احسان الفقيه - خاص ترك برس

من قرأ التاريخ العثماني وتعرف على فرقة "مهتر"؟

هي أقدم الفرق الموسيقية العسكرية، تعود إلى القرن الثالث عشر الميلادي، للعصر السلجوقي، وكانت ترافق الجيش العثماني في معاركه وتعزف ألحان الهجوم أو الاستعداد أو الانسحاب.

لا أدري لمَ أرى العلاقة بين العرب والأتراك، في متانتها وانسجامها عبر فترات طويلة من التاريخ وكأنها قصيدة بلسان عربي على أنغام فرقة المهتر العثمانية؟

* خيالي الطلق وليد حكاية نُسجت عبر قرون وقرون، وللحكاية بداية... وتلك هي البداية:

الزمان: عام 52 هـ

المكان: بلاد ما وراء النهر

الحدث: الجيش الإسلامي بقيادة والي خراسان عبد الله بن زياد، يعبر نهر جيجون بأمر من خليفة المسلمين معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، لفتح بلاد ما وراء النهر، حتى ينشر في ربوعها ذلك النور الذي غمر أرض العرب: الإسلام.

فيفتح المسلمون بخارى وبيكند التابعتين من بلاد الترك، لتكون هذه المحطة هي الأولى التي التقى فيها العرب والأتراك، ليمتد الإسلام بعد ذلك إلى بلاد الترك بأسرها.

جمعتهما الهوية على مر التاريخ ولا تزال، ولا قوام للعرب ولا للأتراك دونها، ولن يجدا أرضية للالتقاء غيرها، تلك حقيقة يدركها كل من قرأ التاريخ، وربط الماضي بالحاضر.

تحت الراية العثمانية:

دعونا نعبُر حواجز الزمن، لنصل إلى بداية عهد الدولة العثمانية الفتية، والتي انتقلت إليها القيادة للعالم الإسلامي خلفا للدولة العباسية، يوم أن كان العرب المسلمون يتلمسون كيانا يجمعهم تحت راية واحدة بعد طول شقاق وصراعات.

تلك المحطة التي انضوى فيها العرب تحت راية الدولة العثمانية، لأنها أصبحت حاملة اللواء، وحامية المقدسات، فأخذ العثمانيون من العرب ومنحوهم، وانصهرت المشاعر في بوتقة الإسلام... وهكذا هو الإسلام.

لن ندعي المثالية والكمال في الدولة العثمانية، لكن حسبها أنها جمعت المسلمين والعرب تحت راية واحدة، ونابت عن المسلمين في الفتوح وتبليغ الإسلام، حتى وصلت جيوشها إلى حدود (فيينا) لولا خيانة الصفويين التي أجبرت السلطان العثماني على العودة لحماية بغداد من الخطر الفارسي.

العزلة:

* لم ينعزل الأتراك عن العرب إلا بعد سقوط الخلافة العثمانية وإعلان الجمهورية التركية عام 1923، ساعتها يمّمت تركيا وجهها شطر الغرب، وحدثت الفجوة الكبرى بين الطرفين.

فالعرب يرون أن الجمهورية التركية قامت على جثمان الخلافة وأجهزت على ما تبقى من حلم المسلمين في وجود راية واحدة تجمعهم، ومن جهة أخرى فإن النظام التركي العلماني يرى أن صياغة الإنسان التركي الجديد يستلزم التقارب مع الغرب، وقطع الطريق أمام النظر إلى التراث، والذي يعد العرب جزءًا أساسا فيه.

تجربة أربكان القصيرة:

طوال عقود مضت بعد قيام الجمهورية التركية، ظل الأتراك في شبه عزلة عن العالم العربي، حتى جاءت حكومة الأستاذ نجم الدين أربكان رحمه الله الذي كان يتزعم حزب الرفاه، ليحاول تعديل مسار العلاقات التركية العربية.

لقد كان أربكان كما هو معلوم ذا توجه إسلامي، وأدرك أن مجاله الحيوي هو بلاد الوطن العربي والشرق الأوسط، لتبدأ العلاقات التركية العربية في التحسن والانتعاش عل الخلفية الأيديولوجية التي تجمعهما.

فرأى نجم الدين أربكان ضرورة الوحدة مع العالم الإسلامي الذي يتصدره العرب، وهو ما بلوره في تأسيس مجموعة الثماني الإسلامية.

وفشل هذا التوجه وعادت عزلة تركيا مرة أخرى عن العالم العربي، إثر الانقلاب الذي أطاح بنجم الدين أربكان عام 1997، وأقصى رموز الحزب عن الحياة السياسية التركية.

العلاقات العربية والتركية وقوة المسار:

ثم كانت المحطة التالية والهامة التي أنعشت فيها الرابطة العربية التركية والتي بدأت منذ تولي حزب العدالة والتنمية زمام الأمور في تركيا.

بدأ أردوغان وحزبه في إدارة البلاد بعد النجاح الساحق عام 2002، وتعاطى مع موازين القوى في تركيا، مستحضرا جذوره الإسلامية.

نعم هو يصرح بأن حزبه علماني محافظ، لكني أكرر ما قلت سابقا: لابد وأن ننظر إلى البيئة التي يعمل فيها أردوغان مقابل السطوة العلمانية المعروفة، وهو مع ذلك يحاول تفريغ العلمانية من محتواها، عن طريق استلهام الجذور العثمانية بخلفيتها الإسلامية ودمجها بالخصوصية التركية، وتعميم مبادئ الحريات، والذي كانت الحرية في ارتداء الحجاب إحدى ثمراته.

وخلال مرحلة البناء الاقتصادي والتنموي والمجتمعي التي بدأها الحزب، برزت ملامح التوجهات التركية للعرب إبان حرب الخليج 2003، فلن ننسى أن البرلمان التركي صوت بكلمة "لا" على الخطة الأمريكية لإرسال 62 ألف جندي أمريكي إلى تركيا لفتح جبهة قتال شمالية ضد العراق.   

والحقيقة تقول:

أن حكومة أردوغان وتركيا تعمقت مكانتها في نفوس وأفئدة العرب إبان الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة في ديسمبر 2008 ويناير 2009، والذي ظهر فيها التعاطف التركي تجاه القضية الفلسطينية.

وبرزت ملامح هذا التقارب والتعاطف عندما وجه أردوغان تلك الصفعة لـ شيمون بيريز خلال المنتدى الاقتصادي دافوس عام 2009، بعدما صفق الحضور لـ بيريز وقد غمس يده في دماء أهل غزة، فقام أردوغان بتوبيخه أمام الجماهير العريضة، لتستقبله الجماهير التركية الحاشدة في المطار لدى عودته بلافتات كتب عليها: "مرحبا بعودة المنتصر في دافوس".

لم يكن ما حدث في دافوس مجرد موقف عاطفي عابر، لقد كان البوابة التي عبرت منها تركيا أردوغان إلى قلوب العرب جميعا، ليتعاظم على إثرها التقارب التركي العربي، مرورا بمحاولة كسر الحصار عن قطاع غزة والتي تضمنت حادث السفينة مرمرة عام 2010 م ، والذي ترتب عليه طرد السفير الإسرائيلي في تركيا وتأزم العلاقات بين الجانبين التركي والإسرائيلي.

وظهر التقارب العربي التركي عقب ثورات الربيع العربي ومحاولة إقامة تحالفات تركيا مع الدول العربية في المنطقة خاصة مصر، إلا أنه فشل بانقلاب الثالث من يوليو على الرئيس محمد مرسي، ليظهر التفاعل التركي مع القضايا العربية متمثلا في رفض الانقلاب على الشرعية.

المحطة الأخيرة:

ووصل هذا التقارب التركي العربي إلى الصورة الحالية التي تتضمن هذا التفاهم والتناغم بين الحكومة التركية ودول الخليج، والذي يعتبر في نظر كثير من المراقبين حلفا سنيا لمواجهة الأخطار الإيرانية الشيعية التي تهدد دول المنطقة.

وظهر هذا التقارب مع تولي الملك سلمان بن عبد العزيز زمام الأمور في السعودية الأخت الكبرى لمجلس التعاون الخليجي، وتفهمه للقضايا الإقليمية وضرورة التقارب مع تركيا.

كان من ثمرات هذا التناغم في العلاقات التركية العربية اتفاقية التعاون العسكري بين تركيا وقطر، والذي قد يكون نواة لحلف جديد قوي في المنطقة.

ولا ريب أن استمرار تدفق العلاقات التركية العربية في ذلك المسار سوف يترتب عليه تغير وجه المنطقة، وتغيير جوهري في الملفات الساخنة في المنطقة ككل.

عن الكاتب

احسان الفقيه

كاتبة أردنية


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس