محمد قدو أفندي أوغلو - خاص ترك برس

سنة 1954، أعلنت جبهة التحرير الوطنية انطلاق الثورة الجزائرية، وبداية حرب المقاومة ضد المستعمر الفرنسي الشرس لتستمر لأكثر من 7 سنين من المعارك والحروب في المدن والقرى والأرياف، وتقدم مليونًا ونصف المليون من الشهداء، حتى نجح الثوار في إخراج الفرنسيين من البلاد، واستقلت الجزائر سنة 1962م.

حول الفرنسيون الجزائر إلى مقاطعة مكملة لمقاطعات فرنسا (الأم)، نزح أكثر من مليون مستوطن (فرنسيون، وإيطاليون، وإسبان...) من الضفة الشمالية للبحر الأبيض المتوسط، واحتلّوا الأجزاء المهمة من مدن الجزائر. اعتبرت فرنسا كل المواطنين ذوي الأصول الأوروبية (واليهود أيضا) مواطنين فرنسيين (كما في فرنسا الأم)، لهم حق في التمثيل في البرلمان، بينما أخضع السكان العرب والأمازيغ المحليون (عرفوا باسم الأهالي) إلى نظام تفرقة عنصرية.

مشكلة الجزائر لا تختلف إطلاقًا عن مشكلة معظم الدول التي شهدت ثورات الربيع العربي لأن ألاسباب التي أدت الى نشوئها مشتركة معا، وكما أن بعض الأسباب المتعلقة بالتدخلات الخارجية هي مقتصرة على بعض الدول وبصورة متفاوتة.

فالمشكلة الرئيسية في الجزائر وحتى في غيرها من البلدان الشرق أوسطية والتي لا زالت قائمة منذ تحريرها من الاستعمار الفرنسي ولحد الآن هي هيمنة المؤسسة العسكرية على معظم مؤسسات الدولة الاستراتيجية ووصول جل المسؤولين إلى مراكز الدولة الرئيسية من الوسط العسكري، رغم أن العسكر المتمثل بجبهة التحرير الوطنية هي التي قادت نضال التحرر من الاستعمار، إلا أن هذا لا يعني أن تكون المؤسسة العسكرية هي المختزلة لكل حلقات الدولة المدنية، هذه الكارثة في تقديم العسكر أنفسهم كمحررين وبنائين ومصلحين ومهندسين وحقوقيين وأساتذة جامعات وحتى مخططين هي التي أوصلت الشعوب العربية لهذه الدرجة من التأخر.

مشكلة العسكر وتفردهم بالسلطة واقتناعهم بأن باستطاعتهم تولي مهمة إدارة البلد بكل مؤسساته هي اإحدى الكوارث التي حلت بمجتمعاتنا سواء أكانت فترة حكمهم هي بداية تأسيس الدولة التي ينتمون لها أو أنهم استطاعوا السيطرة على مقاليد الحكم عبر الانقلاب العسكري.

في العراق مثلا عندما كانت الدولة المدنية قائمة استطاعت القوى المدنية المتمثلة بالأحزاب والشخصيات الأكاديمية والعلمية وضع قاطرة التطور على السكة مثلما استطاعوا دفع تلك القاطرة إلى الأمام دون توقف طيلة الفترة بين 1921 و1958 لتواكب حركة الحياة والتقدم، وأصبحت الدولة العراقية هي الدولة الأكثر تقدما بين جيرانها. ومما زاد من مدنية الدولة وتقديم أفضل الحلول وصنع المستقبل المشرق والمزدهر هو تشكيلهم لـ(مجلس الإعمار) البعيد عن المنازعات الوزارية والحزبية، هذا المجلس استطاع وضع خطط وبرامج لتطوير كل مرافق الحياة التعليمية والصحية والمشاريعية لعشرات السنين القادمة  كما رسم بيانات الاستفادة القصوى من الموارد، مثلما تم وضع خطط لبناء المعامل والمصانع في كل مدن العراق وحسب برنامج علمي مدروس.

وعلى سبيل المثال فقد تم التخطيط لبناء السد شمال مدينة الموصل في منتصف خمسينات القرن الماضي وكان من المقرر تنفيذه بعد عدة سنوات إلا أن جهابذة العسكر تركوه وراء ظهورهم لمدة ثلاثين عاما لتخسر الدولة العراقية الاستفادة من المشروع الحيوي طيلة تلك الفترة...!

والمشكلة المكملة أيضا لمشكلة العسكر هي الأحزاب الوليدة من رحم المؤسسة العسكرية، أي التي تولدت في أثناء حكم العسكروالتي طالما تتبنى نظرية المؤامرة - الكارثية والمقيدة للشعب.

فطيلة فترة حكم العسكر كانت تتوالى الإخفاقات المتتالية في معظم مناحي الحياة بل الأكثر من ذلك كانت معظم إصلاحات المؤسسة العسكرية تتولى التغلب على السلبيات التي خلفتها القرارات السابقة غير المدروسة فهي تحاول معالجة أخطاء الماضي بأخطاء لاحقة وغير مدروسة، وهذا هو أسلوب  حكومات العسكر، ومن هنا فإن انعدام الثقة بين الشعب والحكومات العسكرية ينم عن الجهل في أسلوب إدارة الدولة من قبل الحكومات العسكرية أو القادة العسكرين، وليس في خيانتها للشعب أو للوطن وهذا بالطبع أبعد احتمال من رجال تولوا تحرير بلدهم.

والمشكلة الأساسية الأخرى في الجزائر وحتى في البلاد الأخرى هي عدم إتاحة الفرصة للشباب الواعي المتعلم والممارس لشتى فنون الحياة للاضطلاع بالمسؤلية القيادية في البلد، والاقتصار فقط على الوزراء والنواب السابقين، حيث أن عملية الإقصاء المتعمدة للشباب ستوسع البون الشاسع أساسا بينهم وبين الشباب، فمن المؤكد أن الشباب سيحاولون جهد إمكانهم مجاراة العصر ومتطلباته وهم القادرون على ذلك، أكثر من جيل أبائهم غير المتواصلين مع فنون الحياة الحديثة الآنية والمتطورة، وأبلغ تعبير للدولة في هذه الحالة هي المركبة التي تسير بسرعتها ويحاول الآخر من تقليل سرعتها بالضغط على الفرامل.

ومن البديهي معرفتنا أن في عصر العولمة حيث تحول العالم كله إلى قرية صغيرة فسيكون متاحا تلقي العلم والتجارب أولا بأول وعلى وجه السرعة ودون وجود عوائق حدودية وسلطوية وانعدام كل أنواع التحذيرات من نقل تلك التجارب من مصادرها المتنوعة في شتى بقاع العالم، ونعلم أيضا أن الشباب هو القادر لوحده على التجاوب مع تلك التجارب ونقلها والاستعانة بها وربما تطويرها مثلما ينقل تجربته إلى مجتمعات أخرى.

وبمعنى أدق أن زج الشباب الواعي والمتعلم والكفؤ في المسؤولية ضرورة حتمية لحاجة البلد الماسة لخدماتهم ومؤهلاتهم، ومن الضروري أيضًا أن تكون هناك كوتا خاصة بالشباب في مجالس النواب والحقائب الوزارية لإدامة التواصل بين الجيل الحالي واللاحق.

هذه المشاكل والمعوقات والحلول من الممكن جدا تلافيها بإصدارات مخلصة للقوانين المختلفة لتدفع بالقاطرة إلى الامام ويحصل التقدم والازدهار، إلا أن هناك مسألة خارجية مبتلى بها الجزائر وبعض البلدان أيضا، وهو الاستعمار الفرنسي الغاشم القديم والذي يحاول دائما فرض إرادته على الدول التي استعمرت حتى بعد تحريرها، فالعقلية الاستعمارية البالية لا زالت في مخيلة القادة الفرنسيين الذين يحاولون دائما بعث رسائل تذكر الجزائرين بفترة استعمارهم - وكأن تلك الفترة هي الفترة الذهبية للجزائر في مخيلتهم المريضة.

ومما لا شك فيه أن الاستعمار الفرنسي والأسلوب الفرنسي في التعامل مع شعوب المستعمرات هو الأبشع على الإطلاق بين المستعمرين، ورغم أن كل الدول الاستعمارية هي أصلا دول مجرمة لكن ما يميز الفرنسيين عن غيرهم أنهم مستعمرون يحاولون بشتى الوسائل طمس الهوية الحقيقية للبلد لغة ودينا وتراثا، أي أن الاستعمار الفرنسي استعمار ثقافي، هذا من ناحية ومن ناحية أخرى أن الأرض الفرنسية كانت هي المنبتة للحركات الدينية المتطرفة، وكلنا نتذكر مدينة كليرمونت الفرنسية والبابا أوربان الثاني في عام 1095 ميلادية والتي على أثرها بدأت الحملات المشبوهة ضد العالم الإسلامي، وهذا يعني أن المتاجرة بالدين هي وسيلة أخرى من وسائلهم الاستعمارية.

وختاما فمن المؤكد أن الجمهورية الجزائرية تمر بفترة مخاض حقيقية لولادة مستقبل واعد لأبنائها الذي ذاقوا مرارة عدم الاستقرار السياسي والأمني وهيمنة رجالات العهود السابقة على مقاليد الأمور في البلد - وهذه هي الأزمة الحقيقية للجزائر - حيث حرمت عدة أجيال من الشباب الأكفاء المتعلمين والمتدربين والمتدبرين من تبوء مناصب ومسؤوليات كانت ستنقل البلد إلى مصاف الدول التي تنشد التقدم والرفاهية والازدهار.

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس