ترك برس

جرت أحداث أهم رحلة في حرب الاستقلال التركية قبل 102 عام، عندما خطى مصطفى كمال أتاتورك وأصدقاؤه الخطوة الأولى في رحلة التحرير، فما هي قصة الباخرة بانديرما، أحد رموز النضال في فترة الاستقلال، ومن هم ركابها؟

دخلت الدولة العثمانية في دوامة جديدة بمعاهدة هدنة موندروس، بعد هزيمتها في الحرب العالمية الأولى، واحتلال دول الحلفاء العاصمة إسطنبول في 13 تشرين الثاني/ نوفمبر 1918، وفي مصادفة مثيرة للاهتمام تم في نفس اليوم رسم مصير الأمة التركية، حين وصل مصطفى كمال باشا، قائد مجموعة جيوش البرق في أضنة إلى إسطنبول بالقطار، ثم استقل باخرة "كارتال" التابعة لقوات الاحتلال الفرنسي للانتقال من حيدر باشا إلى غلاطة، كان أسطول دول الحلفاء يبلغ 55 سفينة ويرسو عبر مضيق البسفور، وعند رؤية مصطفى كمال باشا، سفن العدو الحربية، قال عبارته المشهورة التي سجلها التاريخ: "يذهبون كما أتوا".

مكث مصطفى كمال باشا، حوالي ستة أشهر في منزل استأجره بمنطقة شيشلي في إسطنبول، التقى خلالها بالضباط والمثقفين، وقام بتشكيل استراتيجية حرب الاستقلال، مفكرا بالذهاب إلى الأناضول.

كان ميناء سامسون بوابة تفتح الطريق من البحر الأسود إلى وسط الأناضول، لذلك كانت لها أهمية كبيرة لدى قوات الاحتلال، كما أن بعض المتمردين حصلوا على دعم قوى أجنبية وقرروا إقامة دولة بالسلاح، مخططين لإنشاء دولة "بونتوس" في شرق البحر الأسود من سامسون إلى هوبا.

بعد إنزال الإنجليز وحدة عسكرية في 9 آذار/ مارس 1919 بميناء سامسون، حاولت الحكومة العثمانية التدخل لاستعادة النظام العام، لتبرز الحاجة إلى قائد موثوق في المنطقة يتمتع بسلطات غير عادية، كان أنسب شخص لهذه المهمة هو العميد مصطفى كمال، الذي كان متوجها إلى سامسون بصفته مفتشًا للجيش التاسع، لتتهيأ الفرصة المطلوبة لقيامة الأناضول.

تبادل وزير البحرية رؤوف أورباي، المعلومات الاستخباراتية التي تلقاها مع مصطفى كمال باشا، قبل الرحلة إلى سامسون التي كان يخطط لها يوم الجمعة 16 أيار/ مايو، وأخبره بعدم السماح لأي باخرة بالتحرك أو سيتم إغراقها في البحر الأسود، فأجابه مصطفى كمال: "لو ذهبت سيعتقلونني أو سيغرقونني، وما الذي سيحدث لو لم أذهب؟ سيعتقلونني أيضا، لكن ما الذي سيحدث للوطن والأمة؟ لذلك سأذهب".

انطلقت باخرة بانديرما، من رصيف غلاطة مع مفتش الجيش التاسع مصطفى كمال باشا برفقة أصدقائه الـ18، مواجهة أمامه طريقًا صعبًا في سبيل استقلال البلاد.

وصف الطبيب النقيب بهجت عادل فيزي أوغلو، تلك الرحلة بعد عدة أعوام بقوله: "كنا ننتظر في رصيف غلاطة قدوم مصطفى كمال باشا، فجاء ونزل من سيارته، وجاء وراءه فتحي أوكيار، ثم جاء رؤوف أورباي، وتحدثوا لمدة نصف ساعة وهم واقفون، وصعد مصطفى كمال باشا على متن قارب بمحرك للتوجه إلى باخرة بانديرما، الراسية على بعد مسافة طويلة من الرصيف، و توجهنا أيضا إلى الباخرة بقارب تجديف، وركبنا الباخرة وتحركنا، كل ذلك وقلوبنا يعتصرها الألم بسبب سماعنا خبر الاحتلال اليوناني لإزمير قبل ثلاثة أيام".

كانت رحلة باخرة بانديرما هي التي أشعلت شرارة النضال الوطني لأجل الاستقلال، حيث كان الإنجليز مسيطرين على البحر الأسود ومضيق البسفور في إسطنبول، وأوقفت قوات الاحتلال الباخرة قبالة برج الفتاة للتفتيش، وتوجه مصطفى كمال باشا، بالحديث إلى أصدقائه في أثناء بحث  الجنود في الباخرة قائلا: "يعتمد هؤلاء الرجال على الحديد والفولاذ وقوة السلاح فقط، ولا يعرفون سوى المعدن، إنهم عاجزون عن فهم قوة وقدرة الأمة المصممة على القتال لأجل الاستقلال والحرية، نحن لسنا مسلحين ولسنا في الجبهة، إلا أننا نملك عقولا مملوءة بالقيم والإيمان".

ونظرا لأن باخرة بانديرما لم تكن تحمل أسلحة، فقد واصلت طريقها في البحر الأسود، ونادرا ما كان مصطفى كمال باشا، يغادر غرفته. هبّت عاصفة قوية في أثناء مسير الباخرة، التي وصلت إلى إينبولو في 17 مايو، و إلى ميناء سينوب في 18 مايو، وكان كمال باشا حريصًا على التحقق من أمن الطريق ليس من الأمواج العاتية من سينوب إلى سامسون، بل من أي هجوم محتمل، ولم تكن الرحلة البرية آمنة بسبب الطرق التالفة ومهاجمة العصابات اليونانية، لذلك أمر مصطفى كمال باشا، بتغيير مسار الباخرة بعد حصوله على مرسى في ميناء سينوب، لمعرفته بأن السفن الحربية البريطانية ستغرقه بمجرد رؤيته، وفي حال انقطع بهم السبيل في الباخرة سيواصل رحلته برا إلى سامسون. رست الباخرة بعد مجابهتها للأمواج العاصفة في ميناء سامسون صباح 19 مايو 1919، ولم يكن أحد يعرف بأن مصطفى كمال باشا، الذي وصل إلى سامسون قبل 102 عاما، بصفته مفتشا للجيش التاسع، سيغير مصير الأمة التي كانت تناضل للبقاء، فقد كانت شوارع سامسون مليئة بالأحقاد والضغائن، وبدأ الكفاح الوطني.

صرح رئيس الوزراء البريطاني آنذاك لويد جورج، عند هزيمته من قبل العثمانيين بقيادة أتاتورك، بالرغم من تسلحه بأقوى أسلحة العالم قائلا: "يمكن لتاريخ البشرية أن ينمو بعبقرية في غضون قرون قليلة، لقد خرج سوء حظنا هذه المرة من الأناضول، التي تصدّت لنا، ما الذي يمكننا فعله؟".

من أهم أبطال الباخرة الذين غيروا مجرى التاريخ؟

كان أهم ركاب الباخرة الذين أشعلوا شرارة الاستقلال العميد مصطفى كمال باشا مفتش الجيش التاسع، إلى جانبه 18 من أصدقائه، والعقيد الركن رفعت باي، قائد الفيلق الثالث في الأعوام التالية والذي كان من أكبر الضباط بعد أتاتورك، وخدم كجندي وسياسي، ورئيس الأركان العقيد كاظم باي من بيتولا، ورئيس التفتيش الصحي الدكتور العقيد إبراهيم طالي باي، ونائب رئيس الأركان محمد عارف باي، و مدير المخابرات الرائد خسرو باي.

وكان من بين ركاب الباخرة أشخاص شاركوا لاحقا في إدارة شؤون البلاد، مثل الرائد الدكتور رفيق باي، أحد رؤوساء الوزراء السابقين، ورائد المدفعية كمال باي، الذي شغل منصب نائب في الأعوام التالية، وكابتن المشاة جواد عباس، والنقيب علي شوكت، والنقيب مصطفى وصفي، والملازم مظفر، كان إجمالي عدد الركاب 76 شخصا، منهم 22 شخصا هم أتاتورك ورفاقه في المقر، و25 جنديا، و8 أشخاص مستشارين وكتبة، و21 شخصًا من أفراد طاقم الباخرة.

نبذة تاريخية عن الباخرة بانديرما

تم بناء الباخرة عام 1878 في اسكتلندا، كمركب بخاري للركاب والشحن، بسعة إجمالية تبلغ 279 طنا، وقام المالك الأول للسفينة شركة روبنسون ودوسي بتشغيل الباخرة لمدة 5 اعوام تحت اسم توروكاديرتو، وتم تغيير إسمها إلى كيمي Kymi بعد بيعها لليونان في عام 1883.

تم نقل سجلها في ميناء بيربوس إلى الخطوط البحرية العثمانية "إدارة مخصوصي" في عام 1894، ورفع عليها العلم العثماني وأطلق عليها اسم بانديرما، وقامت برحلات نقل ركاب وشحن فيما بين أرديك وكارابيغا وشاركوي ومورفته وتكيرداغ وفي سواحل بحر مرمرة.

بدأت تعمل بانديرما كباخرة بريدية في 28 تشرين الأول/ أكتوبر 1910، لكنها أصيبت بطوربيد من قبل الغواصة البريطانية E_11 في 28 مايو 1915، وغرقت قبالة سيليفري، وتم إصلاحها في القرن الذهبي. وواصلت خدماتها البريدية بعد رحلة حرب الإستقلال في 19 مايو 1919.

أنهيت خدمات الباخرة في عام 1924، كما تم تفكيكها وبيعها بعد عام في 1925. ويبلغ طول الباخرة بانديرما 47,7 مترا، وعرضها 6,83 مترا، وارتفاعها 4,27 مترا، وكانت قوتها البالغة 50 حصانا قادرة على تحقيق سرعة قصوى تبلغ 9 أميال في الساعة.

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!