سمير العركي - الجزيرة مباشر

بسبب العالم الافتراضي حيث يتحكم بعداد الـ“لايكات” والـ“شير” وإعادة التغريد في تشكيل الرأي العام “الافتراضي” كانت صدمة المعارضة التركية كبيرة، بل كبيرة للغاية، بعد نتائج صناديق اقتراع العالم الحقيقي، حيث خالفت كل ما بنوه في العالم الافتراضي من سيناريوهات النصر المحتم، ذلك الشعور الذي عززته استطلاعات الرأي “المسيسة” التي منحت كمال كليجدار أوغلو نصرًا مضمونًا ومريحًا بلغ في إحداها إلى 60% مع ضمان السيطرة على البرلمان.

بل مضى الشوط أبعد من ذلك، فميرال أكشنار رئيسة الحزب الجيد أعلنت نفسها رئيسة للوزراء، ما يعني ضمنًا أن استفتاء دستوريًا بتغيير نظام الحكم الحالي من الرئاسي إلى البرلماني بات مضمونًا هو الآخر، لكن اتضح لاحقًا أن كل ذلك لم يكن سوى خيال ما لبث أن هوى.

فالانتخابات الرئاسية تذهب إلى جولة ثانية، لكن بتصدر مرشح تحالف الجمهور رجب طيب أردوغان السباق بأكثر من 27 مليون صوت بنسبة بلغت 49.50%، فيما حل منافسه مرشح تحالف الأمة كمال كليجدار أوغلو تاليًا بحوالي 24 مليونًا و5 آلاف صوت بنسبة بلغت 44.89% أي بفارق ما يقرب من مليونين ونصف المليون صوت.

أما الانتخابات البرلمانية فكانت المفاجأة أشد وأقسى، فتحالف الجمهور يؤكد هيمنته على البرلمان مجددًا بـ322 مقعدًا!!

تفاصيل المشهد كثيرة ومتشعبة، لكن دعونا في هذا المقال نتعرف كيف نجح أردوغان في قيادة تحالفه صوب هذا الإنجاز المهم؟ وكيف أخفقت المعارضة رغم المشاكل كلها التي أحاطت بالحكومة؟ ولم تستطع إزاحة أردوغان وحكومته رغم بقائهم في السلطة لواحد وعشرين عامًا؟ إذ تدفع هذه المدة الطويلة الناخبين في الكثير من الدول إلى البحث عن التغيير.

دخل أردوغان غمار المعركة الانتخابية متسلحًا بخبرة عشرات السنين قضاها في العمل السياسي منذ أن كان شابًا صغيرًا. اكتسب خلالها خبرات ضخمة، إضافة إلى قدراته الشخصية التي أهلته لقيادة تركيا في أحلك الظروف إلى بر الأمان وأشهرها ليلة محاولة الانقلاب الفاشلة في 15 يوليو/تموز 2016، فكيف أدار حملته الانتخابية؟

1- الاستعداد المبكر للانتخابات ربما قبل عام على الأقل، حتى أن كارثة الزلزال 6 فبراير/شباط التي خلفت قرابة 50 ألف قتيل ودمارًا واسعًا في المباني والبنية التحتية في 10 ولايات، لم تؤثر في تلك الاستعدادات، ربما أثرت في التفاصيل، لكنه في النهاية كان يعرف ماذا يفعل؟ وكيف ستسير الحملة لكسب مزيد من الأصوات كل يوم؟ عكس المعارضة كما سنرى.

2- التحكم في المنافسة الانتخابية من حيث تحديد الأولويات وترتيبها، فقد استفاد من الأخطاء الإستراتيجية الكبرى لخصومه، ليحرمهم من توظيف الملف الاقتصادي في التنافس، وينجح في وضع ملف التحالف مع الإرهاب في صدارة المشهد الأمر الذي أدى إلى كسب فئات مختلفة من الشعب التركي حوله.

3- التوظيف الجيد للصناعات التركية المحلية خاصة في مجال الدفاع، فليس من سمع كمن رأى، حيث أتاح للشعب فرصة مطالعة هذه الصناعات من قرب، فالسيارة الكهربائية محلية الصنع “توغ” تم إرسالها إلى معظم الولايات تقريبًا حيث قوبلت بحفاوة واضحة من الجماهير، الأمر الذي أثار حفيظة أحد الصحفيين المعارضين، فقال غاضبًا في أحد اللقاءات التلفزيونية: “ماذا حدث للشعب كأنه يرى السيارات لأول مرة في حياته؟”. أما الاحتفاء الشعبي الأكبر فكان بالسفينة الحربية حاملة الطائرات المسيرة TCG التي فتحت أبوابها للمواطنين في إسطنبول وإزمير، للدخول إليها والصعود على متنها ومشاهدة المسيرات والطائرات العمودية، حيث اصطفت طوابير المواطنين لكيلومترات عدة، الأمر الذي مثّل دعاية جيدة لأردوغان، كما أثبت كذب الادعاءات السابقة للمعارضة التي زعمت فيها أن هذه المنجزات مجرد “ماكيت” فقط، ولا وجود لها في الحقيقة.

4- الاهتمام بشريحة الشباب ونجاحه في إحداث اختراق مهم في صفوفهم على عكس ما روجت له وسائل الإعلام داخل تركيا وخارجها، من أن هذا الجيل سيكون سببًا في خسارة أردوغان وحزب العدالة والتنمية، لأنه جيل لم ير تركيا القديمة، وبالتالي فلا يشعر بالامتنان تجاه أردوغان وليس أسيرًا لتجربته، كما أن هذه الفئة العمرية تميل إلى التغيير والتجريب ويغلب عليها الاندفاع، لكن الذي حدث لم يكن كذلك وبات واضحًا أن شريحة مهمة من الذين صوتوا لأول مرة قد حسموا خيارهم لصالح أردوغان، وفي تقديري أن شعبية مدير شركة بايقار للمسيرات، سلجوق بيرقدار، أسهمت في التصاق هذه الشريحة العمرية بأردوغان، باعتبار أن سلجوق بإنجازاته العريضة في مجال الطائرات المسيرة، أحد أهم منتوجات عهد أردوغان وأيقونة مهمة لذلك العهد.

5- حزم التحفيز التي منحها أردوغان لشرائح متعددة من الشعب التركي (الشباب – الموظفين – التجار – المتقاعدين)، وذلك للتخفيف من آثار التضخم والتراجع الاقتصادي.

6- كما أبانت نتائج الانتخابات عن نجاح الحكومة في التعامل مع كارثة الزلزال المدمر الذي ضرب 10 ولايات في 6 فبراير/شباط الماضي حيث منحت تلك الولايات ثقتها لأردوغان وحزب العدالة والتنمية حتى ولاية هاتاي التي تقدم فيها كليجدار أوغلو لم يكن التقدم حاسمًا، فالفارق بينهما أقل من نصف في المائة فقط.

ارتكبت المعارضة أخطاء إستراتيجية كارثية أوصلتها إلى الحالة التي هي فيها الآن، وهي:

1- البداية المضطربة لمشوار الانتخابات حيث انفجر الخلاف بين رئيسة الحزب الجيد، ميرال أكشنار، وبقية أعضاء الطاولة في اجتماع 2 مارس بسبب التوافق على ترشح رئيس حزب الشعب الجمهوري كمال كليجدار أوغلو، وغادرت يومها الاجتماع غاضبة ووصفت التحالف بمائدة القمار، وتعرضت لسيل من الهجوم والاتهامات المشينة من قبل موالين لحزب الشعب، قبل أن تعود مرغمة إلى الطاولة بعد 3 أيام وتوافق على ترشح كليجدار أوغلو، لكن المشهد ترك آثارًا سيئة لدى الرأي العام.

2- الثقة الزائدة المبالغ فيها التي اعتمدت على استطلاعات للرأي يعلم كليجدار أوغلو وحلفاؤه أنها مسيسة وغير حقيقية ومصطنعة للتأثير في الرأي العام.

3- التحالف مع حزب الشعوب الديمقراطي المعروف بصلاته الواضحة والقوية مع تنظيم حزب العمال الإرهابي الذي يخوض مواجهة مسلحة مع الدولة منذ أكثر من 40 عامًا خلفت قرابة 40 ألف قتيل مدني وعسكري، وعززت تصريحات قادة التنظيم الموجودين في جبال قنديل بشمال العراق، اتهام المعارضة ومرشحها الرئاسي بالتعاون مع الإرهاب.

4- الخطاب السياسي غير المنضبط الذي استهان بركائز الأمن القومي التركي، ولم يراع أي حساسيات، فكانت الوعود بسحب الجيش من شمالي العراق وسوريا ووقف العمليات العسكرية ضد التنظيمات الإرهابية، وسحب القوات التركية من ليبيا دون النظر إلى أهمية وجودها للحفاظ على اتفاقية ترسيم الحدود البحرية التي منحت تركيا حق البحث عن الغاز في شرق المتوسط، كما ذهبت تلك الوعود المحسوبة على المعارضة إلى تدمير حزبي العدالة والتنمية والحركة القومية، فيما أكدت أخرى إطلاق سراح زعيم تنظيم PKK عبد الله أوجلان، وقادة حزب الشعوب وفي مقدمتهم صلاح الدين ديميرطاش، ويفجين يوكساكداغ، رغم إدانتهم قضائيًا بسبب الدعوة إلى احتجاجات أفضت إلى مقتل أكثر من 50 مواطنًا عام 2014.

5- استهداف الإنجازات الكبرى وفي مقدمتها الصناعات الدفاعية التي تحظى بالاحترام لدى الشعب وخاصة صناعة المسيرات، التي حولت الشاب سلجوق بيرقدار إلى أيقونة للشباب التركي، لكن زعماء الطاولة السداسية جدفوا عكس التيار، وتوالت تصريحاتهم التي تنوعت بين الوعد بتأميم الشركة إلى اتهام الشركة بالحصول على منح حكومية، واتهامها باحتكار صناعة المسيرات على حساب المنافسة!! رغم أن الشرطة هي التي صنعت اسمًا لتركيا في عالم صناعة المسيرات، وكانت قبلها أسيرة للصناعات الإسرائيلية.

6- تضارب خطاب كليجدار أوغلو ما بين القومي والمحافظ والداعم لحزب الشعوب الديمقراطي “الكردي” ومشروعه الانفصالي، حسب جمهور المخاطبين.

رغم حفاظ تحالف الجمهور على الأغلبية في البرلمان إلا أنه لا يمكن تجاهل التراجع الواضح لحزب العدالة والتنمية، فقد حصل منفردًا على 267 مقعدًا مقابل 295 مقعدًا في الدورة السابقة أي فقد 28 مقعدًا، وهذه نسبة كبيرة حتى وإن كانت متوقعة من قبل.

المتحدث باسم الحزب عمر تشليك سارع بالتأكيد أن الحزب استوعب رسالة الناخبين، وسيشرع في تنفيذها.

لذا فمن المتوقع أن تشهد الفترة المقبلة حركة تغيير وضخ دماء جديدة في الحزب استعدادًا للانتخابات البلدية العام المقبل، إذا ما أراد استعادة المدن الكبرى التي فقدها في الانتخابات الماضية.

لكن من غير المنتظر أن تتسبب تلك التغييرات المرتقبة والضرورية في أي مشاكل داخل الحزب في ظل وجود زعيمه ومؤسسه أردوغان.

على العكس من ذلك.. فإن أحزاب التحالف حققت نجاحات كبيرة سواء التي خاضت الانتخابات بقائمة مستقلة، أو تلك التي رشحت أعضاء منها على قائمة حزب العدالة والتنمية.

فحزب الحركة القومية رفع عدد مقاعده من 49 إلى 50 مقعدًا، فيما نجح حزب الرفاه من جديد الذي يترأسه فاتح أربكان من الفوز بـ5 مقاعد في انطلاقة مهمة للحزب، أما حزب هدا بار الإسلامي الكردي، فقد استطاع مرشحوه الأربعة الذين كانوا على قوائم العدالة والتنمية من الفوز. وبدا التحالف وكأنه يستلهم مبدأ أردوغان “الكل رابح”.

لكن على الضفة الأخرى فإن حزب الشعب الجمهوري سيكون على موعد مع تغييرات إستراتيجية وعميقة قد تطيح باستقراره، ورغم أنها قد تؤجل إلى حين انتهاء الجولة الثانية من انتخابات الرئاسة.

فأي خسارة لكليجدار أوغلو ستعني نهايته السياسية في ليلة ظهور النتائج نفسها، إذ يحمّله البعض من الآن مسؤولية سوء النتائج خاصة على مستوى البرلمان، فقد انخفض عدد مقاعد الحزب من 169 مقعدًا إلى 146 مقعدًا منها 36 مقعدًا ذهبت لأحزاب التقدم والتغيير الذي يترأسه علي باباجان (15) والمستقبل الذي يترأسه داود أوغلو (9) والسعادة (9) والحزب الديمقراطي (3) أي أن ما حصل عليه حزب الشعب فعليًا 113 مقعدًا في أسوأ أداء منذ سنوات طويلة. هذه الأرقام فجرت موجة من الغضب داخل الحزب، إذ اعتبر كثيرون أن كليجدار أوغلو ارتكب حماقة كبرى إذ منح أحزابًا يمينية محافظة مكاسب لم تكن تحلم بها دون أي مقابل يذكر!.

كما أن تحالفه مع حزب الشعوب الديمقراطي -الذي خاض الانتخابات باسم حزب اليسار الأخضر– لم يمنحه ما كان يأمله من دعم تصويتي يمنحه مقعد الرئاسة من الجولة الأولى، بل خصم من رصيده الجماهيري.

إخفاق الحزب امتد إلى إدارة المشهد ليلة الانتخابات، فقد تابع الجميع خروج رئيسي بلدية أنقرة وإسطنبول، منصور ياواش، وأكرم إمام أوغلو، وإعلانهما تقدم كليجدار أوغلو، وهاجما وكالة الأناضول والنتائج التي تبثها نقلًا عن الهيئة العليا للانتخابات، فيما أعلن كليجدار أوغلو في تغريدة في الثامنة إلا ست دقائق تقدمه في النتائج! لكن الحزب سرعان ما تدارك الأمر وأعلن التزامه بالنتائج الرسمية.

الفوضى لم تكن إعلامية فقط، بل امتدت إلى متابعة فرز الأصوات من داخل الحزب، فالصحفية التركية بهار فيزان التي غطت الانتخابات من داخل مقر الحزب خرجت في مقطع مصور لتصف الوضع ليلتها بالسيئ، قائلة: لو خاض أردوغان 10 انتخابات إضافية سيفوز بها.

ورغم تأجيل الحساب الختامي لما بعد انتهاء الجولة الثانية، إلا أن كليجدار أوغلو سارع وأطاح بعدد من قيادات الحزب التي كانت مسؤولة عن إدارة الانتخابات، محمّلًا إياها الفوضى التي ضربت الحزب وأساءت إلى صورته لدى الرأي العام.

ففيما لا يزال الرأي العام العالمي مستغرقًا في مشهد المشاركة الواسعة للناخبين التي بلغت حوالي 87%، والحرفية العالية التي أدارت بها مؤسسات الدولة عمليات الاقتراع، ثم الفرز وصولًا إلى إعلان النتائج في يسر وسلاسة دون أي اتهامات أو حتى اعتراضات، فإن الداخل التركي لا يزال متحفزًا مترقبًا لنتائج جولة الإعادة، فالمدة المتبقية قصيرة وكل ساعة لها قيمتها، وسيكون من المبكر الجزم بفوز هذا المرشح أو خسارة ذاك.