ترك برس

أولى السلطان سليمان القانوني (ت 974/1566م) الذي كان واحداً من أبرز سلاطين العثمانيين، أهمية خاصة للمدينة المقدسية، عبر الخدمات التي خصصها لها، حيث قد شهدت مدينة القُدس في عهده اهتماماً مميزاً، لا سيما أن مدة حكمه كانت طويلة وأسهمت في تسجيل العديد من المنجزات الحضارية في أرجاء إمبراطوريته.

ويورد الرحالة الشهير أوليا جلبي، نصاً لطيفاً حول سبب اهتمام السلطان بالمدينة، في سياق حديثه عن القدس عندما زارها عام 1082هـ/1672م: فيقول جلبي:

"في عام 926هـ/1521م اعتلى السلطان سليمان العرش، وفتح قلعة بلغراد (عاصمة صربيا) عام 927هـ/1521م، وجزيرة رودس عام 928هـ/1522م، وجنى من ذلك ثروة طائلة، وعندما غدا ملكاً مستقلاً ظهر له النبي في ليلة مباركة وقال له: يا سليمان، سوف تحقق انتصارات كثيرة، ويجب عليك أن تنفق الغنائم على تزيين مكة والمدينة، وعلى تحصين قلعة القدس لتصد الكافرين إذا حاولوا احتلالها خلال حكم خلفائك، وعليك أيضاً أن تُزيّن حرمها بحوض للماء، وأن تمنح دراويشها مخصصات مالية كل عام، وعليك أيضاً أن تُزين صخرة الله وأن تعيد بناء مدينة القدس".

تجديد عمارة المسجد الأقصى

من أجلّ الأعمال التي سُطرت في سجلّ اهتمام السلطان سليمان بالمدينة عنايته بالمسجد الأقصى المبارك، ففي عام 935هـ/1528م تمت أول عملية لترميم مصلى قبة الصخرة، إذ تم تجديد 36 شباكاً مزخرفاً بالقطع الزجاجية. وفي عام 949هـ/1542م، أمر السلطان بتجديد عمارة قبة الصخرة، وبنى فيها 16 شباكاً من الزجاج المذهب.

وبدأت أعمال كسوة المبنى المثمن الذي يحمل القبة، فكسيت بالقيشاني الأزرق المهيب، الذي اشتهرت به مساجد إسطنبول، وما بين أعوام 957هـ/1550م و969هـ/1561م، زُينت القبة بآلاف من قطع القيشاني، وتُشير المصادر إلى أن تكلفة هذه القطع، وغيرها من أعمال بلغت نحو 97 ألف أقجة. وفي سياق أعمال الترميم، أمر السلطان بتصفيح ثلاثة من أبواب قبة الصخرة، وجدد في عمارة مجمل أبواب الأقصى وسوره وتمت هذه التجديدات ما بين عامي 571هـ/1563م و572هـ/1564م.

ويُشير الرحالة أوليا جلبي إلى المعماريين والفنانين الذين عملوا على ترميم القبة، ويتحدث عن الخطاط أحمد قره حصاري (ت963هـ/1556م)، الذي زين الفسيفساء الموضوعة خارج المبنى بخطه، وهو الخطاط نفسه الذي عمل في واحدٍ من أجمل مساجد عاصمة الدولة العثمانية مسجد السليمانية، بحسب ما ينقله تقرير لـ"TRT عربي."

وبحسب جلبي بقيت أعمال الترميم والتزيين في المسجد نحو 40 سنة. ويورد الدكتور بشير عبد الغني بركات في كتابه "القدس الشريف في العهد العثماني" عن الرحالة جلبي ملاحظة بديعة تصف الحالة الجمالية التي وصل إليها المسجد: "ولما كان السلطان العثماني في هذا الزمان هو أكثر حكّام العالم تشريفاً واحتراماً.. فقد جعل من هذا الصرح جنّةً لا مثيل لها على الأرض، لأنّ السلطان وحده هو القادر على أنْ يكون مالكاً لبيت الله".

سور القدس معلم المدينة السليمانيّ

ومع تعزيز أمن المدينة عبر إعادة بناء القلعة، كانت المدينة تعاني ضعفاً آخر، وهو تدمير سور المدينة، ما يجعلها عرضة للأخطار من دون أي حماية لها، فقد بقيت المدينة من دون سور، قرابة ثلاثة قرون. وفي عام 944هـ/1537م، أمر السلطان سليمان ببناء سورٍ جديد للمدينة، وأنجزت هذه المهمة في أربع سنوات، وهو إنجازٌ كبير من النواحي العمرانية والهندسية، وقد تتبع البناؤون أساسات السور الذي بناه الأيوبيون، وبلغ طوله نحو 4 كلم، ويُشير الدكتور بشير بركات إلى أن بناء السور، لم يكن لمواجهة أخطار خارجية فقط، بقدر بناء معالم تاريخيّة تخلد اسم بانيها، إضافة إلى أنها تمنح القدس، نمطاً من الحكم الذاتي، وهو ما فقدته منذ سنوات طوال.

جدير بالذكر أن السلطان العثماني، سليمان القانوني، عُرف عنه إلى جانب اهتمامه بالقوانين المستمدة من الشريعة الإسلامية، اهتمامه بالعمارة والبناء وما يتصل بها من تسهيل لشؤون الناس وأمور حياتهم.

كما أنه من أبرز وأقوى السلاطين العثمانيين، لما تركه من منجازاتٍ حضاريّة وفتوحاتٍ ضخمة، إضافةً إلى إصلاحاته الداخليّة، التي أسبغت عليه لقب القانونيّ.

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!