مهنا الحبيل - الجزيرة نت

عاد مشهد المواجهة السياسية الشرسة بقوة إلى الشارع التركي، في أجواء جولة صراع قوية لم يسبق لها مثيل، مع ما تُطلق عليه السلطات التركية -بقيادة حزب العدالة الحاكم والرئيس أردوغان- الكيان الموازي، وهو الجناح السياسي القوي لحركة الخدمة التي يرعاها المفكّر الصوفي التركي فتح الله غولن.

وقبل أن نستطرد في استشراف المستقبل السياسي لتركيا في أجواء هذا الصراع، وما الذي يمكن أن يُستنتج من هذه المواجهة؛ علينا أن نستعرض مقدمتين رئيسيتين تعطيان خلفية مهمة للقارئ لهذا المشهد بين حزب العدالة والتنمية التركية و"الكيان الموازي".

وحتى اللحظة لم تتوسّع المواجهة والمطاردة إلى المؤسسات التربوية والفكرية والاجتماعية لحركة الخدمة، التي لا تزال تمتلك مؤسساتها الضخمة والفعّالة في تركيا ودور نشر وبرامج تربية روحية وإعلامية وعلمية متعددة. وأعتقد أن الرئيس أردوغان وحزب العدالة والتنمية يُدركان خطأ هذا التوسع في مواجهة الشريحة الشعبية الاجتماعية المشتركة بينهما في الحالة الفكرية السُنية، فضلاً عن عدم مشروعية هذه المطاردة حين لا تستند لمسوغ قانوني واضح للمخالفة. وإنْ توسّع الأمر باستهداف المؤسسات الإعلامية المساندة للمشروع السياسي لجناح حركة الخدمة بحسب اعتقاد حزب العدالة ونخبة سياسية تركية.

هذه هي المقدمة الأولى التي نعنيها، وهو الرسالة التي تلقتها قواعد حزب العدالة والمجتمع السياسي التركي وقاعدته الاجتماعية المقربة من أردوغان، بما فيها كتلة الحركة الصوفية الواسعة المساندة له من طرق عديدة، وأبرزها جماعة الشيخ محمود أفندي، في انتخابات 27 مارس/آذار الماضي التي انتصر فيها حزب العدالة، وقبيلها، فهذا المفصل السياسي التاريخي لا يمكن أن يُدرَك مشهد الصراع الحالي دون الرجوع إليه.

وهو ما سبق هذه الانتخابات من مباغتة الجناح السياسي للخدمة لحزب العدالة في قائمة مذكرات الاعتقال الواسعة، واستدعاء شخصيات لمؤسسة الأمن القومي والوزراء في ذات المشروع. وقد كان "الإسفين" الخطير والمفاجئ لكل قاعدة وتجربة حزب العدالة، أن جناح الخدمة السياسي استبق تنفيذ خطوات التنسيق الانتخابي مع المعارضة بضربة سياسية موجعة للعدالة، تُربكه وتؤكد للمؤسسات القومية -وخاصة الجيش والشرطة والمخابرات- أن الحزب هش وأن إمكانية إسقاطه حين ينقلب عليه حليف الأمس -وهو حركة الخدمة- ممكن جداً.

وكانت مؤسسة القضاء -قبل الانتخابات الماضية التي أعادت تشكيله ديمقراطيا لأول مرة من تاريخ إنشائه جمهوريا- آخر أداة قوية للحركة ضد أردوغان، فاستُخدمت بشراسة. لكنها لم تكن كافية، كون "العدالة والتنمية" لم يكن بالضعف الذي راهن عليه مشروع الانقلاب السياسي، بعدها أتت أجواء انتخابات مارس/آذار التي كان يُخطط لها أن يخسر العدالة ولو بفارق بسيط ثم تعود المظاهرات بقوة في ميدان تقسيم وغيره، ويُفجَّر التوافق الكردي التركي لمشروع السلام الداخلي فيسقط الحزب.

حينها كانت شخصيات عديدة من العدالة ومن المقربين منهم يقرؤون حركة نقض الربيع العربي الدامية كنموذج بات من الممكن أن يُطبق في تركيا، بعد رصد توافق إقليمي ودولي أوروبي لقبوله، وهذا يُفسّر حدة خطاب أردوغان تجاه الاتحاد الأوروبي وإشارته الصريحة لأول مرة بعدم تطلع تركيا للانضمام للاتحاد الأوروبي، بعد أن أنجزت تركيا خطة صعود اقتصادي تزامن مع انهيار شامل لبلدان ضُمت للاتحاد الأوروبي، وتأثرت النظرة الشعبية لنموذج الاتحاد في داخل أوروبا ذاتها.

أي أنّ ما نراه اليوم هو حركة تصحيح يعتقد "العدالة والتنمية" بضرورتها مع حليف الأمس الذي باغته بنقض التحالف والتحول إلى مشروع مواجهة خطير ضد مجمل المشروع الديمقراطي الذي نهض به الإسلاميون وحلفاؤهم في تركيا. وهي عملية ليست سهلة، وتواجه تحديات كبيرة، وحملات التشكيك الإعلامية ليست كافية لإقناع كل الرأي العام المؤثر، وإن كانت هناك قناعة قوية وواسعة في الشارع التركي بأن الزج بتركيا في أتون صراع سياسي ودموي عنيف يُفقدها النهضة الديمقراطية والاقتصادية التي تحققت، أمر مرفوض شعبيا، ولا تبرره أخطاء أردوغان أو صلف خطابه أحيانا بحسب نظرة هذه القاعدة الشعبية التي تلمس إنجازاته يومياً.

أمّا المقدمة الثانية فهي معرفة حقيقة الجماعة، وقبل تمكن الجناح السياسي الذي تورط بالفعل في علاقات مع المخابرات الأميركية ومع إسرائيل، وفق نظرية من الصعب أن نشرحها هنا، وهي تعتمد على رسالة السلام مع الجميع في فكرة غولن لكنها رسالة عوراء، إذ ليس من الممكن أن تصنع سلاما مع جذور ومشاريع شر، كمفهوم فكري إنساني، وليس كتكتيك سياسي اضطرت له التجارب الإسلامية وغيرها لتحييد قوة واشنطن.

أمّا خارج هذا الجناح السياسي الذي وجد مساحة تقارب له مع خصوم أردوغان والعدالة أكبر من علاقة الشراكة الحيوية للطريقة الروحية لغولن فسعى لنقضها، وهي العلاقة المهمة لنهضة التجربة الديمقراطية والمشتركات الروحية والفلسفية للثقافة التركية الإسلامية؛ فإن للجماعة دوراً واسعاً في نشر القيم والأخلاق الإسلامية وتجديد خطاب الإنسان في العالم الجديد، استطاعت عبره مع العدالة والتنمية مواجهة العنف السياسي والعسكري الذي ساد في تركيا ضد الإسلام والديمقراطية معاً، كما أن المجتمع الجديد التي تعاونت الخدمة والعدالة في خلقه كطبقة وسطى فكريا وثقافيا للمجتمع التركي نجح في هذه التجربة.

ولذلك فإن التعميم على حركة الخدمة كمشروع سياسي بحت تورط في هذا المفصل، وتجسيد مشروع فتح الله غولن بهذا النعت، هو خطأ علمي معلوماتي وليس وجهة نظر، ولا يبرر ذلك حملة العدالة والتنمية عليهم في ظل توسيع حقها الانتخابي سياسيا، لمنع أي انقلاب سياسي يخطط لإسقاط كل التجربة التركية.

من هنا تبدأ أسئلة المرحلة القادمة وما الذي يُخطط له العدالة في حملة التوقيف لعناصر الجناح السياسي، وهو جناح توسّع عبر كتلة رأسمالية قوية وليس فقط عبر الخطاب الروحي للجماعة، أي أنّ هذا التوجه في الإعلام خلقته القدرة المادية لاقتصاديي حركة الخدمة، وهو ليس منتجا فكريا أو روحيا وإنما نظام الإعلام الرأسمالي الذي تحركه القدرة الاقتصادية، في حين تبقى للجماعة مؤسسات وحلقات ومشاريع ثقافية تدور في التعليم الشرعي أو الروحي أو الأنشطة الاجتماعية، وهو ما يُفترض أن يحذر العدالة من شملهم في متابعته القانونية وعزل هذه الأطر المستقرة اجتماعيا عن الصراع مع الجناح السياسي.

ولعل هذا ما يُمكن أن يكون أحد سيناريوهات المستقبل، وهو دفع وتشجيع حركة الخدمة للتوجه إلى الفكر النورسي من جديد، بعيداً عن جناحها السياسي، ولعل المطالبة بتوقيف غولن تأتي لمحاولة عزله عن طبقة رجال الأعمال القياديين في الجناح السياسي، وفي علاقاتهم المشتبكة مع أطراف سياسية وإقليمية خارج العمل السياسي المعلن، ليكون أحد أهداف هذه الحملة، مستذكرين في هذا الشأن موقف عبد الله أوجلان حين عُزل عن دمشق وطهران وعن المتطرفين الماركسيين من حزبه.

مع الفارق الكبير هنا، فأولاً شخصية فتح الله غولن شخصية عالم كبير يقود أحد أبرز أجنحة الحركة النورسية المهمة في الوجدان والتاريخ التركي وفي حضوره شخصيا، وثانيا ليس من المتوقّع أن يُسلّم الأميركيون فتح الله غولن لأنقرة لاعتبارات مصلحية كبرى لهم، فهل يدفع أردوغان حركة الخدمة لمشروع مصالحة اجتماعي تركي يستقطب المعتدلين ويُبقي غولن رمزا لهم؟

هذا مشروع محتمل، وفي كل الأحوال تبقى نظرية هذا الصراع مؤثرة على مجمل التجربة التركية، ولكن ثبات العدالة والتنمية ديمقراطيا وقوته الشعبية شجعته -أمام معلومات ومشاريع ضخمة تستهدف تركيا الإنسان والجمهورية بجذورها الإسلامية الجديدة- أن يتوجه توجها وسطيا قويا، بعيداً عن الأحلام الوردية من خلال الديمقراطية الخشنة، التي تفرض نظاما ديمقراطيا بقيود قانونية تمنع تحقيق انقلاب يخلق نظاما دكتاتوريا بهامش ديمقراطي كرتوني.

عن الكاتب

مهنا الحبيل

كاتب وباحث إسلامي ومحلل سياسي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس