صحيفة ديلي صباح - ترجمة وتحرير ترك برس

قبل أن نبدأ بقصة المهندس السوري فؤاد أصيل، تخيّل نفسك وأنت تسير في شوارع حلب، وفجأة أنت على الأرض، لا تستطيع التنفس، أنت محاصر في سحابة من الدخان، لا يمكنك أن ترى، وأذناك تطنّان، وبالكاد تسمع صرخات مكتومة قريبة.

تحاول النهوض، لكن ساقيك تفشلان، تحاول أن تدفع نفسك بعيدًا عن الأرض، ولكنك لا تستطيع ذلك، ثم تغرق في رعب ما حدث، يتدفق الدم من الأطراف السفلية فقد فقدت ساقيك، فجرتها غارة جوية، بلا تحذير ولا سابق إنذار.

ما قرأتَهُ حتى الآن ليس محاولة لتكوين رواية، لسوء الحظ إنها قصة حقيقية، واحد فقط من آلاف النّاس تعجبه قراءتها، هذه ليست قصة تنهد أو مأساة لتنال شفقتك، إنها قصة شجاعة وقوة وإصرار، هذه هي قصة فؤاد أصيل (28 عامًا)، المهندس الشاب اللامع الذي اختار عدم التخلي عن الحياة، وقرر أن يستخدم شغفه ومعرفته من أجل تحسين الجنس البشري.

دعونا نرجع للوراء، قبل بضع سنوات، قبل أن تلقي الحياة بثقل اختبارها على كاهِلَي فؤاد.

كان فؤاد طالبًا في مدرسة ثانوية، ذكيًا ويعمل بجد وقد أنهى دراسته بمعدل تراكمي 99% فكان مثار إعجاب الجميع. وهو ينحدر من عائلة متعلمة والده عالم رياضيات ووالدته مهندسة مدنية، وشقيقته مهندسة تكنولوجيا حيوية، وشقيقاه مهندسا ميكانيك وطبّ حيوي. كان بإمكانه الذهاب إلى كلية الطب بسهولة، لكنه اختار دراسة الهندسة الكهربائية والإلكترونية في جامعة حلب.

مكث هناك لمدة ثلاث سنوات. وفي عام 2012، أي بعد مضي عام على الثورة في سوريا، اضطر لترك دراسته لمدة عامين، ثم هاجر إلى تركيا واختار جامعة تشوكوروفا في ولاية أضنة جنوب تركيا ليكمل بها دراسته.

و قبل فصل واحد من تخرجه، في شباط/ فبراير 2016، قرر فؤاد زيارة حلب بلده الأصلي، لتغير هذه الزيارة مجرى حياته، و يُنقَلَ إلى تركيا بسيارة إسعاف لتلقي العلاج العاجل.

وعلى الرغم من تدخلات الأطباء، لم يكن بالإمكان إنقاذ ساقي فؤاد، فقد تم بتر كلا ساقيه فوق الركبة، فلم يستطع حتى استخدام الكرسي المتحرك وظل طريح الفراش لمدة شهرين، يُصارع العديد من الإصابات الخطيرة، و في النهاية عاد إلى منزله.

لم يستسلم فؤاد ويجعل حياته مقتصرة ضمن نطاق المنزل فقط، فعاد إلى جامعته حيث استقبله جميع أصدقائه وأساتذته بأذرع مفتوحة، وقدّموا له المساعدة، وقاموا بتثبيت سلالم ومصاعد حول الحرم الجامعي ليتمكن فؤاد من التجول بكرسيه المتحرك وإنهاء فصله الدراسي الأخير.

وقبل تخرجه، أكّد فؤاد لأستاذه مصطفى غوك أنّه لن يستسلم، وشكره لتحفيزه إياه، وأبلغ أنّه سيظل مدينا له طول حياته لما قدم له من دعم معنوي كبير في أسوأ أيام حياته.

كانت مهمة فؤاد صعبة، لكنه تمكن من التخرج بعد فصل دراسي واحد من تخرج أصدقائه.

وفي حديث لصحيفة ديلي صباح، أشار فؤاد إلى أنّه حصل على أطراف صناعية في فصله الدراسي الأخير، وقال: "لم يكن من السهل المشي مرة أخرى، أشكر والداي ومن تواصل معهما، لجمعهم ما يكفي من المال لشراء هذه الأطراف الصناعية"، فقد كلفت هذه الأطراف قرابة مئة ألف ليرة تركية.

اصيب فؤاد بسعادة غامرة، قائلًا: "إن خلفيتي الهندسية ساعدتني في فهم كيفية حاجة الأطراف والمفاصل للحركة لتقليد هيئة المشي، مما ساعدني على تعلم المشي بسرعة". وبالفعل تعلّم فؤاد المشي في غضون عشرة أيام بحسب ما قال معالجه.

وكانت سعادته لا توصف عندما مشى بهذه الأطراف مشبهًا مشيه بالطيران مرة أخرى، واتخذ قرارا من شأنه أن يغير دراسته وحياته في تركيا، فقد قرر مساعدة الذين عانوا مثل معاناته، وهناك الكثير منهم، سواء كانوا على كراسي متحركة أو يستخدمون أطرافًا صناعية ميكانيكية عادية، لكنهم لم يستطيعوا الطيران مثله.

بدأ فؤاد تحقيق حلمه بمشاورة أساتذته، إلى أن سمع عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP) "نهاية الأسبوع للمشاريع الناشئة للجميع"، ورغم حصوله على درجة الماجستير في الإلكترونيات، إلا إنه تمكّن من جمع فريق ممتاز في أضنة يتضمن زوجته المهندسة براءة أصيل.

أشاد فؤاد بدور المستشار الفردي لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي رامي شرّاق، الذي كان له دور فعال في الإيمان بمشروعه، وتوسيع آفاقه، وتعليمه.

ليست تصميمات المهندس فؤاد ثورية بالمعنى الحرفي للكلمة، فهناك نماذج مشابهة لها حول العالم، في ألمانيا على سبيل المثال، لكنّها باهظة الكلفة ومصمّمة خصيصًا لعدد قليل من الناس. أما تصميمات أصيل، فتؤدي خدمة فريدة للأشخاص الذين يحتاجونها.

كان شعور الطيران ملهمًا لفؤاد، وقد أطلق اسم الأجنحة كشعار له، وقال: "لا أحد يعرف كيف يشعر من يمشي مرة أخرى، إلا من جرّب ذلك، إنه مثل الطيران".

ولدى سؤاله عن التحامل على السوريين، أجاب قائلًا: "للأسف حصل معي ذلك، فالبعض يعاملنا كأنّنا جئنا لسرقة طعامه، ليس سهلًا العيش في بلد غير بلدنا، على عكس ما يعتقده الناس وبعض وسائل الإعلام".

وعند سؤاله لماذا يبقى في تركيا رغم ما يتعرض له، أجاب المهندس فؤاد: "تركيا موطني فوالدتي نصف تركية، وأنا هنا أشعر أنني في حلب فلنا نفس التقاليد ونأكل نفس الطعام. الأتراك و السوريون إخوة. الحيوانات وحدها تأكل وتنام وتعيش من أجل العيش، أما نحن كعائلة متعلمة فنحاول أن نضيف شيئًا للمجتمع، وأن نكون الأفضل أينما حللنا".

وتابع قائلًا: "الحياة في تركيا لم تكن نزهةً في الحديقة، وليست سهلة للأجنبي لأنه لا يستطيع الحصول على وظيفة، أرغب بإكمال دراسة الدكتوراه، فأنا شغوف بالعلم، ولكنّي للأسف لن أحصل على وظيفة دائمة بسبب الوضع القانوني للسوريين".

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!