهن الذي فُرض عليها منذ أمد طويل، وأصبح كابوسًا ثقيلًا يجثم على صدروها، وقد آن الأوان لإزاحته بشتى الوسائل.

عن الكاتب

معاذ السراج

كاتب وباحث سوري


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس