ترك برس

بالرغم من مضي أعوام على رحيل رئيس الوزراء التركي الأسبق، نجم الدين أربكان، إلا أن الأفكار والمشاريع التي كان ملهماً لها، لا يزال صداها منتشراً في أنحاء أوروبا والولايات المتحدة وغيرها من البلدان المختلفة حول العالم، وذلك بفضل مؤسسة المجتمع الإسلامي في أوروبا "ميلّي غوروش" التي توصف بأنها الجمعية الإسلامية الأكبر في القارة العجوز.

الحركة الاجتماعية الدينية التي تمثل المجتمعات التركية في الخارج، تستلهم أفكارها من مؤسسها نجم الدين أربكان، وتنشط في بلدان القارة الأوروبية إضافة لبلدان أخرى مثل أستراليا وكندا والولايات المتحدة.

ومؤخراً، باتت المنظمة المذكورة في عين العاصفة في العديد من دول أوروبا، شأنها في ذلك شأن منظمات مدنية تتعرض لضغوط سياسية مختلفة في ظل صعود سياسات اليمين الأوروبي، لا سيما وأن "ميلّي غوروش" مصرة على عدم التوقيع على ميثاق المبادئ الإسلامية الذي أعدته الحكومة ويحمل اسم "ميثاق مبادئ الإسلام الفرنسي"، بصيغته الحالية ما لم يتم إجراء تعديلات عليه.

وفي حوار أجراه مع "الجزيرة نت"، كشف نائب رئيس "ميلي غوروش"، حقي شيفتشي، عن أثر ذلك السجال السياسي الأوروبي على نشاط المؤسسات المجتمعية في أوروبا ودور المؤسسة في ذلك السجال وللتعرف على أنشطتها ورؤيتها للتعامل مع تلك الضغوط.

وفيما يلي نص الحوار مع "شيفتشي":

بداية، نريد التعرف إلى فكر مؤسسة المجتمع الإسلامي في أوروبا، من خلالكم، ما هو فكركم وما هو نشاطكم في أوروبا؟

نحن منظمة غير حكومية تم تأسيسها بعد هجرة مجتمعات مسلمة من الشرق إلى الغرب المتطور صناعيا ومدنيا، لماذا تخلف المسلمون وهاجر ملايين من الشرق إلى الغرب؟ هذه هي الأسئلة التي يجب أن نهتم بها؛ فحتى الآن البلاد المسلمة لم تتمكن من قطع المسافة بين الغرب والشرق، وهناك مشكلات التعليم والرفاهية والتنظيم الاقتصادي وهناك عدم تحقق بمفاهيم العدالة وانتهاكات حقوق الإنسان، وإن تمكن المواطنون في بلاد المسلمين سيهاجر المزيد منهم إلى الغرب.

لكنّ هؤلاء المهاجرين حملوا معهم أيضا الوحدة والغربة عن ثقافاتهم ومعتقداتهم الخاصة بعد أن تركوا مجتمعاتهم الأصلية التي هاجروا منها، وأثناء هذه الهجرة إلى الغرب ارتفع صوت من تركيا ينادي "أولا الأخلاق والروح" وهلموا لنبني تركيا متطورة جديدة، وينبغي أن يتم وصل المسافة بين الشرق والغرب.

وفي هذا السياق سمى الأستاذ الراحل نجم الدين أربكان هذه الروح "ميلّي غورش" أي "فكر الأمة"، فقد كان المسلمون يشعرون بالإحباط في تلك المرحلة، وكان الاقتصاد والصناعة يتم جلبهما من الخارج؛ ولهذا هاجر المهاجرون إلى الغرب.

حينها قال أربكان ينبغي أن يكون هناك مفهوم نابع من تاريخنا وديننا وأمتنا، وكلمة "ميلي" عندنا ليست قومية، وأراد أن يحقق مستوى التنمية والرفاهية في الغرب بروحنا وقيمنا الجديدة، لأنه استوعب وحي ورسالة القرآن، وأوامره بالاجتهاد والاعتبار والنظر والتفكر والتعقل.

هاجر المهاجرون إلى الغرب ورأوا التطور والتنمية والازدهار والحرية والسلام في المجتمعات التي هاجروا إليها، وبدأوا بالمقارنة بين العالمين، واستخدم أربكان تعبير "الأخلاق والروحانية أولا"؛ للتعبير عن ذلك التوق الذي شعر به المهاجرون، وأملوا بالعودة به إلى بلدانهم الأصلية أيضا.

وحصل أربكان على الدكتوراه من جامعة "آخن" الألمانية، وكان مهندسا متميزا فهم تطورات الغرب بعمق وأجاد الألمانية بطلاقة، وفهم الغرب من الداخل، وأرشد المهاجرين في مرحلة لم يكن لهم أدلاء وعاش بعضهم بلا هوية ولا شخصية.

من ناحية أخرى شكل أربكان الحكومة واهتم بالمجتمعات المهاجرة بالخارج ومشاكلهم، لكننا أيضا -بوصفنا مجتمعات مسلمة في الغرب- نقول إن كل يؤخذ من كلامه ويرد، ونحن لا نتبنى كل أفكار الأستاذ الراحل بالضرورة.

هل تعتبرون أنفسكم أتراكا في الغرب أم مواطنين غربيين من أصول تركية؟

نحن نحافظ على ثقافتنا وتراثنا وألسنتنا؛ البوسنية والعربية وما إلى ذلك، وليس التركية فحسب، ولكن نشعر أننا مواطنون محليون غربيون أيضا.

تقصد أنكم لستم مجتمعا تركيا مهاجرا فحسب؟

نحن حركة للأمة، وفي بعض مساجدنا الإدارة والمصلون كلهم عرب، وفي بعض المناطق 70 أو 80% ربما من بلاد مختلفة مثل الصومال مع أقلية من الأتراك مثلا، لأننا نحن نؤمن ونعمل في الساحة بروح الأمة.

كثير من المناطق في أستراليا وكندا؛ ترى في مؤسساتنا ومساجدنا العرب خاصة، وبعض المسلمين من أفريقيا وباكستان وبنغلاديش ممن ليس لهم جوامع نخصص لهم بعض الأيام لممارسة نشاطهم، حيث يمارسون أنشطتهم التعليمية والتربية وتعليم أبنائهم مع أهلهم وأسرهم، بلغاتهم الخاصة.

لكنكم لا تمارسون السياسة في أوروبا؟

نحن جمعية مجتمع مدني (غير حكومية)، عندنا آمال كبيرة من السياسيين، لكننا لسنا حركة سياسية.

بعض التحولات في الغرب تفرض الانشغال بالسياسة، خصوصا مع صعود سياسات اليمين الجديد، ما رأيكم؟

لا نحتاج لهذا لأن في العالم الغربي نحن نقبل النظام الدستوري ودولة القانون ونظام العدالة، ونحن نحترم ذلك النظام الذي تأسس على الحقوق والفصل بين السلطات، وهناك مساواة كأفراد في المجتمع؛ فكل الناس متساوون أمام الحقوق.

لأجل هذا لا يحتاج المسلمون ممارسة سياسية "مستقلة" في مظلة أخرى مختلفة عن نظام الحقوق والعدالة المعمول به؛ فالنظام القانوني والحقوقي في الغرب ضمان المسلمين.

الغرب منذ عام 1600 استحدث النظام البرلماني، ولكن نظام توزيع السلطات والقوى في تلك المرحلة تم استلابه أحيانا ليرتكب جرائم كبيرة بحق المجتمع مثلما فعل هتلر؛ ولهذا وصل الغرب لقناعة بأن استحداث البرلمانات لا يكفي، بل يجب العمل بنظام توزيع السلطات؛ حيث يكلف السياسيون بالإجراءات، ولا يتدخلون في تشريع القانون ويلتزمون به، وينشط العمل المدني باستقلال كذلك؛ فكلمة تصدر من فم رئيس الجمهورية لا تعد قانونا.

وفي فرنسا بشكل خاص، ما الذي يجري؟

علينا أن ننظر إلى الماضي حتى نرى المستقبل، علينا أن نتذكر أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001، فبعد هذه المرحلة اعتبر الغرب أن العنف والتطرف مرتبطان بالمسلمين، وأيضا جاءت تنظيمات مثل "القاعدة" و"بوكو حرام" و"داعش" و"أبو سياف" و"الشباب" وارتكبوا الجرائم.

هؤلاء الدواعش ارتكبوا جرائم وجنايات، وقتلوا المسيحيين في بلاد عربية، مثل سوريا وليبيا؛ فحصل خوف وقلق في عالم الغرب وتم ارتكاب أعمال إرهابية في النمسا وفرنسا وأوروبا، فأحس الغربيون أن الخطر يعيش معهم جنبا إلى جنب، وأن المخاطر تقترب منهم.

في هذه الأثناء استغل اليمين المتطرف الوضع لتخويف المجتمع وتبنى سياسات الخوف من المسلمين وفعلا استطاعوا ذلك؛ وهذه سياسة رخيصة للغاية أن تتهم غيرك بغير حق لتربح انتخابات.

مع هذا الارتفاع في مخاوف وقلق المجتمعات الغربية؛ أبدت تلك الحكومات ردود فعل كما في فرنسا.

لكن هذه السياسات خاطئة وغير صحيحة ولا تستند إلى حقائق؛ لأن التطرف والإرهاب لا يتمثل بأي دين ولا عقيدة ولا مجتمع، ولهذا فإن التطرف والإرهاب ليس مهما من أين يأتيان فهما عدو الإنسانية.

وعلى الجميع أن يتحد ضد الإرهاب، والإسلام لم يكن في التاريخ يأمر بالتطرف والإرهاب؛ فالذي ينظر لقرون حكم الإسلام يدرك كيف يعيش البشر جنب إلى جنب وينتشر السلم والتعايش.

فقط في العالم الإسلامي عاش المجتمع جنبا إلى جنب والمجتمعات المختلفة والمذاهب والمعتقدات؛ وهذا دليل على تطبيق "لا إكراه في الدين"، والالتزام بالتسامح واحترام المعتقدات الأخرى.

ومنذ 60 سنة لم ينخرط أي فرد من أفراد منظمتنا في أي عمل عنف أو تطرف، وطوال أكثر من نصف قرن من الزمان لم يتعرض فرد من أفرادنا لقضية في المحكمة ترتبط بذلك.

ونحن نؤمن ونحترم الدستور والقانون وندرك مسؤوليتنا أمام الدول التي نعيش فيها. نحن في الغالب مواطنون في هذه الدول؛ ولهذا فإن اليمين المتطرف لا يستند لأصول ولا منطق ولا حقائق تشكل دليلا على الخوف من المسلمين.

سياسات اليمين الغربية تريد فقط أن تكسب أصواتا انتخابية بهذه الاتهامات الباطلة للمسلمين.

تقولون إنكم لا تمارسون السياسة، إذن لماذا يهاجمكم السياسيون؟

لأنه في الانتخابات الأخيرة حصلت مرشحة اليمين المتشدد في فرنسا على 34% من نسبة البرلمان، وفي إحصاءات فرنسا الآن يرون أنها ستكون متساوية في الأصوات مع الرئيس إيمانويل ماكرون.

إذن السبب ببساطة هو الانتخابات؟

نعم، ما يجري يرتبط بالانتخابات التي تشكل قلقا بالنسبة لكثيرين، والسياسيون يعرفون الحقائق ولا يؤمنون بهذه المغالطات.

وماذا عن تمثيل النساء والشباب والطلاب في حركتكم؟

"ميلي غوروش" حركة شبابية بالأساس؛ فمنذ تأسيسها كان لها رسائل إلى الشباب. والنساء في تركيا ظهرن أول مرة في الساحة السياسية في مرحلة ميلي غوروش.

وفي أوروبا الأنشطة النسائية والحركية بدأت في ميلي غوروش، ثم انتشرت، ونحن نهتم بنشاطات النساء بشكل خاص، وفي مساجدنا كلها على مستوى أوروبا لهن مكان خاص ومكان للراحة بداخل المسجد، وأماكن للفعاليات الاجتماعية والاجتماعات، ويتطور ذلك بشكل جيد حتى الآن.

إلى أن نصل لهذه المرحلة كـ"ميلي غوروش"؛ قمنا بأشياء وأنشطة كثيرة، ينبع ذلك أساسا من الاهتمامات بالنساء والشباب.

ولدينا منظمة مستقلة للشباب ومنظمة نسائية كاملة بإدارة مستقلة، فمثلا في ألمانيا 16 منطقة، ولكل منطقة منظمة شبابية وأخرى نسائية مستقلة، وفي كل مسجد هناك إدارة للرجال وإدارة للنساء وإدارة للشباب وإدارة للشابات، وإدارة نسميها نجوم (أعمارهم بين 12 و16)، يعني 5 إدارات في كل مسجد ومنطقة ومركز عام.

ونهتم بشكل خاص بالأنشطة التعليمية، ونحن نبدأ منذ سنتين ونصف من أعمار أولادنا وحتى انتهاء المرحلة الجامعية إلى أن يكملوا دراستهم في الجامعة نكون معهم في إطار المؤسسة.

ولأجل هذا حركتنا مليئة بالحيوية، ومساجدنا مليئة بالمجموعات والشباب، وفي رمضان مثلا مساجدنا مليئة بالفعاليات والإفطارات الجماعية والسحور الجماعي والصلاة جماعة وحلقات القرآن.

وبالنسبة لغير المسلمين في أوروبا، هل لديكم أنشطة اجتماعية موجهة إليهم؟

لدينا أنشطة خيرية في آسيا وأفريقيا وفي نفس الوقت ندعم المحتاجين والفقراء في الغرب أيضا، ونوزع الشوربة الساخنة للذين يعيشون في شوارع الغرب، ونقيم حملات لذوي الاحتياجات الإنسانية ونؤمن بوصية الرسول عليه الصلاة والسلام الذي كان يعطي المسكين أيا كان دينه.

يقولون في أوروبا، إن لكم تعليما موازيا ومجتمعا موازيا، كيف تفسرون ذلك؟

هناك إطار عام من حرية العبادة والتعليم والتعبير، مضمونة في دساتير الغرب، وكل أنشطتنا تكون في إطار هذه الحقوق والقوانين والدساتير المعمول بها، وهذه الاتهامات الباطلة -التي يوجهها السياسيون اليمينيون المتطرفون- لا تستند لحقائق لأن القانون يمنحنا الفرصة لإقامة أنشطتنا المدنية.

ونحن مثل المواطنين الآخرين أمام القانون، لنا كل ما لهم من حقوق، وعلينا نفس الواجبات.

وماذا عن تعاون المجتمعات العربية والتركية في أوروبا؟

أحيانا نتعاون وننجح وأحيانا نفشل، لكن لكل مجتمع أولوياته بحسب الخلفيات المختلفة.

في الحقيقة هناك أسس لا نختلف عليها، نحن نعمل معا مع المسلمين الذين يحترمون الدساتير والقانون، عندنا فقط مسافة من الذين يركنون إلى العنف والتطرف.

أنتم تؤكدون أنكم ضمانة للاعتدال في أوروبا، لماذا لا تتعامل معكم الحكومات الغربية كحليف في هذا السياق؟

الغرب يتشارك نفس الثقافة والمعتقدات (المتجانسة) والمسلمون هاجروا مؤخرا قبل 60 سنة فقط، وهذا شيء عادي، يمكن أن يترددوا في قبول المسلمين، ولكن ذلك مؤقت، وسوف يتعودون.

"بسمارك" أركب الرهبان القطار وأرسلهم إلى الفاتيكان، وسيحتاج الأمر وقتا حتى يتم استيعاب المسلمين في أوروبا والاعتراف بهم كجزء من الغرب، ولكي يتقبلوا قيم المسلمين.

وقد عاش اليهود في القرن الماضي نفس التجربة، وما يجري حاليا يعتبر مرحلة قبول مبدئي سيتوج بالمزيد من التفهم.

إذن، لماذا رفضتم التوقيع على ميثاق العلمانية في فرنسا؟

هذه الوثيقة كنا نتشاور حولها، ونحن رأينا بعض هذه المقاطع في الميثاق لا نحتاجها؛ فنحن نحترم القوانين والدساتير ونعيش على هذا الأساس، لكن بعضهم يريدون أن يُظهرونا بأننا لا نحترم الدساتير والقانون وهذا الميثاق مخالف للدساتير.

نحن منفتحون على كل الآراء والمقترحات مع الآخرين ولم نترك طاولة أثناء النقاشات لم نشغلها، ولكن 4 منظمات غير حكومية مستقلة اتفقوا فيما بينهم على هذا الميثاق ووقعوا عليه وأرادوا أن يجبروا البقية على التوقيع عليه. لقد أصروا علينا ونحن صرحنا بأن بين الجمعيات المدنية لا بد أن يكون هناك ديمقراطية وحوار؛ ولذا تحفظنا أن يكون الميثاق بهذا الشكل.

قلنا لهم من الممكن أن نختلف معكم ونجلس على طاولة واحدة نناقش معا مضمونه، ولم يصدر منا أي رد، وفقط 4 مؤسسات مدنية تركت الطاولة واتفقت فيما بينها ونشرت الميثاق فيما بينها، وتحدثت كأننا تركنا الطاولة ورفضنا الحوار والنقاش، ولكن هذا غير صحيح.

هم جاؤوا بالميثاق جاهزا وقالوا يجب أن نوقع، ونحن لم نقبل ذلك. نحن لم نقرر معا حتى نوقع، نحن قلقنا من أن نسكت على هذا الخطأ فيمكن مستقبلا أن يقروا قرارات ضدنا بدون أي علم

وبالنسبة لجامع أيوب في ستراسبورغ كيف يسير المشروع الآن؟

لا يوجد أي مشكلة في المشروع، هذا مشروع بلدية ستراسبورغ الذي أيدته الجماعات الدينية المختلفة والبلدية والمحافظ ومجلس البلدية، وهذا المشروع ليس للمسلمين فقط؛ وإنما يعتبر جزءا من ميراث التراث الثقافي الفرنسي، والمجتمع الفرنسي هو الذي يبني هذا التراث الثقافي.

وهذا الجامع يمثل المسلمين في فرنسا، وبنفس الوقت معلم من معالم التسامح والتعايش المشترك في أوروبا، ومعلم أيضا من معالم ثقافة التعايش المشترك، وهذا المشروع أكثر من مشروع المسجد، ويضم مجمعا به مكتبة وقاعات ومدرسة وما إلى ذلك.

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!