د. علي محمد الصلابي - خاص ترك برس

انتهت معركة بدرٍ بانتصار المسلمين على المشركين، وكان قتلى المشركينَ سبعين رجلاً، وأُسِر منهم سبعون، وكان أكثرهم من قادة قريش، وزعمائهم، واسْتُشهد من المسلمين أربعةَ عَشَرَ رجلاً، منهم ستَّةٌ من المهاجرين، وثمانيةٌ من الأنصار، ولمّا تمَّ الفتحُ، وانهزم المشركون؛ أرسل صلى الله عليه وسلم عبدَ الله بن رَوَاحة، وزيدَ بن حارثة، ليبشِّرا المسلمين في المدينة بنصر الله للمسلمين، وهزيمة المشركين.(زيدان، 1997، 2/133)

ومكث صلى الله عليه وسلم ثلاثـة أيَّام في بدرٍ، فقـد ذكر أنس بـن مالـكٍ عن أبي طلحة: «أنَّ نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم ... وكان إذا ظَهَرَ على قومٍ: أقام بالعَرْصَة ثلاثَ ليالٍ» [البخاري (3976)] ولعلَّ الحكمة في ذلك:

1 - تصفية الموقف بالقضاء على أيَّة حركةٍ من المقاومة اليائسة؛ الَّتي يحتمل أن يقوم بها فلول المنهزمين الفارِّين.

2 - دفن من استشهد من جند الله، مما لا تكاد تخلو منه معركةٌ، فقد دفن شهداء المسلمين في أرض المعركة، ولم يَرِدْ ما يشير إلى الصَّلاة عليهم، ولم يُدفن أحدٌ منهم خارج بدرٍ.(بن حميد، 1998، 1/291)

3 - جمع الغنائم، وحفظها، وإسناد أمرها إلى من يقوم بهذا الحفظ؛ حتى تُؤَدَّى كاملةً إلى مستحقِّيها، وقد أُسندت أنفال، وغنائم بدر، إلى عبد الله بن كعبٍ الأنصاريِّ أحد بني مازنٍ.(عرجون، 1995، 3/453)

4 - إعطاء الجيش الظَّافر فرصةً يستريح فيها، بعد الجهد النَّفسيِّ، والبدنيِّ الْمُضْنِي الَّذي بذله أفراده في ميدان المعركة، ويضمِّد فيها جراح مجروحيه، ويذكر نعم الله عليه فيما أفاء الله عليه من النَّصر المؤزَّر، الَّذي لم يكن دانيَ القطوف، سهلَ المنال، ويتذاكر أفراده، وجماعاته ما كان من أحداثٍ ومفاجات في الموقعة، ممَّا كان له أثرٌ فعَّال في استجلاب النَّصر، وما كان من فلانٍ في شجاعته وفدائيته، وجرأته على اقتحام المضائق، وتفريج الأزمات، وما تكشَّفت عنه المعركة من دروسٍ عمليَّة في الكرِّ، والفرِّ، والتَّدبير المحكم الَّذي أخذ به العدو، وما في ذلك من عبَر، واستذكار أوامر القيادة العليا، وموقفها في رسم الخطط، ومشاركتها الفعليَّة في تنفيذها؛ ليكون من كل ذلك ضياءٌ يمشون في نوره في وقائعهم المستقبلية، ويجعلون منه دعائم لحياتهم في الجهاد الصَّبور، المظفَّر بالنَّصر المبين.

5 - مواراة جِيَفِ قتلى الأعداء، الَّذيـن انفرجت المعركـة عن قتلهم، والتعرُّف عليهم، وعلى مكانتهم في حشودهم، وعلى من بقي منهم مصروعاً بجراحه لم يدركه الموت؛ للإجهاز على من ترى قيادة جيش الإسلام المصلحة في القضاء عليـه؛ اتقـاءَ شرِّه في المستقبل؛ كالذي كـان من أمر الفـاسق أبي جهل فرعون هذه الأمَّة، والذي كان من شأن رأس الكفر أميَّة بن خلف، وأضرابهما، وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإلقـاء هؤلاء الأخباث في رَكِيٍّ من قُلُبِ بـدرٍ، خبيثٍ مُخْبِثٍ [البخاري (3976)]، ثمَّ وقف على شفـة الرَّكي، وقد ورد: أنَّـه صلى الله عليه وسلم وقف على القتلى، فقـال: « بئس عشيرةُ النَّبيِّ كنتم لنبيِّكم ؛ كذَّبتموني، وصدَّقني النَّاس، وخذلتموني، ونصرني النَّاس، وأخرجتموني، واواني النَّاس» [ابن هشام (2/292 - 293)] ثم أمر بهم، فسُحِبوا إلى قَلِيبٍ من قُلُبِ بدر، فطُرِحوا فيه، ثم وقف عليهم فقال: «يا عتبةُ بنُ ربيعةَ! ويا شيبةُ بنُ ربيعةَ! ويا أُميَّةُ بنُ خلف! ويا أبا جهل بن هشام! ويا فلان! ويا فلان! هل وجدتم ما وعدكم ربُّكم حقّاً، فإنِّي وجدت ما وعدني ربي حقّاً»، فقال عمر بن الخطَّاب: يا رسولَ الله! ما تخاطب من أقوامٍ قد جيَّفوا؟ فقال: «والَّذي نفسُ محمدٍ بيده! ما أنتم بأسمعَ لما أقولُ منهم، غيرَ أنَّهم لا يستطيعون أن يردُّوا عليَّ شيئاً» [البخاري (3976) ومسلم (2873) و(2874)] .

قال قتادة: أحياهم الله حتى أسمعهم قولَه، توبيخاً، وتصغيراً، ونقمةً، وحسرةً، وندماً. [البخاري في نهاية حديث (3976)] .

إنَّ مناداة الرسول صلى الله عليه وسلم لقتلى قريش بيَّنت أمراً عظيماً، وهو أنَّهم بدؤوا حياةً جديدةً، هي حياة البرزخ الخاصَّة، وهم فيها يسمعون كلام الأحياء، غير أنَّهم لا يجيبون، ولا يتكلمون، والإيمان بهذه الحياة من عقائـد المسلمين، ونعيم القبر وعذابه ثابتان في صحاح الأحاديث، حتَّى إنَّه صلى الله عليه وسلم مرَّ بقبرين، وقال: «إنهما لَيُعَذَّبَـان، وما يُعَذَّبَـان في كبيرٍ» [البخاري (218) ومسلم (292)] . وذكر: أنَّ سبب تعذيبهما النَّمُّ بين النَّاس، وعدمُ الاستنزاه من البَوْلِ.(فوزي، 1996، ص64)  ولابدَّ من التَّسليم بهذه الحقائق الغيبيَّة، بعد أن تحدَّث عنها الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم ، وقطع بها القرآن الكريم في تعذيب ال فرعون، قال تعالى: ﴿النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ ﴾ [غافر: 46]

وأمَّا الشُّهداء فقد قال الله تعالى فيهم: ﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ﴾ [آل عمران: 169].


مراجع البحث:

علي محمد الصلابي، السيرة النبوية: عرض وقائع وتحليل أحداث، 1425ه/2004م، صص 661-663

محمَّد فوزي فيض الله، صورٌ وعبرٌ من الجهاد النَّبويِّ في المدينة، دار القلم - دمشق، الدَّار الشَّاميَّة - بيروت، الطَّبعة الأولى، 1416هـ  1996م.

محمَّد الصَّادق عرجون، محمَّد رسول الله، دار القلم، الطَّبعة الثانية، 1415 هـ  1995 م.

ممجموعة مؤلفين، بإشراف صالح بن حميد، عبد الرحمن بن ملوح، موسوعة نضرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم،  دار الوسيلة للنشر والتوزيع، 1418 – 1998.

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس