د. جمال نصار - خاص ترك برس

فكرة التكتلات والاتحادات بين الدول لها أهميتها على مستويات عدة بشكل عام، ولعل بعض النماذج تشير إلى ذلك؛ مثل الاتحاد الأوروبي الذي وصل عدد دوله إلى 28 دولة قبل خروج بريطانيا، واتحاد الكومنولث الذي يضم 52 دولة من ولايات الإمبراطورية البريطانية سابقًا باستثناء موزمبيق ورواندا، ومنظمة التعاون الإسلامي التي تضم في عضويتها 57 دولة، وجامعة الدول العربية التي تضم في عضويتها 22 دولة، ومنظمة الأمم المتحدة التي تضم في عضويتها 193 دولة، وغير ذلك من التكتلات والاتحادات والمنظمات التي تضم في عضويتها العديد من الدول.

وبعيدًا عن تأثير هذه التكتلات فيمن حولها، وقوتها أو ضعفها إلا أنها مثّلت مصدر قوة في فترة من الفترات التي تمر بها الإنسانية. ومن ثمَّ التفكير في تكتل إسلامي متناغم لمواجهة التحديات من جانب، والاستفادة من القدرات والإمكانيات المادية والبشرية من جانب آخر؛ يعتبر من القضايا المهمة في الوقت الراهن. 

لماذا الدعوة لاتحاد دول إسلامية الآن؟

أعلم أن العالم العربي والإسلامي يمر بمرحلة شديدة الضعف، والانكسار أحيانًا، بل مؤامرات عديدة من الداخل والخارج، وهذا له أسبابه التي لا تخفى على أحد، ومع ذلك يجب ألّا يتلبسنا اليأس والقنوط من واقعها، ويدفعنا ذلك لعدم التحرك والتغيير لما هو أفضل، فاليأس خيانة، والعمل مع الأمل هما الطريق المهم لتخطي الصعاب، ومواجهة التحديات. فالعالم الإسلامي يتميز بمسألة غاية في الأهمية، وهي وحدة الديانة، ووحدة اللغة في العديد من الدول الناطقة باللغة العربية، ووحدة المصير. هذا الكلام مرتبط بأصل وتكوين هذه الشعوب، وليس مرتبطًا بالضرورة بالأنظمة الحاكمة، التي يسعى بعضها لتشويه الأصل وتغييب الشعوب.

ومن أهم عوامل الوحدة في العالم الإسلامي، وضرورة تكتلها؛ الأمور التالية:

أولاً: عامل الدين: حيث يمثل هذا العامل الرابطة والوشيجة الإيمانية بين كل المسلمين من الشرق إلى الغرب؛ فالمسلم أخو المسلم، والعقيدة هي رابطة الوحدة المشتركة بين أفراد الدين الواحد، وهي الروح السارية فيهم، ولذلك كانت الأخوَّة الدينية بين المسلمين هي أصدق تعبير عن هذه الوحدة المشتركة التي قررها القرآن الكريم بقوله: (إنَّمَا الْـمُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ) (الحجرات: 10). فالعقيدة إذن هي الأساس الذي يرتفع عليه بناء الدين، ومن ثمَّ تقوى الدول الإسلامية بعقيدتها الصحيحة.

ثانيًا: العامل الجغرافي: فمعظم دول العالم الإسلامي تقع في قارتَي: آسيا وإفريقيا، وأراضيها متصلة بعضها ببعض، وهناك تواصل رَحِمِي بين سكان هذه الدول التي فصلتها أيادي الاستعمار بالحدود المصطنعة الوهمية. والشعور الشعبي تجاه الوحدة الإسلامية كبير وغامر رغم السلبيات التي صنعتها الحكومات؛ فالعامل الجغرافي يدعم الوحدة المنشودة بصيغة عملية ممكنة لمواجهة التكتلات العالمية.

ثالثًا: المصالح المشتركة: فالمصلحة العليا للدول الإسلامية قاطبة مشتركة، وهي السعي للنهوض بها، وتوظيف إمكانياتها على أكمل وجه، مع وجوب الاهتمام بنشر الثقافة الإسلامية في المجتمعات والمؤسسات، وهذا واجب الجميع ولا بد من تجسيده على أرض الواقع، وماضي العالم الإسلامي خير شاهد على ذلك، ودولنا في العالم الإسلامي تحتاج إلى حملة تُصلِح كل ما أُفسِد، وتعرِّف المسلمين بدينهم الصحيح، بعد أن أصابهم الجهل المركَّب.

رابعًا: التاريخ والتراث: فالأمة الإسلامية لها تاريخ وتراث اشتركت فيهما كل القوميات الموجودة في العالم الإسلامي؛ فبنَوا صرح الحضارة الإسلامية متعاونين متكاتفين، ولكلٍّ جهدٌ مقدَّر في بناء هذه الحضارة الكبيرة، التي انتشرت في الآفاق وقت أن كانت مزدهرة وقوية.

خامسًا: منطق العصر: منطق العصر الحاضر هو الوحدة والتجمع، وغضُّ الطرف عن الماضي بجراحاته وآلامه التي من الصعب أن تُنسَى، ولكن منطق المصلحة المشتركة يفرض على الجميع هذه الوحدة دون الالتفات إلى الماضي؛ لمواكبة متغيرات العصر في كل نواحي الحياة (الاقتصادية، والسياسية، والاجتماعية، والثقافية).

السبيل لهذه الوحدة الإسلامية

إذا كانت الوحدة في الصف والهدف والقيادة مطلبًا شعبيًا لكل الدول الإسلامية، فإن السلطات الرسمية في أكثر الدول الإسلامية والعربية رغم إدراكها لأهمية الوحدة تتغاضى عنها لأسباب خفية وأجندات تُفرَض عليها، تستهدف بقاء الحال على ما هو عليـه من التفتت والخلاف، ويمكن إذا خلصت النوايا أن تجتمع الدول الإسلامية على بعض المشتركات منها:

أولًا: الإعلاء من شأن القيم والمبادئ الأخلاقية: فالعدل، والمساواة بين الجميع دون محاباة، والصدق، والعفة، وعلوِّ الهمة، وتكافؤ الفرص بين جميع الأفراد، والمحاسبة فيما يخص أسباب الغنى والفقر، وحسن توزيع الثروة، والتوازن في الحقوق والواجبات، كلها قيم حضارية يجب أن تسعى إليها الدول الإسلامية. 

ثانيًا: إيجاد نظام اقتصاد إسلامي مستقل: إن التشابك المعقَّد في العلاقات الدولية اليوم واختلاف الأنظمة الاقتصادية في العالم، الذي انعكس أثره على أكثر المجتمعات الإسلامية، فتعددت فيها الأنظمة الاقتصادية تبعًا للاتجاه الذي يغلب على كل بلد، هذا التشابك كان له آثَاره السلبية على وحدة الأمة الإسلامية. ولا بد من إيجاد اقتصاد إسلامي مستقل ليس مرتبطًا بأي نظام آخر؛ لئلا يبقى بين الأمة فجوات تحول دون وحدتهم، ويكون ذلك بإيجاد أسواق مشتركة وعملة موحَّدة وهيئة اقتصادية مشتركة تشرف على ذلك الاقتصاد الإسلامي المستقل. وبهذا تستقل عن التبعية الاقتصادية الضارة، وتقيم لها وحدة اقتصادية قوية على أسس إسلامية.

ثالثًا: الوحدة الثقافية: إن وعي علماء الأمة وقادتها، وأهمية الوحدة الثقافية في استمرار وحدة الأمة، جعلهم يتوجهون إلى دعامتَي الوحدة الثقافية الأساسية: القرآن والسنة. ومن هذه الزاوية يمكن أن نقرر أن اهتمام علماء الأمة بنصَّي القرآن والسُّنة لم يكن لقدسيتهما فقط؛ ولكنه اهتمام مرتبط بوعي أهميتهما في حفظ وحدة الأمة وتعزيزها، وتحقيق استمرار وجودها.

رابعًا: الإعلام ودوره في ترسيخ ثقافة الوحدة: إن من الأدوار المهمة للإعلام دعم أشكال الوحدة في الأمة، واستثمار إيجابياتها ومعالجة سلبياتها بحنكة، ودعم سبل التعاون الثنائي بين الدول ثقافيًا واقتصاديًا وسياسيًا، وللإعلام دور في عرض سبل جديدة للتعاون بين الدول والمنظمات والتجمعات في هذه الدول، وعرض تجارب التكتلات في العالم ونتائجها الإيجابية، كالوحدة الأوروبية أو منظمة الآسيان، وغيرها من التجارب الناجحة؛ كي تكون أنموذجًا تسعى الأمة لتكوين وحدة مشابهة له بشكل مرحلي.

الدول المرشحة لكي تكون انطلاقة لهذه الوحدة

دعا رئيس وزراء ماليزيا السابق محاضير محمد إلى تحالف إسلامي جديد عقد أول اجتماع له في كوالالمبور بتاريخ (19-12-2019)، واستجابت له تركيا وباكستان وقطر، وغابت عنه السعودية وإندونيسيا؛ بهدف العمل على حل القضايا الكبرى التي تتعرض لها الدول الإسلامية والتصدي لهجمة الإسلاموفوبيا. 

وتركزت أعمال القمة على مجالات رئيسة هي: التنمية الاقتصادية، والدفاع والحفاظ على السيادة، وقيم الثقافة والحرية والعدالة، إضافة إلى مواكبة التكنولوجيا الحديثة، وإنشاء 3 مراكز مالية عالمية تشمل الدوحة وإسطنبول وكوالالمبور، لتغطية جميع المعاملات المالية الإسلامية حول العالم.

ولكنه في تقديري خفتت جذوة هذا التكتل، وانكمشت فعالياته، وكان يجب أن تكون له أنشطة وأعمال تلمسها شعوب تلك الدول. ومن ثمَّ يحتاج هذا التكتل إلى تنمية وتطوير، وضمّ دول أخرى لها تأثيرها في العالم الإسلامي في هذه المرحلة، ومن أهم هذه الدول: السعودية؛ فعلى الرغم مما يحدث من القائمين على الأمور في المملكة إلا أنه يجب تذكيرهم بشكل دائم بخطورة المرحلة، وأهمية التوافق على المشتركات حرصًا على دولتهم ودعمًا لها، بعيدًا عن التبعية للغرب أو الشرق، فالرياض لديها إمكانيات مادية متميزة لو تم استغلالها، وتوجيهها الوجهة الصحيحة. 

وكذلك دولة الكويت؛ حيث تعتبر من الدول المهمة في مجلس التعاون الخليجي، وحاول أميرها السابق صباح الأحمد الجابر الصباح، رحمه الله، رأب الصدع بين الدول الخليجية وخصوصًا أزمة حصار قطر الأخيرة، كما أن هذه الدولة تتميز بالتعددية السياسية، وتعتبر من أهم الدول الخليجية التي لديها جمعيات ومؤسسات خيرية في المنطقة، كما أن لديها إمكانيات مادية مناسبة يمكن أن تدعم المشاريع الكبرى النافعة.

وإندونيسيا؛ أكبر دولة إسلامية من حيث عدد السكان، ولديها وفرة في العمالة التي من الممكن أن يستفاد بها في المشاريع التنموية النافعة لكل دول العالم الإسلامي، وخصوصًا في مجال النسيج، واقتصاد إندونيسيا هو أكبر اقتصاد في جنوب شرق آسيا، وواحد من اقتصادات الدول الناشئة في العالم.

ومصر؛ بقوتها البشرية وحضارتها الضاربة في أعماق التاريخ، وإمكانياتها ومواردها، ووفرة العمالة الماهرة في المجالات المختلفة؛ يمكن أن تشكل رافعة حقيقية لبناء الدول، بصرف النظر عن النظام السياسي القائم الآن، فالأنظمة إلى زوال، والشعوب هي الباقية.

ويمكن عقد لقاء تشاوري تحضيري بين وزراء خارجية تك الدول الثمانية (إندونيسيا، وماليزيا، وباكستان، وتركيا، ومصر، والسعودية، وقطر، والكويت) على أن تكون الأمانة والرئاسة بالتناوب لكل دولة في العام، مع الاتفاق على جدول أعمال قابل للتنفيذ، ويكون لكل دولة المجال الذي تتميز فيه، مع الاستفادة الحقيقية من التكتلات السابقة للتجارب الناجحة في هذا السياق.

هذا الكلام ريما يظنه البعض أضغاث أحلام وخيالات، وربما يرى البعض الآخر أنه لا مجال لهذا الطرح الآن، وخصوصًا مع موجة التطبيع والهرولة نحو (إسرائيل) من دول عديدة. ولكن أؤكد أنه بقدر صدق النوايا، والحرص على مستقبل تلك الدول، والمساهمة المشتركة في تقديم البدائل، وحل المشاكل، ستتحقق هذه الأحلام والأماني، وتكون هذه الدول نواة حقيقية لاتحاد إسلامي جامع يقوم بالدور المنوط به لازدهار العالم الإسلامي وتطوره، والتأثير في القرارات المصيرية المتعلقة بالأمم المتحدة، ومجلس الأمن.

أقول: إن الحملة المعلنة ضد الإسلام والمسلمين في بعض الدول الغربية كفرنسا والدنمارك على سبيل المثال، وفي أماكن أخرى كالصين والهند؛ والهجمة الفكرية والثقافية التي ترمـي إلى إبعاد النـاس عـن الإسـلام، وزعزعـة اعتقـاد المسلمين في دينهم؛ تستتبع بالضرورة وجود تكتل إسلامي، يدافع عن الهوية الإسلامية، وقبل ذلك عن العقيدة الإسلامية الني يحاولون بشتى السبل تشويهها، وإخراج جيل لا يعرف شيئًا عن دينه.

عن الكاتب

د. جمال نصار

كاتب ومفكر مصري، أستاذ الفلسفة والمذاهب الفكرية المشارك في جامعة اسطنبول صباح الدين زعيم، وباحث أول سابق في مركز الجزيرة للدراسات بالدوحة.


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس