د. علي حسين باكير - عربي 21

تنكر روسيا وجود أي نيّة لها لغزو أوكرانيا في الوقت الذي لا تزال تواصل فيه تعزيز حشودها العسكرية على حدودها مع الجبهة الشرقية لأوكرانيا. وتشير بعض التكتيكات العسكرية الروسية إلى وجود خطط لتوسيع دائرة الصراع من أجل تشتيت جهود أوكرانيا الدفاعية وذلك من خلال إرسال قوات روسية ومعدّات عسكرية متطورة إلى بيلاروسيا المجاورة، حيث من شأن ذلك أن يضعف الدفاعات الأوكرانية وأن يخلق ثغرة تمكّن موسكو من النفاذ بسرعة إلى الداخل الأوكراني في حال قررت القيام بعملية عسكرية إنطلاقاً من الأراضي البيلاروسية. 

وتثير الأزمة الروسية ـ الأوكرانية تفاعلات واسعة على المستوى الدولي نظراً لما قد يترتّب عنها من نتائج تطال مصالح عدد كبير من اللاعبين الإقليميين والدوليين. ويقود الغرب مساعٍ محمومة في محاولة لردع روسيا في الوقت الذي تظهر فيه الولايات المتحدة حالة من الوهن والتردد، ويبرز الانقسام بشكل واضخ داخل أوروبا إزاء الطريقة الأمثل للتعامل مع روسيا في وقت تعتمد فيه ألمانيا سياسة مترهّلة تسترضي من خلالها روسيا عوضاً عن تعزيز سياسة الردع ضد موسكو. 

تركيا واحدة من الدول المهمّة في المنطقة والتي استطاعت خلال السنوات القليلة الماضية مدّ نفوذها في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا والقوقاز وآسيا الوسطى في وقت كانت ولا تزال تتعرض فيه إلى ضغوط غربية كبيرة. وتخضع الأزمة الروسية ـ الأوكرانية الأخيرة لنقاشات داخل أروقة صنع القرار في تركيا، فأنقرة ترتبط بعلاقات مهمة مع روسيا لاسيما على صعيد الاقتصاد والسياحة والطاقة، وملف منظومة الدفاع الصاروخية الروسية (اس ـ 400) واحد من الملفّات المهمة أيضا الذي يتسبب بشرخ بين أنقرة والغرب. 

وبالرغم من أنّ العلاقة بين تركيا وروسيا يمكن وصفها بالعلاقة المعقدّة جداً والتي يشوبها الحذر، إلاّ أنّه من الثابت أنّ أنقرة كانت ولا تزال اللاعب الوحيد الذي استطاع إيقاف التمدد العسكري الروسي في كل الجبهات السابقة الذكر أعلاه.

من المقلب الآخر، استطاعت تركيا خلال السنوات القليلة الماضية نسج علاقات متينة جداً مع أوكرانيا على المستوى السياسي، لكن المفاجأة تمثّلت في سرعة تطوير العلاقات الدفاعية بين البلدين والتوصل إلى شراكات في برامج استراتيجية في مجال الصناعات الدفاعية. أنقرة اتخذت هذه الخطوات تجاه كييف وهي تعلم تماماً حجم الخلاف بين روسيا وأوكرانيا وهو الخلاف الذي كلّف الأخيرة خسارة أجزاء واسعة من أراضيها عام 2014 نتيجة للغزو الروسي وضم شبه جزيرة القرم التي يقطنها مسلمون أوكرانيون من أصل تركي إلى روسيا. 

أنقرة رفضت ولا تزال ترفض الاعتراف بضم أراضي أوكرانيا إلى روسيا، وجزء من استراتيجيتها فيما يتعلق بالعلاقة مع أوكرانيا هو محاولة تحقيق توازن بين الطرفين يتيح لها القدرة على المناورة. وبقدر ما تتيح هذه الاستراتيجية فرصاً لتركيا في الظروف العادية بقدر ما تخلق تحدّيات كبيرة لها عندما يتصاعد التوتر أو المواجهة بين روسيا وأوكرانيا. 

وبخلاف الأمريكيين والأوروبيين، لم تتردّد تركيا في تزويد أوكرانيا بمسيّراتها الهجومية التي نالت شهرة واسعة عندما يتعلق الأمر بقلب المعادلات وتحقيقي المفاجآت في ميدان المعارك المختلفة التي تمّ توظيفها فيها. 

وبالفعل، استخدمت أوكرانيا هذه المسيّرات لأوّل مرة مؤخراً مستهدفةً بنجاح وفعالية مواقع ومعدّات عسكرية تابعة للانفصاليين الروس شرق أوكرانيا، وهو ما أثار سخط موسكو وقلقها أيضاً. تركيا دخلت أيضا في عقود لبيع غواصات محليّة الصنع لأوكرانيا لتعزيز وضعها في البحر الأسود حيث أصبح الثقل الروسي واضحاً بعد احتلال وضم شبه جزيرة القرم، وهناك اليوم استثمارات في برامج عسكرية مشتركة مع كييف.

 

تركيا تعلم جيّداً أنّه لا يمكن أن تدخل في مواجهة مفتوحة مع روسيا، لكنّها تعلم جيّداً أيضاً أنّه لا يمكن الاستسلام وأنّ هناك وسائل ذكيّة لدفع موسكو إلى الخلف وهو ما قد يتطلّب المزج بين التصعيد المدروس وفتح أبواب المفاوضات والابتعاد عن المعادلة الصفرية. 

أنقرة طبّقت هذه المعادلة عملياً ضد روسيا في سوريا وفي ليبيا وفي قره باغ ونجحت في تحقيق مكاسب مهمّة وصد التقدّم الروسي فيما كان الآخرون في حلف الناتو أو الاتحاد الأوروبي يميلون الى الاستسلام امام التصعيد الروسي أو إسترضاء موسكو من خلال الدفع بمزيد من التنازلات. 

لكن السياسة التركية لتعزيز وضع أوكرانيا الجيو ـ استراتيجي والدفاعي لها حدود أيضاً وهي تحتاج الى الوقت والمال والجهد وفي غياب مواكبة أوروبية واستمرار الضغط الغربي على أنقرة، فقد تنهار هذه السياسة في حال حصول غزو روسي لأوكرانيا، وقد يترافق ذلك مع خسائر كبيرة لتركيا، إذ أنّ تمدّد روسيا في فضاء الاتحاد السوفيتي السابق سيجعل المواجهة لاحقاً حتمية بين تركيا وروسيا في وقت يدير فيه الغرب ظهره لانقرة ويحاول إسترضاء روسيا خوفاً من المواجهة وتضرّر مصالحه. 

لذلك، قدّمت تركيا نفسها كوسيط في الأزمة الحالية، وكلاعب حريص على تحقيق الاستقرار وخفض التصعيد، ولكنها في نفس الوقت واصلت تقديم الدعم العسكري الفعّال لأوكرانيا وسرّبت خبر القيام بصفقة تتضمن لأوّل مرّة بيع مسيّرة أكنجي الاستراتيجية إلى دول لم يتم الإعلان عن إسمها ويُعتقد أنّها أوكرانيا للدفع في نفس الاتجاه السابق الذكر لناحية المواجهة الذكية مع روسيا. وعلى الرغم من أنّ موسكو كانت قد رفضت العرض التركي بالوساطة في بداية الأمر، إلا أنّها عادت وقالت إنّها قبلت دعوة أردوغان لبوتين لاجتماع في أنقرة لبحث الأزمة مع أوكرانيا. والحقيقة أنّ قبول الدعوة كان مفاجئاً على إعتبار أنّه لا يوجد مبررات من وجهة نظر روسيا لإعطاء تركيا مكاسب من خلال جعلها وسيطاً أو من خلال إدخالها في ملف النزاع بهذا الشكل. 

لكن قد يكون في الحسابات الروسية أيضاً محاولة تحييد الدعم العسكري التركي لأوكرانيا سيما أنّه الدعم الأكثر فعالية حتى الآن، فضلاً عن معرفة ماذا بإمكان أنقرة أن تقدم في مثل هذه المفاوضات، وهل يمكن أن تضغط على أوكرانيا لتنفيذ بعض المطالب أم لا. وقد تكون الموافقة الروسية محاولة كذلك لسبر أفق المكاسب التي قد تحصل عليها من التفاوض مع لاعبين مختلفين وبما يؤدي أيضاً إلى خلخلة أي جهود محتملة لتوحيد جبهة غربية في مواجهة موسكو. 

أيّاً تكن حسابات موسكو، فإنّ قرار الزيارة إن تحقّق سيكون شيئاً إيجابياً بالنسبة إلى تركيا خاصة في ظل محاولة تجاهل الولايات المتّحدة والاتحاد الأوروبي الفيل الموجود في الغربة كما يقال، أي تركيا، في ظل المفاوضات الجارية بين الطرفين للاتفاق على خطوات عقابية في حق موسكو إن قررت هي المضي قدماً في خططها لغزو أوكرانيا. 

عن الكاتب

د. علي حسين باكير

مستشار سياسي - باحث في العلاقات الدولية والشؤون الاستراتيجية


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس