عبد الحافظ الصاوي - TRT عربي 

عندما وقعت الأزمة المالية العالمية عام 2008، كان سببها تضخم المؤشرات المالية والنقدية للبنوك بأمريكا على غير الحقيقة، إذ كانت تمنح القروض لعملاء تعلم تماماً أنهم غير قادرين على سدادها، ولكنها كانت تُقْدِم على ذلك لقبول العملاء بسعر فائدة كبير، وكان مديرو البنوك يضخمون ميزانياتها بأرباح وهمية، ويحصلون على مكافآت وأرباح نهاية العام.

كما تُعلمنا تجارب الدول الصاعدة، أن الانتقال إلى الحرية الكاملة للمؤسسات النقدية والمالية من بورصات واستقدام الأموال الساخنة وإطلاق يد البنوك في إطار تحرير سعر الفائدة وسعر الصرف، يحتاج إلى تدرج وانتقال يتناسب مع نمو الاقتصاد الحقيقي لكل دولة على حدة.

ففي عام 1997، كانت اقتصاديات دول جنوب شرق آسيا معرضة للضياع بالكلية، لولا امتلاك تلك الدول الشجاعة للقيام بمراجعة قواعد العولمة فيما يتعلق بحرية المؤسسات المالية والنقدية، فأعادت للبنوك المركزية كامل سلطاتها الرقابية، ووضعت قيود على حركة العملات الأجنبية والأموال الساخنة، لتحمي ما لديها من عمل وإنتاج.

ماذا حدث في تركيا؟

بعيداً عن العواطف، فتركيا لديها ناتج محلي إجمالي ضخم، انتقل من 1.8 تريليون ليرة عام 2013، إلى 5.05 تريليون ليرة عام 2020 وذلك وفق أرقام قاعدة البنك الدولي، ولديها قطاع سياحي يضعها بين المقاصد السياحية العشرة الأولى في العالم.

إذ بلغت العوائد السياحية السنوية نحو 40 مليار دولار قبل أزمة كورونا، وكان الناتج المحلي الإجمالي لتركيا عام 2020، وهو عام أزمة كورونا التي ضربت معظم اقتصاديات العالم، إيجابيًا بنحو 1.7%، ووفق تقديرات المؤسسات المالية الدولية يُتوقع أن تحقق تركيا نحو 9% معدل نمو بنهاية 2021.

وفي أحدث بيانات معهد الإحصاء التركي، فقد بلغ معدل النمو الاقتصادي للبلاد في الربع الثالث من عام 2021 نسبة 7.4%.

ولكن بالنسبة لسعر الفائدة، فقد بلغ أدنى معدلاته في مايو/أيار 2013، عند 4.5%، وظل عند مستويات مقبولة حتى نوفمبر/تشرين الثاني 2016، ليبلغ 8%، وإن كان خلال هذه الفترة قفز في بعض الشهور إلى 9% و10%، ولكن لفترات ليست طويلة.

إلى أن كانت الصدمة، خلال الفترة من يونيو/حزيران إلى سبتمبر/أيلول 2018، إذ صعد سعر الفائدة إلى 16%، حتى وصل إلى 24% في سبتمبر/أيلول 2018. ودق هنا جرس الإنذار، لمخاوف أن تكتسح البلاد موجة جديدة يتحول بموجبها الاقتصاد التركي إلى اقتصاد ريعي تنتعش فيه المؤشرات النقدية والمالية على حساب النشاط الإنتاجي والاقتصاد الحقيقي. ما أقلق القيادة السياسية، فبدأت التوجهات بخفض سعر الفائدة وإقالة محافظ البنك المركزي لأول مرة وفق الصلاحيات الدستورية لرئيس الجمهورية.

واتجهت السياسة النقدية لتهدئة سعر الفائدة ليصل إلى 8.25% في مايو/أيار 2020، ثم تلى ذلك موجة جديدة من ارتفاع سعر الفائدة، ليصل إلى 19% في مارس/آذار 2021، وهو ما دعى الرئيس أردوغان لإقالة اثنين من محافظي البنك المركزي، كانا يريان أن المعالجة تقتصر في رفع سعر الفائدة، لتفادي أضرار انخفاض قيمة الليرة التركية.

هل سعر الفائدة هو المشكلة؟

لاشك أن تراجع قيمة الليرة التركية أزعج الكثيرين وفي مقدمتهم أرباب الأسر وذوي الدخول الثابتة الذين زادت عليهم أعباء المعيشة بشكل متسارع، إذ بلغ معدل التضخم قرابة 20%، وفزع المدخرون لتراجع قيمة ثرواتهم، فسارعوا لشراء العملات الأجنبية والذهب، وظل المستثمرون في حالة ترقب، وزاد همُّ من عليهم مديونيات بالعملات الصعبة، وكذلك مستوردي المواد الخام ومستلزمات الإنتاج.

ولكن على الجانب الآخر، استفاد المضاربون بشكل كبير، إذ تضخمت ثرواتهم خلال الأشهر الماضية، وكذلك من كانت لديهم مدخرات بالعملات الأجنبية، وبخاصةٍ من كانت لديهم مدخرات كبيرة، فيمكنهم الآن شراء الأصول بأسعار أفضل، سواء شراء الأراضي أو العقارات أو السيارات أو حتى المزارع أو المصانع.

القرار الخطأ

قرار رفع سعر الفائدة لمواجهة تراجع سعر العملة المحلية وكذلك مواجهة ارتفاع معدل التضخم، لم يراعِ التدرج بمعدلات قليلة من ناحية، ومن ناحية أخرى لم يراعِ التأثير السلبي على قطاع الاستثمار، وكذلك سحب الاستثمارات من بورصة الأسهم والسندات.

فالاتجاه الصعودي لسعر الفائدة من 15% في نوفمبر/تشرين الثاني 2020، وحتى يونيو/حزيران 2021 ليصل إلى 19%، تزامن مع صعود أسعار النفط في السوق الدولية، وكوْن تركيا مستوردة لكميات كبيرة من النفط، فتسبب ذلك في ضرر مزدوج على المنتجين والمستثمرين، وأدى إلى نقل سبب التضخم إلى جانب العرض، وهو ما يتضح من خلال ارتفاع تكاليف الإنتاج.

متى تنجح سياسة خفض سعر الفائدة.

لا يوجد شيء في الاقتصاد يعمل بمفرده، فهناك متغيرات وعوامل أخرى، إما تؤثر فيه وإما معه، إيجابياً أو سلبياً. وينطبق ذلك على خفض سعر الفائدة، فإذا صاحَب تخفيض سعر الفائدة فتح منافذ للاستثمار والإنتاج يمكنها استيعاب المدخرات، والأموال الراغبة في الاستثمار، فعندها يكون تخفيض سعر الفائدة إيجابياً، وهي الفرضية التي تعوِّل عليها سياسة الرئيس أردوغان، إذ يأمل أن يجني من وراء خفض سعر الفائدة، فتح مشروعات جديدة وزيادة الاستثمارات القائمة وتوظيف المزيد من العمالة وزيادة القوة الإنتاجية الموجهة للتصدير.

ويستلزم ذلك سرعة أداء الحكومة دور مروج المشروعات، بإعلان شركات مساهمة تلبي احتياجاتها الخدمية لتستفيد من الأموال الباحثة عن فرصة استثمار، على أن تكون حصة الحكومة بها لا تزيد على 10%، مما يمكنها من الرقابة على أعمال هذه الشركات، وفي نفس الوقت، يُكسِب هذه الشركات الثقة لدى أصحاب المدخرات، سواء كانوا من المواطنين أو من الأجانب المقيمين في البلاد أو خارجها.

أما إذا ظلت أبواب الاستثمار والإنتاج في نطاق ضيق، فسوف تتجه أموال المدخرين للمضاربة في شتى المجالات، مثل العملات المشفرة وبورصات الأسهم والسندات والعقارات والأصول الأخرى، ووقتها لن تُجدي سياسة خفض سعر الفائدة.

سعر الفائدة والربا

لفتت أنظار كثير ممن تابعوا الأزمة المالية العالمية عام 2008، تلك الكتابات التي أشارت إلى صحة منهج الاقتصاد الإسلامي القائم على المشاركة لرأس المال، وتحمله الربح والخسارة في النشاط الاقتصادي، وأن النهج الإسلامي أفضل من آلية الديون وسعر الفائدة.

ومع ذلك لم يتعلم العالم هذا الدرس، وعادت البنوك والأسواق والبورصات وكل المؤسسات المالية لتستكمل عملها وفق الآلية الخطأ، وهي الديون وسعر الفائدة.

والمتابع لتصريحات الرئيس أردوغان حول مخاطر سعر الفائدة، يجد أن الرجل يحارب سعر الفائدة المرتفع، لأنه يرى أن ارتفاع سعر الفائدة يضر باقتصاد بلاده، حيث قال في أحد تصريحاته "لم أدافع قط ولا أدافع ولن أدافع أبداً عن رفع سعر الفائدة الرئيسية".

والمخرج من هذه الدوامة، هو حزمة مسانِدة لسياسة تخفيض سعر الفائدة، والعمل على زيادة مساحة التمويل التشاركي في اقتصاديات البلاد، وإتاحة آليات بديلة لتمويل النشاط الاقتصادي، بعيداً عن آلية الديون وسعر الفائدة.

ويستلزم ما أعلنته الحكومة بمواجهة مخاطر الأموال الساخنة القادمة من الخارج، أن تعمل على الحد من المضاربة بكافة أشكالها.

 

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس