مهنا الحبيل – جريدة الوطن

في جولة حوارات شملت شخصيات ومكاتب للأحزاب المعارضة الرئيسية في تركيا، كان من الواضح إمكانية تشكيل رؤية عن حجم التهديد الذي تمثله هذه الأحزاب لمستقبل حزب العدالة التركي، في الانتخابات التي سيصوت لها الناخبون الأتراك في السابع من يونيو القادم، ورغم أن الأسئلة صريحة ومفصلية خاصة في ظل صراع شرس بين هذه الأحزاب والعدالة، ووجود قواعد أيديولوجية مختلفة بين كل هذه الأحزاب، إلا أن الجواب بدا متشابهاً بينهم في مساحة كبيرة.

الجولة شملت حزب الشعب الجمهوري الوريث الأكبر لعهد النظام الأتاتوركي، والحليف التاريخي للعسكر، وحزب الحركة القومية الحزب المعارض الثاني، وهو الحزب القومي التركي المتشدد، وحزب السعادة الإسلامي الذي أسسه الرمز الإسلامي التاريخي نجم الدين أربكان، ومقصود هذه الجولة ليس التحقق من قرار أو خبر عنهم، وإنما مجمل القاعدة السياسية والعقيدة الانتخابية وتصورات هذه الأحزاب عن مستقبل تركيا، ومفاصل خلافهم مع حزب العدالة.

وقد اتفق الكل على أمرين رئيسيين، حتى وكأن مقدماتهم تصاغ من مكتب سياسي واحد، فسبب صعود أردوغان والعدالة هو مؤامرة الشرق الأوسط الكبير، ودليل ذلك دعمه للثورة السورية، والثاني الفساد، وأن الخلاف بين العدالة وبين جماعة كولن هو بين حلفاء في هذا الفساد، فيما اختلف حزب السعادة بأنه يطرح نظام الوحدة الإسلامي مقابل مشروع الاتحاد الأوروبي، والذي تسبب في واقع تغريب كبير لتركيا، دون أن يشرح كيف تزايدت فرص الحريات الشخصية للإسلاميين في تركيا، وفرص مساندة القضايا الأممية لحكومة أردوغان خلال هذه الفترة.

وأمام الامر المجمع عليه لديهم بأن أردوغان والعدالة ينفذون مشروعا اميركيا، وهي لغة دعاية إعلامية عادة يُستبدل بها النقد الموضوعي وتُتجنب بها الإجابات المباشرة المطلوبة، سألتُ هذه القيادات، مادام المشروع الأميركي جوهره تفتيت المنطقة، فما هو موقفكم من مشروع السلام الكردي الذي يتبناه العدالة، وخلاصته تطرح الخروج من أكبر ازمة قومية تهدد تركيا بمصالحة بين أكبر قوميتين من الأناضوليين والأكراد، وأن طبيعة مشروع التفتيت الأميركي تصادم هذا المشروع وحاليا يخشى منه الغرب وإيران وخصوم تركيا الإسلامية من العرب.

لم أتلق جواباً على هذا السؤال، وانما تأكيد على معارضة مشروع السلام الكردي المباشر من العدالة، دون تقديم بديل لهذه المواجهة التي اشتعلت في عهد الحزب الجمهوري، وحين سألت رئيس حزب الحركة القومية في قونيا وهو شاب خلافاً لرئيس فرع من حزب الشعب وخلافاً لما يسود وتستطيع رؤيته، من هيمنة كبار السن على قيادات حزبي الحركة القومية وحزب الشعب، فقلتُ له: معروف أن حزب الحركة القومية حزب قومي ايديولوجي، لكن ما هو البديل لديكم عن مشروع السلام.

وهناك نموذجان معاصران دولة قومية محافظة لقومية واحدة ودولة دستورية حقوقية لكل الأعراق، كيف ستتعاملون مع القومية الكردية وغيرها من مواطني ومواليد تركيا؟، وما هو بديلكم؟ أجاب:

بأننا (حزب الحركة القومية) نعم نحن دولة قومية ولكن لا نهمش الآخرين ولا توجد مشكلة كردية مستحقة بل صنعتها العدالة.

ولم يقدم كيف يأخذ المواطنون الأكراد حقهم الدستوري، والذين مورس عليهم اقصاء شرس شمل اللغة والفنون والحياة الاجتماعية والتعليم والصحة، وخَلَق أرضية لعنف وتطرف حزب العمال الكردي المسلح وراح ضحيته مدنيون من كلا القوميتين المسلمتين في تركيا، وهو ما يعالجه مشروع العدالة، وهذا معروف لدى طريقة تفكير الحركة القومية وتاريخ تأسيسها.

كما أن القيادي بحزب الشعب أكد تبني معادلة انصاف الأكراد وكذلك فعل حزب السعادة، لكن لم يقدم أي منهما ما هو البديل عن مشروع السلام والدستور الجديد، فقط التأكيد على أن مشروع العدالة للمصالحة الكردية مشروع اميركي، ولا تفسير لهذا الجواب المتناقض.

وفي الوضع الداخلي ركّز الجميع على الفساد وقضية مديونية المواطنين الاتراك للبنوك ولبطاقات الائتمان، وهي قضية حقيقية بالفعل موروثة قبل حكم العدالة، ويقابلها الوجه الآخر للتحسين الاقتصادي والنقلة التي حصلت للوضع والمواطن التركي وحل أزمة السكن ورفع مستوى المعيشة، التي لم تكن متحققة على الإطلاق في حكومات حزب الشعب والعسكر أو الحكومات الائتلافية المهددة من الجيش سابقا.

كما أن مستوى الحريات الذي اعتبر قيادي حزب الشعب أن التضييق على معارضي العدالة الإعلاميين هو أحد سمات خلافهم الرئيسية معه، كان متدنيا جدا وتعيش تركيا تحت فصل كبير من القمع الإعلامي الشرس في عهد حكومات نفوذ العسكر الذي فككته العدالة عبر عشرة أعوام.

ومن المهم هنا نقل جواب القيادي في حزب الشعب عن الحقوق الشخصية للمواطنين المتدينين كالحجاب وغيره، حين سألته ما هو موقفكم من هذه الحريات التي حققها حزب العدالة للمواطنين كحق شخصي دستوري؟ وهل ستعيدون الحظر إذا حكمتم؟ فقال:

كلّا.. والآن لم يعد يوجد أي من تلك المحظورات، في إشارة الى ما حققه حزب العدالة وأن معارضة مثل هذه الأمور التي لا يؤمن بها حزب الشعب في أدبياته وأيديولوجيته بات صعبا إعلانه، بعد أن أصبحت واقعا يؤيدها الشعب، ولم تكن كذلك قبل حزب العدالة.

إن مجمل الحديث مع هذه القيادات والتي سنعود لبعضها مستقبلا خاصة في قضية موقفها من إيران ومن العرب، تؤكد وبرؤية منصفة أنها لا تمثل بديلا فاضلاً لتركيا، ولا تملك مساحة رؤى وتجديد وحيوية تُنافس حزب العدالة، والأكثر تجددا وشبابا، وليس ذلك لعدم وجود أخطاء بعضها مهم لدى العدالة، لكن لذات الضعف الواضح في مسار التفكير السياسي وترديد نظرية المؤامرة وفقدان الصناعة الاستراتيجية لأحزاب مُنحت فُرص كبيرة سابقا، بخلاف السعادة طبعا، ولكنها جميعا لم تنجح في تشكيل رؤية وطنية دستورية لكل الأتراك، ولم تخلق مشاريع واضحة تهدد بها العدالة.

ولذلك فإن رهان بعض هذه الاحزاب أو حتى كلها وهو ما يُتداول بكثافة وإن لم يعلن رسميا، على منح فرصة ودعم واسع لحزب الشعب الديمقراطي الكردي التركي، ليفوز بالعشرة بالمئة التي تؤهله لدخول البرلمان، وبالتالي يخوض حرب سياسية شرسة مع العدالة، فيُسقط مشروع السلام الكردي الذي تخشاه واشنطن.

وتنهار فرص المستقبل الاقتصادي وتتعزز مسارات عودة حكومات الائتلاف التي كانت موجودة سابقا، هو دلالة على عجز هذه الأحزاب عن إيجاد بديل وطني دستوري جامع والتواري خلف حلم صعود حزب الشعوب الذي يكرهونه ولكن يرونه فرس رهان لوقف تقدم العدالة، حتى ولو كان على حساب الاستقرار القومي لتركيا.

وهو رهان يتحد معهم فيه جماعة فتح الله كولن، أي أن مجمل موقف المعارضة في تركيا هو ضمان هدم مشروع حزب العدالة بأي طريقة ومواجهة أردوغان وطموحه في النظام الرئاسي المثير للجدل والذي يعارضه فيه كتلة من العدالة، لكن لا يوجد لدى هذه الأحزاب بديل مقنع، وإن كان ذلك سيقرره الناخب التركي في يوم التصويت الكبير، لكن المؤشرات التي تُناقش في أرقام العدالة وليس في فوزه المحسوم تؤكد الهزيمة المعنوية للمعارضة وقوة مشروع العدالة شعبيا ووجدانيا. 

عن الكاتب

مهنا الحبيل

كاتب وباحث إسلامي ومحلل سياسي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس