ترك برس

خضعت مكة والمدينة المنورة للحكم العثماني في عام 1517 للميلاد، بعد تغلّب السلطان سليم الأول على المماليك. وقد لُقّب السلطان سليم الأول بخادم الحرمين الشريفين.

وُلِدَ فخر الدين باشا في عام 1868 للميلاد. وعُيِّنَ قائدًا للفيلق العثماني الرابع برُتبة عميد في الموصل في الحرب العالمية الأولى في عام 1914، ثُمّ رُقِّيَ إلى رتبة لواء.

وظهر فخر الدّين في فترة حرجة من التاريخ، تكالب فيها الحلفاء على العالم الإسلامي، وعلى الدولة العثمانية للقضاء عليها وتقسيمها. فبعد الجزائر ومصر وليبيا وتونس، جاء الدور على شبه الجزيرة العربية لتقاسُم أراضيها.

العميل الإنكليزي لورنس

نشر الحُلفاء عُملاءهم وجواسيسهم في الأراضي العربية لإثارة العرب على الأتراك وإثارة النّعرة القومية. وكان تجنيد العُملاء والطّامعين أهم أساليب بريطانيا لبسط سيطرتها، وكان من أبرز قادتها في هذا الصّدد "توماس لورنس" المُلقّب بـ"لورنس العرب".

بدأ الإنكليز الاتصال بالشريف الحسين في أواخر عام 1914، حين وعدوا حلفاءهم في الجزيرة العربية بإقامة مملكة عربية وتنصيبهم عليها مقابل مساعدتهم في إخراج العثمانيين من الجزيرة العربية وبلاد العرب.

فخر الدين يتحرك إلى المدينة

وفي خِضمّ الحرب، تحرّك فخر الدين باشا، بجيش قوامه 15- 20 ألف مُقاتل، بناءً على أوامر قائد الجيش العثماني الرابع جمال باشا في 23 أيار/ مايو 1916 تجاه المدينة المنورة للدفاع عنها، وتمّ تعيينه قائدًا للقوة الاستطلاعية للحجاز في 17 تموز/ يوليو 1916.

عُيِّنَ فخر الدّين واليًا للمدينة قبل تمرّد حلفاء الإنكليز على الدولة العثمانية الذي بدأ بتخريب الخط الحديدي الحجازي وخطوط التلغراف قرب المدينة، ثمّ الهجوم على المخافر في ليلتي 5 و6 حزيران/ يونيو 1916.

تعرّض فخر الدين باشا للحصار من قبل القوات الحليفة للإنكليز، لكنّه دافع ببسالة عن المدينة المُنوّرة، كما حمى خطّ الحجاز الحديدي من الهجمات التخريبية التي شنّها البريطاني لورنس والقوات الحليفة له على السكّة التي كانت تعتمد عليها القوات العثمانية في إمداداتها.

صمدت الحاميات العثمانية في محطات القطار في وجه الهجمات الليلية المستمرة، وحمت السكّة في وجه العدد المتزايد من الهجمات، التي وصلت إلى 130 هجمة في عام 1917، ومئات الهجمات في عام 1918 تشمل تفجير أكثر من 300 قنبلة في نيسان/ أبريل 1918.

توجّه حلفاء الإنكليز إلى جدّة لمهاجمتها، ودخلوها في 9 حزيران، ثم إلى مكة ودخلوها في 7 تموز/ يوليو، ثم الطائف ودخلوها في 22 أيلول/ سبتمبر. ولم تتمكن الحكومة العثمانية من إرسال أي تعزيزات بسبب سيطرة حلفاء الإنكليز وانسحاب القوات العثمانية من الحجاز، فلم تبقَ إلا حامية فخر الدين باشا، وكان أقرب جيش عثماني يبعد عنها 1300 كيلومتر.

قرّرت الحكومة العثمانية إخلاء المدينة. إلا أن فخر الدين أرسل رسالة إلى رئيس الحكومة أنور باشا يتوسّله فيها قائلًا:

"لماذا نُخلي المدينة؟ أمِن أجل أنّهم فجروا خط الحجاز؟ ألا تستطيعون إمدادي بفوج واحد فقط مع بطارية مدفعية؟ أمهلوني مدة فقط أستطيع التفاهم مع القبائل العربية. لن أُنزِل الراية الحمراء بيدي من على حصن المدينة، وإن كُنتُم مُخليها حقًا فأرسلوا قائدًا آخر مكاني".

وظلّ فخر الدّين باشا يُردّد "الدّفاع عن المدينة المنورة قائم حتى يحل علينا القضاء الإلهي والرضا النبوي والإرادة السلطانية، قُرَناء الشرف".

خروج الدولة العثمانية من الحرب بمعاهدة "مودروس"

خرجت الدولة العثمانية من الحرب بتوقيع هدنة "موندروس" بينها وبين قوات الحلفاء في 30 تشرين الأول/ أكتوبر 1918. وأعقبها احتلال إسطنبول، وتقسيم الإمبراطورية العثمانية. إلا أنّها أٌلغيت في وقت لاحق بعد معاهدة لوزان في 24 يوليو 1923 عقب انتصار الأتراك في حرب الاستقلال التركية.

ونصّت الفقرة رقم 106 من المعاهدة على وجوب استسلام جميع الوحدات العسكرية العثمانية الموجودة في العراق وسوريا والحجاز واليمن لأقرب قائد من قوات الحلفاء. إلا أن فخر الدين رفض الاستسلام وقبول الهدنة.

ونقل كاتب تركي عن شاهد عيان، أن فخر الدّين باشا صعد إلى المنبر في المسجد النبوي في إحدى أيام الجُمَع في ربيع عام 1918، وتوقف في منتصف الدرج وتوجه إلى قبر النبي ﷺ وقال: "يا نبي الله، لن أتخلّى عنك".

وقال فخر الدّين: "أيُّها الجنود، آمُرُكُم أن تُدافعوا عن النبي الموجود هنا وعن المدينة حتّى آخر عيار ناري وآخر نَفَس، بغض النظر عن قوة العدو. كان الله في عوننا، وصلوات نبيّه مُحمّد  ﷺ معنا".

وتابع قائلًا: "يا جنود الجيش التركي البطل! يا أتباع مُحمّد، تعالوا وتعهّدوا لي، أمام ربّكم ونبيّكم، بأن توفوا بعهدكم بأعظم التضحيات بحياتكم".

وذكر فخر الدين باشا أنّه رأى في المنام أن النبي مُحمد ﷺ أمره بعدم الاستسلام. في آب/ أغسطس 1918، تلقّى دعوة للاستسلام من الشريف الحسين. ردّ فخر الدّين باشا بهذه الكلمات (مترجمة وليس النص الأصلي): 

"الجنرال فخر الدّين، حامي أقدس المُدن المدينة المنورة. خادم الرسول ﷺ.

بسم الله القادر على كل شيء. إلى من كسر قوة الإسلام، وتسبب بسيل دماء المسلمين، وعرّض خلافة قائد المؤمنين للخطر، وعرّضها لسطوة البريطانيين.

يوم الخميس الرابع عشر من ذي الحجّة، كنت أمشي مُتعبًا ومُنهكًا، أفكر في حماية المدينة والدفاع عنها، حينها وجدت نفسي بين أُناس لا أعرفهم في ساحة صغيرة. ثمّ رأيت أمامي رجلًا ذا طلعةٍ بهيّة. لقد كان الرّسول ﷺ... قال لي بحذر: "اتبعني". تبعته ثم استيقظت. وهرعت فورًا إلى مسجده وبدأت بالصلاة والدعاء.

أنا الآن تحت حماية النبي، قائدي الأعلى. أُشغِلُ نفسي بتقوية دفاعاتي، وأبني الطرق والساحات في المدينة. لا حاجة لي بعرضك العقيم".

 رفض فخر الدين باشا تسليم سيفه حتى بعد صدور أمر مباشر من الصدر الأعظم العثماني. غضبت الحكومة العثمانية من سلوكه، وأعفاه السلطان محمد السادس من منصبه. ورفض فخر الدّين ذلك أيضًا، وقال: "إن الخليفة بعد الآن أسير في يد الحلفاء، ولذلك لا توجد له إرادة مستقلة". كما اتصل به الإنكليز من بارجة حربية باللاسلكي يخبرونه بضرورة الاستسلام. إلا أنه حافظ على الراية العثمانية مرفوعة في المدينة حتى مرور 72 يومًا على انتهاء الحرب.

