ترك برس

شهدت مدينة إسطنبول، قبل أيام، افتتاح معرض للأعمال الفنية لـ عبد المجيد أفندي الذي كان آخر خليفة عثماني، وتميّز بعلاقاته الوطيدة مع أوروبا، قبل أن يفارق الحياة في العاصمة الفرنسية باريس ويدفن في المدينة المنورة التي أُنشئ فيها هذا المنصب قبل 1300 عام من وفاة عبد المجيد.

ويوصف عبد المجيد بأنه أحد أهم رسامي العصر العثماني المتأخر، ​​وأصبح الرأس الـ37 للبيت العثماني ووريث العرش بعد مغادرة ابن عمه محمد وحيد الدين إسطنبول كلاجئ إلى إيطاليا في نوفمبر/تشرين الثاني 1922، وتم انتخاب عبد المجيد أفندي الثاني كخليفة من قبل الجمعية الوطنية التركية الكبرى حتى 3 مارس/آذار 1924 عندما تم اعتماد القانون الذي أنهى الخلافة العثمانية رسميا بعد أن بقيت عامين في زمن الجمهورية.

ونشأ عبد المجيد الثاني في إسطنبول وتلقى تعليمه على يد ثُلة من المعلمين الأتراك والفرنسيين، وقد جسد هذا الخليفة العثماني الأخير -الذي عمل أيضا كرئيس لجمعية الفنانين العثمانيين- توليفة الثقافات الأوروبية والإسلامية، بحسب تقرير لموقع "ميدل إيست آي" البريطاني.

وينقل التقرير عن الكاتب يوسف سلمان إنانتش قوله إن الأمير العثماني عبد المجيد كان بمثابة "رجل عصر النهضة التركي المثالي"، حيث أتقن العزف على البيانو وعلى آلة التشيلو، كما كان رسامًا موهوبًا يُتقن رسم كل من المشاهد العارية في أفنية الحريم ورسم أبواب المساجد، مشيرًا إلى أن الأهم من ذلك أن عبد المجيد كان الخليفة الإسلامي الأخير المعترف به رسميًّا، وهو لقب سيظل محفورًا إلى الأبد في سجلات التاريخ.

سلطان على الهامش

وأوضح إنانتش أنه في هذا الإطار، يستضيف متحف "ثاقب صابانجي" في إسطنبول المُطل على مضيق البوسفور، معرضًا يهدف إلى تسليط الضوء على حياة وأعمال هذا الأمير العثماني، حيث يستمر المعرض حتى الأول من شهر مايو/أيار بعنوان "عالم الأمير الاستثنائي: عبد المجيد أفندي".

ويضم المعرض 60 لوحة للأمير و300 وثيقة تاريخية تتعلق بحياته، حيث تُعرض المجموعة على الجمهور لأول مرة منذ وفاة الأمير في باريس عام 1944، مؤكدًا أن أهمية الجدارة الفنية لكل عمل لا تقل عن أهمية ما تثبته هذه الأعمال حول توليف الثقافات الأوروبية والإسلامية التي تمكن العثمانيون من إنشائها بحلول أواخر القرن الـ19، حيث كان عبد المجيد – من نواحٍ كثيرة – تجسيدًا لذلك الاتجاه، فقد كان يرتدي عادة أزياءً فرنسية ذات طابع ملكي تشير إلى جذوره العثمانية، وكان يتصرف بارتياح وسط الطبقة الأرستقراطية الأوروبية، كما كان وريثًا لآخر خلافة إسلامية.

التأثيرات المبكرة

ويبين الكاتب أن عبد المجيد ولد في قصر بيلربي في الجانب الآسيوي من إسطنبول عام 1868، في قفص من ذهب إلى حد ما، حيث كان السلطان عبد الحميد الثاني، الذي تولى الحكم في عام 1876، يشك في مؤامرات البلاط والتحديات المحتملة من جانب الأمراء المنافسين، وحرص على عدم السماح لأقربائه بالتصرف بحرية، وكانت لهذه القيود نتائج غير مقصودة على التطور الفكري لعبد المجيد، أو بعبارة أخرى، سُمح للأمير الشاب بالانغماس وإشباع كل فضول فكري وإبداعي لديه، واستثمار مهاراته اللغوية والفن الغربي وشغفه الخاص.

ويشير الكاتب إلى أن عبد الحميد افتتح مدرسة داخل قصر يلدز في إسطنبول، يمكن للأمراء والنبلاء العثمانيين الآخرين الالتحاق بها. وهناك، تتلمذ عبد المجيد الثاني على يد مدرسين أتراك وفرنسيين كان لهم تأثير ملحوظ على ذوقه وأساليبه المستقبلية.

وبحسب الكاتب، فإنه بالنظر لطبيعة حياة الأمير، كانت فكرة توليه منصب الخليفة يومًا ما شبه مستحيلة، فلم يكن مهتمًّا بالسياسة بل كان منغمسًا في حبه للفنون والموسيقى، وكذلك مهتمًّا بعمله الخيري الذي يقدم مساهمات لقضايا متنوعة مثل الهلال الأحمر وجمعية النساء الأرمن.

وتقول نازان أولجر، مديرة متحف "ثاقب صابانجي"، لميدل إيست آي إنه "اعتبارا من النصف الثاني من القرن الـ19، تأثر القصر العثماني بالفن الغربي، بما في ذلك الرسم. وكان والد عبد المجيد الثاني، السلطان عبد العزيز، رسامًا أيضا وأنشأ أول مدرسة للرسم في تركيا، وأرسل الطلاب لتلقي تعليمهم الفني في أوروبا".

ويتابع الكاتب إنانتش قائلًا إنه حتى بعد الإطاحة بالسلطان عبد الحميد في عام 1908، تمسك عبد المجيد بالفنون، مستغلًّا الحرية التي تمتع بها للانغماس أكثر في الأنشطة الخيرية، ورعاية المتاحف وتنظيم اجتماعات الشعراء والرسامين.

خليفة للمسلمين

ويستمر الكاتب مبينًا أن صعود عبد المجيد إلى الخلافة جاء نتيجة زوال الإمبراطورية العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى، ففي أعقاب هزيمة الإمبراطورية العثمانية وتهديد القوى الإمبريالية بتقسيم الأراضي التركية التقليدية في الأناضول والبلقان، تعهد الأمير بدعم مصطفى كمال أتاتورك وحكومته الجديدة في أنقرة، حيث أطاحت الحماسة الجمهورية بالسلطنة العثمانية ونفي ابن عم عبد المجيد السلطان محمد وحيد الدين (محمد السادس)، وبعد ذلك، تم انتخاب عبد المجيد خليفةً باعتباره الزعيم السياسي الأخير المعترف به للمسلمين السُّنّة في جميع أنحاء العالم.

وعلى الرغم من كونه خليفة بالاسم فقط اعتبارًا من نوفمبر/تشرين الثاني 1922، كان عبد المجيد يتباهى بقوة منصبه، ويجول شوارع إسطنبول بحصانه الأبيض في استعراض للمكانة العثمانية التاريخية، كما أقام حفلات استقبال فخمة على طريقة العثمانيين القدامى، وحضر شخصيا مراسم صلاة الجمعة في مسجد آيا صوفيا، مُظهِرًا قيادته لمسلمي العالم، بحسب الكاتب.

وينوه الكاتب إلى أن هذه التصرفات ـسواء كانت مقصودة أم لاـ أثارت حفيظة الحركة المناهضة للخلافة، فلم تقبل حكومة أنقرة الجمهورية فكرة ظهور الخليفة في كل مكان، كما لم تقبل إحياءه للحشود والتصرُّف مثل السلطان، ما دفعهم في نهاية المطاف إلى إلغاء منصب عبد المجيد ونفيه مع باقي أفراد البيت الملكي، وفي مارس/آذار 1924، تم إخطار العائلة المالكة بالتنحّي في غضون 3 أيام، ثم اتجه عبد المجيد إلى أوروبا.

ويرى الكاتب أن عبد المجيد تغلّب على الصدمة الثقافية من خلال إلمامه بالفرنسية والتحدّث بها مثل مُتحدّثيها الأصليين، ودراسته للغة الألمانية لمدة 8 أعوام، وفهمه للإنجليزية، بالإضافة إلى معرفته باللغتين العربية والفارسية.

عثماني أوروبي

ويستمر الكاتب موضحًا تاريخ عبد المجيد بعد الخلافة، حيث انتقل مع عائلته في البداية إلى بلدة تريبتيت في سويسرا، ثم إلى مدينة نيس الفرنسية وبقي فيها حتى عام 1939 قبل أن ينتقل إلى باريس، مشيرًا إلى أنه على الرغم من نشأته في إسطنبول، كان التوجه الأوروبي ذا بصمة في تطوره الفني والفكري، وقالت نازان أولسر، أمينة معرض "ثاقب صابانجي"، إنّ الأمير "دمج الغرب والشرق، وعاش حياته وفقًا لروح العصر، والتزم بالتقاليد والدين، لكنه في الوقت نفسه ظلّ منفتحًا على الغرب".

ويبين الكاتب أن عبد المجيد تمتّع -بشكل فريد- بكونه فنانا وحاكم دولة لفترة وجيزة، حيث تعكس رحلته مدى تأثُّر بلاده بالحداثة والتغريب، وهو التحول الذي سيُثبت في نهاية المطاف أنه كان ساحقًا للإمبراطورية العثمانية، فقد أثار هذا التحول جدلاً غير متناه في تركيا حول ما إذا كانت النخب قد ابتعدت عن ثقافتها، وهو سؤال لا يزال قائما حتى يومنا هذا.

ومع ذلك، تقول أولسر -بحسب الكاتب- إن الأمير كان مفكرًا ورسامًا وخطاطًا إسلاميًّا في نفس الوقت، وكان مخلصًا لدينه وتقاليده لكنه كان أيضًا عازفًا موسيقيا غربيا، ومؤيدًا للمسارح، مضيفة أنّ هذا التباين يتجلّى بشكل أوضح في رسمه النساء العاريات، والذي قدّم خلاله حياة عائلية هادئة على عكس الرسوم الخيالية للفنانين الغربيين.

وفي إطار مواجهة صدمة المجتمع المُحافِظ بالأعمال التي تُظهِر العُري، أوضحت أولسر أنّ هذه الأعمال لم تكن بأي حال من الأحوال المحور الرئيسي لفن عبد المجيد، مؤكدة أن مثل هذه الجدالات تُلقي بظلالها على بقية أعمال الأمير.

ويستطرد الكاتب بأن عبد المجيد في المنفى، شرع في التصوير الفوتوغرافي والتقط صورًا من جميع أنحاء القارة مع الحفاظ على علاقاته مع المجتمعات المسلمة، خاصة مع أولئك الذين يعيشون في شبه القارة الهندية، ففي السنوات الأولى من نفيه، كوّن علاقات مع المسلمين الهنود الذين عارضوا بشدة إلغاء الخلافة، بما في ذلك آغا خان رئيس رابطة مسلمي عموم الهند.

ويستعرض الكاتب خاتمة عبد المجيد، حيث بدأت صحته تتدهور بعد اندلاع الحرب العالمية الثانية، مما اضطره للانتقال إلى باريس، وتوفي فيها عام 1944، حيث رفضت الحكومة الجمهورية طلب دفن الأمير في إسطنبول، وبعد 10 أيام من بقائه في مشرحة مسجد باريس الكبير، دُفن آخر خليفة للإسلام في المدينة المنورة، وهي المدينة التي أُنشئ فيها هذا المنصب قبل 1300 عام من وفاة عبد المجيد.

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!