ترك برس

أكد تقرير نشرته مجلة "فورين أفيرز" الأميركية، على أن تركيا وسياساتها هي العائق الأكبر أمام مساعي روسيا للهيمنة على البحر الأسود.

التقرير الذي أعدته أنجيلا ستنت، الزميلة البارزة غير المُقيمة في معهد بروكينغز، تناول معركة النفوذ الحامية في البحر الأسود، وكيفية إدارة روسيا هذه المعركة مع حلفائها وخصومها، بحسب ما ترجمه موقع "ميدان."

وفيما يلي النص الكامل للتقرير:

ألقى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خطابا حماسيا يوم 25 يوليو/تموز الماضي بمدينة سان بطرسبرغ إحياء للذكرى الـ325 لتأسيس البحرية الروسية، وأعلن من أمام تمثال بطرس الأكبر، مؤسِّس الأسطول الروسي والقيصر الأقرب لقلب بوتين، أن البحرية الروسية "تملك اليوم كل ما تحتاج إليه لضمان الدفاع عن بلادنا ومصالحها الوطنية. نحن قادرون على كشف أي اعتداء صادر عن غواصة أو من على سطح البحر أو قادم من الجو، والتعامل معه وتوجيه ضربة فورية عن قُرب إذا لزم الأمر".

جاء خطاب بوتين مصحوبا بعرض عسكري مذهل للعتاد البحري، للتدليل على تصريحاته وعلى التحديث العسكري الروسي أثناء العقدين الماضيين. لقد هيَّج صعود روسيا بوصفها قوة بحرية أمواج البحر الأسود، فلطالما سعت موسكو لخلق مجال نفوذ بحري لها، وتُنذر تحرُّكات موسكو في البحر الأسود، بما فيها تحديث أسطولها وادعاء السيادة على المياه الإقليمية حول شبه جزيرة القرم، بقلب موازين القوى في البحر الأسود وشرق المتوسط، وتعريض حرية الملاحة للخطر، ليس في هذه المناطق فحسب، بل حول العالم كله.

العودة الروسية

لطالما نظرت روسيا إلى البحر الأسود بوصفه محور أمنها، فقد ضمَّت "كاثرين الثانية" (المعروفة بكاثرين العظيمة) شبه جزيرة القرم من العثمانيين الأتراك عام 1783، فيما دشَّن زوجها الأمير "غريغوري بوتِمْكين" في العام ذاته أسطول البحر الأسود في سيفاستوبول (عاصمة القرم المتنازع عليها بين روسيا وأوكرانيا الآن). وفي القرن التاسع عشر، تنافست روسيا مع القوى الأوروبية الكبرى والإمبراطورية العثمانية من أجل النفوذ في البحر الأسود ومحيطه. بيد أن موسكو صارت القوة المُهيمنة في المنطقة بحلول الحرب الباردة فقط لا قبلها، ولم توازنها قوة سوى تركيا العضو بحلف الناتو، هذا واستخدم السوفييت البحر الأسود لاستعراض قوتهم في شرق المتوسط.

بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، شهدت روسيا انقلابا مفاجئا في أوراقها بالبحر الأسود: لقد حصلت كلٌّ من جورجيا وأوكرانيا على استقلالهما، وسعيا إلى الاندماج مع الغرب، فيما انضمَّت بلغاريا ورومانيا إلى الناتو عام 2004؛ ما نتج عنه فقدان روسيا لحرية الوصول إلى أجزاء من ساحل البحر الأسود تحكَّمت فيها من قبل بطريقة مباشرة أو غير مباشرة. اتفقت روسيا وأوكرانيا آنذاك على تقسيم أسطول البحر الأسود فيما بينهما، وظلَّ مقر قيادته في مدينة سيفاستوبول. وقد جدَّدت كييف عام 2010 حق روسيا في إيجار قواعد الأسطول حتى 2042، لكن بعد هرب الرئيس الأوكراني "فيكتور يانوكوفيتش" الموالي لروسيا من البلاد في فبراير/شباط 2014، وتولي حكومة جديدة موالية للغرب، خشي بوتين أن تعدل كييف عن الاتفاق.

ومن ثمَّ سرعان ما بدأت روسيا عودتها العنيفة إلى منطقة البحر الأسود من جديد، ففي مارس/آذار 2014، استحوذت موسكو على شبه جزيرة القرم، واستولت على معظم السفن الأوكرانية في سيفاستوبول، ما أجبر البحرية الأوكرانية على نقل مقر القيادة إلى مدينة "أوديسا" غربي البحر الأسود. ساق بوتين الحُجج على حق روسيا في تحرُّكاتها تلك بادعاء أن "سفن الناتو كان سينتهي بها المطاف داخل مدينة مجد البحرية الروسية، سيفاستوبول" في حال لم تستول روسيا على القرم بضربة استباقية. ومنذ ذلك الحين، زادت روسيا من مناطق سيطرتها الفعلية على ساحل البحر الأسود إلى ثلاثة أمثالها، وعزَّزت قوتها الصاروخية في المنطقة، وقويت شوكتها هناك عبر حزمة من التكتيكات في المجالات العسكرية والدبلوماسية والاقتصادية، وكذلك في مجالَيْ الطاقة والمعلومات.

لطالما عمل بوتين على إحياء قوة روسيا البحرية منذ دخوله الكرملين قبل عقدين، ماحيا حقبة انهيار بحري حاد، ومؤسِّسا لبحرية أخرى متعددة الأهداف وأكثر مرونة وحداثة. ولكن روسيا ذهبت إلى ما هو أبعد من ذلك، ومنذ ضم القرم عام 2014، نشرت قواعد وقوات وأسلحة جديدة في البحر الأسود ساعدتها على زيادة نفوذها في شرق المتوسط، الساحة الجوهرية لعمليات موسكو الداعمة لرئيس النظام السوري بشار الأسد. علاوة على ذلك، طوَّرت روسيا قاعدتها البحرية في مدينة طرطوس السورية، في خضم محاولتها الأوسع لإيجاد موطئ قدم يُعيدها إلى الشرق الأوسط.

في الوقت نفسه، ادَّعت روسيا سيادتها على المياه الإقليمية حول القرم، وسعت إلى السيطرة عليها. ففي 23 يونيو/حزيران الماضي، على سبيل المثال، دخلت المدمِّرة البريطانية "إتش إم إس ديفندر" (HMS Defender) إلى منطقة الـ12 ميلا الإقليمية حول القرم لفترة وجيزة، وكان من حقها الدخول بموجب بند "المرور البريء" الوارد في اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار. وقد خطَّطت بريطانيا للتدريب العسكري، وأقلَّت على متن سفينتها صحافيين لمواجهة ادعاء روسيا بسيادتها على محيط القرم ولضمان حرية الملاحة. بيد أن روسيا ردت ردا غاضبا، فأطلقت طلقات تحذيرية باتجاه المدمِّرة البريطانية، واستنكرت لاحقا ما وصفه بوتين بالاستفزاز البريطاني-الأميركي. كانت تلك "بروفة" للمواجهات البحرية التي يُرجَّح تزايد وتيرتها بينما تسعى روسيا لإجبار العالم على قبول ضمها للقرم، وبينما تسعى كلٌّ من روسيا والصين إلى تقويض الأعراف البحرية العريقة القائمة منذ زمن.

أثار السلوك الروسي حفيظة الدول المُطِلَّة على البحر الأسود، بما فيها جورجيا وأوكرانيا، لا سيما وقد غزت روسيا الدولتين بالفعل (جورجيا عام 2008 وأوكرانيا منذ 2014) سعيا منها إلى عرقلة انضمامهما إلى الناتو، وهي تحتل أجزاء من أراضيهما بالفعل حتى اللحظة. ونتيجة لذلك، تمتلك الدولتان حاليا علاقات عدائية مع موسكو، وتعملان مع الناتو على تقوية دفاعاتهما البحرية. هذا ويُصِرُّ بوتين على أن الروس والأوكرانيين "شعب واحد"، وأن تعاون الأوكرانيين مع الناتو يُمثِّل تهديدا للأمن القومي الروسي، ما زاد من حِدَّة التوترات، وأثار المخاوف من اجتياح روسي موسَّع لأوكرانيا.

أما رومانيا، العضو في الناتو، فهي قلِقة مثلهما من القدرات العسكرية الروسية، ومُتشكِّكة في دوافعها، في حين تمتلك بلغاريا، وهي عضو آخر في الحلف، علاقات أوثق وأعقد مع موسكو، لكنها لا تزال ملتزمة بالاندماج مع الغرب. وفي نهاية المطاف، تُفضِّل كلٌّ من رومانيا وبلغاريا وجودا أكبر للولايات المتحدة والناتو في المنطقة.

بيد أن الدولة المُطِلَّة على البحر الأسود التي سيؤثِّر موقفها أكثر من غيره على محاولة بوتين بسط هيمنته البحرية على المنطقة هي تركيا. تتشارك روسيا وتركيا تاريخا طويلا من الصراع الذي اتخذ من البحر الأسود مسرحا له في معظم الأحيان. ولكن منذ محاولة الانقلاب الفاشلة على الرئيس رجب طيب أردوغان عام 2016، تقاربت الدولتان سياسيا، ويرجع السبب في ذلك بنسبة كبيرة إلى دعم بوتين لسردية أردوغان بشأن محاولة الانقلاب، وإحجامه عن انتقاد الرئيس التركي فيما يخص حملته ضد معارضيه. وفيما يبدو ردا للجميل، اشترت تركيا أنظمة الدفاع الجوي المُتقدِّمة "إس-400" من موسكو، ما أغضب الناتو ودفع الولايات المتحدة لشطب تركيا من برنامج طائراتها المقاتلة "إف-35".

غير أن العلاقات التركية الروسية لا تتسم بالتعاون على طول الخط، إذ يدعم كلٌّ منهما طرفا عسكريا مناوئا للآخر في كلٍّ من ليبيا وسوريا، وفي الحرب الأخيرة بالقوقاز حول إقليم "ناغورني قره باغ"، دعمت تركيا أذربيجان بينما توسَّطت روسيا بين أرمينيا وأذربيجان المتحاربتَيْن. وبعد وقف إطلاق النار، اضطرت روسيا إلى قبول دور تركي لحفظ السلام في "جوارها القريب". وتأجَّجت التوترات بينهما كذلك على خلفية دعم أردوغان القوي لأوكرانيا وموقفه العلني من شبه جزيرة القرم، وأنها أراضٍ أوكرانية لا روسية. وقد سلَّمت تركيا طائرتها المُسيَّرة المسلحة الأولى إلى البحرية الأوكرانية في يوليو/تموز الماضي، ما يُعَدُّ علامة على تعمُّق العلاقات العسكرية بين تركيا وأوكرانيا، وهي علاقات ستُزعج روسيا لا شك.

لدى أنقرة نفوذ وتأثير كبير على موسكو، إذ يمكنها السماح بمرور سفن الناتو إلى البحر الأسود أو منعها. وطيلة 85 عاما مضت، نظَّمت تركيا حركة السفن التجارية والعسكرية من البحر وإليه بموجب معاهدة مونترو، التي تضمن حرية عبور سفن الشحن عبر المضائق التركية في أوقات السلم، وتتضمَّن مجموعة من البنود لتنظيم مرور السفن الحربية، على سبيل المثال، تنص الاتفاقية على إشعار تركيا سلفا قبل مرور سفينة حربية. وقد حافظت أنقرة بدورها على سياسة لم تحِد عنها في تطبيق معاهدة مونترو، ما يعني أنها منعت عبور سفن للناتو من حين لآخر.

في السنوات الأخيرة، تدفع الولايات المتحدة تركيا نحو تبني صيغة أكثر ليبرالية لمعاهدة مونترو، حتى يستطيع الناتو توسيع وجوده في البحر الأسود. وحتى الآن، ترفض تركيا هذه المطالب، بيد أنها قد تكون على شفا قلب المعاهدة رأسا على عقب لأسباب تخصها، إذ أعلن أردوغان عن مشروعه المثير للجدل لشق قناة موازية للبوسفور في إسطنبول، التي ستُحوِّل المجرى الملاحي بعيدا عن مضيق البوسفور المكتظ بالسفن ونحو ممر مائي صناعي غرب إسطنبول. لن تخضع هذه القناة الجديدة إلى معاهدة مونترو، ما يعني أن سفن الناتو الحربية قد تتمتع نظريا بمرور بلا قيود عبرها نحو البحر الأسود. ليس غريبا إذن أن بوتين قد انتقد هذا المشروع، بل وضغط على أردوغان للحفاظ على معاهدة مونترو.

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!