نقل فخر الدّين باشا ما تبقى من مؤونة وأسلحة إلى الحرم النبوي الشريف. وتسلّح بقنابل يدوية علّقها على صدره وخصره وأمر ضباطه بذلك. وأغلق أبواب الحرم وزرع الطريق بالألغام، وأكّد أنّه لن يستسلم أبدًا وسيقاوم كل من يقترب من أبواب الحرم ومنه شخصيا، وأنذر أنه طوّق الحجرة النبوية الشريفة بالمتفجرات.

جمع القائد الضباط في الروضة الشريفة، وأدّوا صلاة الظهر وخطب بهم ودموعه أكثر من كلماته، وقال: "لن نستسلم أبدًا، ولن نسلّم مدينة الرسول لا للإنكليز ولا لحلفائهم"، ونزل من المنبر واحتضنه الضباط وهم يبكون، واحتضنه رجل من أهل المدينة وقال له: "أنت مدنيّ من الآن فصاعدًا، أنت من أهل المدينة يا سيدي القائد".

صمدت حامية فخر الدين سنتين وسبعة أشهر، وواجهت الجوع والمرض لنقص الإمدادات. واستسلمت حاميته في 10 كانون الثاني/ يناير 1919. ودخل عبد الله الأول وجنوده المدينة المنورة في 13 يناير. واشترطت في اتفاق التسليم أن لا يؤخذ من جنوده أي أسير ويُسمح لهم بالذهاب إلى حيث شاؤوا، وأن يعالج المرضى منهم بالمستشفيات ثم ينقلوا حيث شاؤوا.

وكان الشرط الأهم أن يجمع فخر الدين باشا مقتنيات الحجرة الشريفة في صناديق، وأن لا يفتحها أحد من القوات العربية وتبقى بحيازته حتى يسلّمها لدار الخلافة في إسطنبول. ودُوّنت الشروط في بيان بنسختين موقّعتين، سلّم واحدةً لعبد الله الأول واحتفظ بالأخرى، وذلك في 10 تشرين الثاني/ نوفمبر 1919.

أُخلي 8 آلاف جندي بينهم 519 ضابطًا من الحامية العثمانية في المدينة، ونقلوا إلى مصر بعد استسلامهم. مات بعضهم بسبب الأمراض، وتبعثر آخرون في مناطق مختلفة. وتمّت مصادرة أسلحتهم وذخائرهم.

وفي يوم التسليم، اصطفّ الجنود العثمانيون أمام الحرم النبوي ليدخل كل منهم لزيارة ضريح الرسول ﷺ ثم يخرج. ولم يبقَ أحد من أهل المدينة إلا وبكى في تلك اللحظة حتّى القوّات المُحاصِرة.

وعند نقل فخر الدين باشا إلى الخيمة المُعدّة له، أحاط الآلاف من القوّات المُحاصِرة بالخيمة متلهّفين لرؤية البطل الأسطورة فخر الدين باشا "نمر الصحراء" و"النمر التركي"، وما إن ظهر حتّى ارتجّت الصحراء بصيحات الجميع.

حياته بعد الحرب

سلّمه حلفاء الإنكليز إلى القوات البريطانية التي أرسلته إلى مصر في 27 يناير 1919 كأسير حرب، ثُمّ نُفِيَ إلى مالطا في 5 أغسطس 1919 وحُكِمَ فيها بالإعدام. إلا أن حكومة أنقرة تمكّنت من إنقاذه من الأسر في 8 نيسان/ أبريل 1921.

وبعد تحريره من الأسر، انضم إلى القوات المسلحة التركية تحت قيادة مصطفى كمال أتاتورك، وحارب الجيشين اليوناني والفرنسي اللذين كانا يحتلّان إسطنبول وإزمير وأجزاء من تركيا في 24 أيلول/ سبتمبر 1921.

وبعد حرب الاستقلال، عُيّن فخر الدين باشا سفيرًا لتركيا في العاصمة الباكستانية كابول بين عامي 1922 و1926. وفي عام 1936 تمّت ترقيته، ثمّ تقاعد من الجيش. وتوفّي في 22 تشرين الثاني 1948 بعد تعرّضه لسكتة قلبية خلال رحلة بالقطار قرب ولاية أسكيشهير. ودُفِنَ حسب وصيته في إسطنبول.

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!