سعيد الحاج - عربي 21

بعد سنوات من التقارب والتنسيق ونسج التفاهمات، يبدو أن الأمور لم تعد تسير على ما يرام بين أنقرة وموسكو. فقد وردت مؤخراً إشارات عديدة تنبئ عن فتور في العلاقات، إضافة لتناقض المصالح والمواقف في عدد من القضايا وفي مقدمتها أزمة أوكرانيا بين روسيا والناتو.

في الأصل، كان التقارب الكبير بين تركيا وروسيا مدفوعاً بسببين رئيسين؛ الأول، تجاهل حلفاء تركيا الغربيين لمصالحها ومتطلبات أمنها القومي، وخصوصاً دعم الولايات المتحدة الأمريكية للمجموعات الانفصالية في شمال سوريا ومماطلتها في موضوع جماعة غولن، وكذلك عدم تعاونها هي أو أي دولة أوروبية أخرى مع تركيا في ملف التسليح، فضلاً عن لغة العقوبات والضغوط عليها من قبل كل من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.

والثاني أن روسيا فرضت نفسها بقوة على تركيا بعد تدخلها العسكري المباشر في سوريا في خريف 2015، بحيث قلبت الموازين العسكرية في سوريا من جهة، وباتت تتواجد على حدود تركيا الجنوبية من جهة ثانية، ما دفع الأخيرة لإعادة حساباتها بشكل جذري تجنباً لأي صدام مباشر معها.
والنتيجة أن تركيا بدت خلال السنوات القليلة الماضية أقرب لخصمها التاريخي روسيا وأبعد عن حلفائها التقليديين في الناتو. وقد استثمر بوتين بذكاء في الخلافات التركية- الأمريكية وعمّق الفجوة بين أكبر قوتين عسكريتين في الناتو، بحيث وصلت العلاقات بين أنقرة وموسكو لمستويات استراتيجية غير مسبوقة، بما في ذلك التنسيق في سوريا ومشاريع الطاقة العملاقة، مثل السيل التركي للغاز الطبيعي ومحطة أك كويو للطاقة النووية، وكذلك صفقة منظومة إس 400 الدفاعية الروسية.

استمر هذا التقارب التكتيكي لسنوات، فتجنب الطرفان الصدام في سوريا وليبيا، وأبرما عدداً من التفاهمات ومسارات التعاون في سوريا والقوقاز وغيرهما، وباتت القمم التي تجمع أردوغان ببوتين أكثر بشكل لافت من تلك التي تجمعه مع القادة الغربيين، لكن ذلك تغير مؤخراً.

فقد تراجعت وتيرة القمم واللقاءات بين أردوغان وبوتين العام الفائت بشكل لافت. صحيح أن جائحة كورونا ساهمت بذلك، لكنها ليست السبب الوحيد ولا الأهم بالتأكيد، حيث تراجع بشكل كبير عدد مرات التواصل الهاتفي أو عبر "الفيديوكونفيرانس" كذلك بين الرئيسين. كما أن هناك تناقضا واضحا في التصريحات والتعبير عن المواقف بينهما مؤخراً ولا سيما بخصوص سوريا، حيث سربت أنقرة تصريحات عن شروط أربعة لها للانسحاب من سوريا؛ بعد أن قال مبعوث بوتين الخاص لسوريا ألكسندر لافرنتييف بأن انسحاب تركيا وشيك، نقلاً عن ممثلها في محادثات أستانا الأخيرة.
ومن المؤشرات كذلك الرسائل المتبادلة بين الجانبين في البلقان. فعلى إثر التوتر القائم في البوسنة والهرسك وتهديدات ممثل الصرب في المجلس الرئاسي الثلاثي بالانسحاب منه والانفصال، قام وزير الدفاع التركي بزيارة كل من البوسنة والهرسك ثم كوسوفو. وفي كلمته أمام قوات بلاده في البوسنة قال أكار إن بلاده تتابع عن كثب التطورات هناك، وإن المحاولات الانفصالية لن تفيد أحداً، وإن تركيا تنادي دائماً بالوحدة والاتحاد.

في المقابل، فقد حضر السفير الروسي عرضاً عسكرياً للقوات الخاصة وشرطة جمهورية صرب البوسنة، وهم يهتفون "من أجل الصليب، من أجل الصليب"، ومرتدين زياً مشابهاً لزي القوات الصربية التي ارتكبت المجازر ضد مسلمي البوسنة في تسعينات القرن الماضي، ما يهدد باشتعال الحرب الأهلية مجدداً و/أو تفكك البوسنة والهرسك.

ثمة أسباب ثلاثة رئيسة لهذا المتغير المهم على صعيد العلاقات التركية- الروسية:

الأول، أن مسارات التنسيق والتفاهم بين تركيا وروسيا قد استنفدت أهدافها إلى حد كبير، ولم يعد هناك الكثير من إمكانات التفاهم أو تحقيق اختراقات في مختلف الملفات، ولا سيما سوريا وليبيا. بكلمات أخرى، لم يعد هناك الكثير من المكاسب التي يمكن أن يحققها الطرفان من أي تفاهمات مستقبلية، ولا عاد متصوراً أن يقدم أي منهما للآخر تنازلات كبيرة كما حصل في محطات سابقة. وتبدو اليوم أهمية البنى المشتركة بينهما (مثل مسار أستانا) في استمرار وجودها وليس في قدرتها على تحقيق اختراقات.

الثاني، التناقض الواضح في المصالح والمواقف بين الجانبين، ولا سيما في ملفي كازاخستان وأوكرانيا مؤخراً. ففي كازاخستان، ورغم التناغم الظاهري في موقف البلدين من الأزمة، إلا أن تدخل روسيا السريع الذي حسم التطورات لصالح الرئيس توكاييف لم يكن قطعاً للطريق على الناتو وحسب، وإنما كان كذلك على حساب دور تركيا ومصالحها في آسيا الوسطى. وفي أوكرانيا، فالموقف التركي التقليدي والذي كررته أنقرة مجدداً هو نفس موقف الناتو الذي يحذر روسيا من مغبة أي عمل عسكري ضد أوكرانيا ويهددها بالعقوبات كبداية، وكذلك عدم الاعتراف بضم شبه جزيرة القرم.
الثالث، استمرار الضغط الغربي عموماً والأمريكي على وجه الخصوص على تركيا بخصوص العلاقات مع روسيا، ولا سيما في مجال التسلح. فرغم مبادرات تركيا ومقتراحاتها المتكررة والخطوات التي اتخذتها بخصوص صفقة إس 400 الروسية، ما زالت واشنطن متصلبة حول فكرة العقوبات والضغوط ولم تبد أي مرونة حتى اللحظة، وليس من المنتظر أن يتبدل موقفها قريباً.

في الخلاصة، فقد أضيف ملف خلافي و/أو تنافسي جديد بين تركيا وروسيا اسمه كازاخستان، فضلاً عن تسخين ملف خلافي سابق هو أوكرانيا، ليضافا إلى مروحة واسعة من الملفات التنافسية بينهما من سوريا وليبيا إلى البحر الأسود وشرق المتوسط، ومن البلقان للقوقاز وآسيا الوسطى.

لا يعني ذلك بالتأكيد أن ثمة صداماً متوقعاً بين الجانبين، فقد أثبتا على مدى السنوات الماضية قدرتهما على تجنب ذلك بل وتعظيم مساحات التنسيق والتفاهم والحوار بينهما، وخصوصاً في لقاءات القمة بين الرئيسين. لكنه يعني أن "شهر العسل" الذي كان قائماً بينهما، والذي دفع البعض لتقييمات خاطئة ومتسرعة بخصوص توصيف العلاقات بينهما، قد انتهى وبدت ملامح مرحلة جديدة بينهما، وعادت الملفات الخلافية لتطفو على السطح وتفرض نفسها عليهما.
ولعل الأزمة الأوكرانية القديمة المستجدة هي مفتاح الإجابة على سؤال المستقبل بخصوص العلاقات بين أنقرة وموسكو، ذلك أن حلها بالوسائل الدبلوماسية سيبقى على مساحات التعاون ويغلّب لغة الحوار ويفتح المجال على إمكانية إعادة العلاقات لسابق عهدها، بينما ستكون الخيارات العسكرية والصدامية وصفة لمزيد من التوتر والتباعد، رغم أن أنقرة لن تتطابق بالضرورة مع موقف الناتو من روسيا بكافة تفاصيله الدقيقة.

وبالتأكيد فإن أنقرة ليست محصورة ولا محاصرة في سيناريو إما موسكو أو واشنطن، فقد انتهت الحرب الباردة منذ زمن بعيد ولم تعد مقتضياتها قائمة اليوم، وما زالت أنقرة حريصة على علاقات شبه متوازنة مع كليهما، لكن محطات التأزم والخلاف تضيق من ممكنات هذا الخيار وتدفع تركيا أكثر نحو مواقفها واصطفافاتها التقليدية.

عن الكاتب

سعيد الحاج

باحث في الشأن التركي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس