سليم عزوز - عربي21

لم يجد العلمانيون الأتراك أنفسهم مطالبين بالاستمرار في التقية هذه المرة، فقد جهروا بما في قلوبهم، وإن كان أنصارهم العرب أخفوا في أنفسهم ما الله مبديه!

في الانتخابات البلدية التي شهدتها تركيا في حزيران/ يونيو من عام 2009، كان القوم في تركيا يطمئنون الوافدين العرب بأن شيئاً مما في أنفسهم لن يحدث، فليس صحيحاً أن أردوغان هو من يحمي وجودهم، فتركيا العلمانية استقبلت اللاجئين من البوسنة والهرسك، وأطلقت على المنطقة التي استقبلتهم اسمها "يني بوسنة"، ومن ثم فوجودهم تحميه التقاليد التركية، لا وجود أردوغان على رأس السلطة، ولكم كان مضحكاً، باعتبار أن شر البلية ما يضحك، أن شعر بعض المجنسين العرب بالأمان، فانقلبوا يتحدثون عن ضرورة حدوث التغيير في تركيا، فليس منطقاً أن يظل حزب العدالة والتنمية كل هذه السنوات في الحكم!

وهكذا، فالذين لم يستطيعوا تغيير شخص حاكمهم في بلادهم، حيث تغيير الشعب أسهل من تغيير الحاكم، جاءوا إلى هذا البلد ليغيّروا من منحهم الأمان، وأكرم ضيافتهم، لمجرد أن استشعروا أن وجودهم لن يتعرض للضرر إذا غادر أردوغان، وهي حالات تخضع لاختصاص علم النفس، لا للتحليل السياسي!

الوضع اختلف في هذه الانتخابات، فلم تجد المعارضة نفسها مطالبة بإخفاء ما في الصدور، فأعلنت عن موقفها الواضح من الوجود العربي في تركيا، ورغم أن أردوغان كائن انتخابي بالفطرة، فإنه قدم تنازلات عدة من أجل هذه اللحظة الانتخابية، لدرجة أن يتحول موقفه تماماً من حاكم القاهرة، واعتمد سياسة غريمه الآن "صفر مشاكل"، إلا أنه لم يساير رأي المعارضة في الموقف من المهاجرين العرب. وإذا كان مرشح المعارضة حرص على الاعتذار عن جرائم حزبه في السابق ضد شعائر الدين وضد الحجاب، فإن شارعه لم يكن معه في ذلك، وبدأ الاعتداء على المحجبات، وهو سلوك لم يستثن التركيات، وكان أحدهم أكثر وضوحاً وهو يقول إن أردوغان من ألبسهن الحجاب، وأنهم من سيجبرونهن على خلعه!

العرب

ولأنه سلوك كان تعبيراً عما سيحدث بالفعل، فلم يجد المرشح الرئاسي نفسه مطالباً بإدانته، ومن المؤكد أنه لو حدث ونجح كمال كليتشدار أوغلو، لكانت الشوارع تحولت الى ساحة حرب ضد المحجبات وضد الوجود العربي، ولغاب القانون احتفالاً بهذه اللحظة التاريخية!

القرار الغربي:

كان من المؤكد لدى القوم أن صفحة أردوغان قد طويت، وأن العواصم الغربية التي انتظرت نجاح الانقلاب للاعتراف به؛ انتظرت الانقلاب عبر صندوق الانتخاب، وجهر القادة الغربيون والإعلام الغربي بأن نهاية أردوغان ستكون في هذه الانتخابات!

إن رئيس أكبر دولة في العالم جهر بأن إسقاط أردوغان هو مهمته، وهو ما أعلنه قادة غربيون مع بدء حملة الدعاية الانتخابية، وانطلقت ماكينة الدعاية تعمل بجد ونشاط، وتحول الإعلام الغربي إلى أبواق دعاية، والصحفُ الكبرى إلى منشورات رخيصة، تحللت من الموضوعية، وهي تعلن سقوط الديكتاتور أردوغان من أول جولة، وهكذا قالت مراكز استطلاع الرأي العام.. ليسقط الشعب التركي في غالبيته كل هؤلاء، ويعطي الدرس عملياً بأن إرادة الشعوب غلابة، وأن الشعب إذا أراد يوماً الحياة، فلن توقفه قوى عظمى أو احتشاد غربي، فلا نامت أعين الجبناء!

إننا في عالمنا العربي نرى أن إرادة البيت الأبيض هي القادرة على إهدار إرادة الجماهير، ومع كل تفكير في التغيير يكون السؤال: ماذا يريد الغرب؟ ماذا تريد واشنطن؟ ماذا تريد إسرائيل؟

وبدا العقل العربي مرهقاً لا يستطيع أن يغادر محيط هذه الأسئلة الثلاثة، وفي المقابل يمعن الحكام العرب في إثبات أن واشنطن والغرب، وبرغبة إسرائيلية يحرصون على وجودهم، ولهذا يعمل أهل الحكم في العواصم العربية على إثبات أنهم رجال الغرب في بلادهم، ولا يمكن إسقاطهم ولو احتشدت الشعوب على قلب رجل واحد ضدهم!

كانوا يحجّون الى البيت الأبيض، ليحصلوا على الشرعية في مواجهة شعوبهم، وذات عام استقبل الرئيس الأمريكي مبارك أمام مكتبه، وليجره إلى الحديقة ليجري ما يسمى مباحثات تضليلا "على الواقف"، في حين استقبل رئيس وزراء إسرائيل في مكتبه، لتندفع الجوقة التي كانت مع مبارك من رؤساء تحرير الصحف، إلى التأكيد على أن هذا إثبات على أن العلاقة مع مبارك أخوية، في حين أن العلاقة التي تربطه بالمسؤول الإسرائيلي رسمية! ذلك بأن القوم كانوا يدركون معنى أن تصل الرسالة للشعب بأن حاكمه مهان أمريكياً، وليس الوكيل المعتمد، الذي يمكن أن تتحرك الأساطيل الأمريكية لحمايته إذا خرجت الجماهير لإسقاطه!

وإذ بدأ في القاهرة حراك سياسي ضد "التوريث" و"التمديد"، فإن أحد سدنة المعبد خرج للناس بتصريح مفاده، أن رئيس مصر القادم لا بد أن توافق عليه إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية، ومع ما في التصريح من إهانة، إلا أنه كان دعاية للوضع الراهن، حتى لا يندفع الناس في اتجاه محكوم عليه بالفشل، فاذا فُرض عليهم التوريث، فهذه رغبة أمريكية وإسرائيلية، وما باليد حيلة!

وخرجت البنت وأمها:

ها هم الأتراك في غالبيتهم يقلبون الطاولة على ساكن البيت الأبيض، وعلى القادة الغربيين، بل وعلى الآلة الإعلامية الأمريكية، وعلى أحلام المعارضة، بعد أن استسلمت لفكرة أن السفارة الأمريكية في أنقرة هي من بيدها تقرير المصير، إلى درجة أنها تدخلت في تغيير موقف زعيمة حزب الجيد ميرال أكشينار، فتعود خاضعة راكعة إلى الطاولة السداسية بعد أن أعلنت انسحابها رفضاً للاتفاق على ترشيح كمال كليتشدار أوغلو!

لقد خرجت البنت وأمها، كما نقول في صعيد مصر كناية عن قوة الاحتشاد، مع ضرورة إسقاط أردوغان من أول جولة، هكذا قال الإعلام الغربي وصحفه الرصينة، بعد أن وصفته بالديكتاتور، وهو ما أكدته مراكز استطلاعات الرأي، فكان الجهر بما في الصدور، يوشك القوم أن يهتفوا: الموت للعرب، الموت للإسلام!

ولم يقبل أردوغان الدنيّة في أمره، وذهب ببلاده في طريق الاستقلال، رأسه برأس القادة الغربيين، لا يضره من ضلّ، وكانت الضربة الكبرى في إصراره على افتتاح مسجد آيا صوفيا، الذي كان وضعه كمتحف هو إعلان موت الإمبراطورية العثمانية، وعنوان من عناوين التبعية التي اضطرت لها تركيا بعد هزيمتها في الحرب العالمية وإنهاء دولة الخلافة!

فعلها أردوغان، وكان الجنين في بطن أمه يدرك أنه بما فعل قد جعل من نفسه منصّة للاستهداف، ثمناً لامتلاكه الجرأة على تجاوز الخطوط الحمر، والنغمة المعتمدة أنه "الديكتاتور أردوغان"، هكذا!

مع أن الغرب هو الحامي الرسمي للاستبداد والديكتاتوريين في المنطقة، استغلالاً لغفلة الشعوب، بأن القول الأخير يملكه البيت الأبيض، فلا بد من التقارب من إسرائيل لضمان القلب الأمريكي!

إن الغرب يعرف الديكتاتوريات كما يعرف نفسه، وليس في سلوك حلفائه من الطغاة الحكم بإرادة صندوق الانتخاب، كما أردوغان، وليس في سلوكهم إجراء انتخابات نزيهة، كما فعل أردوغان فخسر ولايات مهمة في الانتخابات البلدية، وها هو يدخل الإعادة لفرق بسيط في الأصوات كان حصوله عليها كفيلاً بفوزه من أول مرة، ويكون فوزه في الجولة الثانية ليس بالأغلبية المطلقة التي يفوز بها الحلفاء بدون صد أو رد من الدوائر الغربية إلا ذراً للرماد في العيون!

الديكتاتور، هو من سجن منافسيه لمجرد إبداء الرغبة في خوض الانتخابات، وهو من اختار منافسه، ومن احتل المرتبة الثانية بعد فوزه الكاسح ليس منافسه المختار، ولكن الأصوات الباطلة، فهل يغيب عن فطنة القوم سلوك الديكتاتوريين فاختلط عليهم الأمر؟!

هزيمة في تورا بورا:

لا بأس، ها هو الديكتاتور يهزم هؤلاء جميعاً، لترسل نتيجة الانتخابات التركية رسالة بأن الشعب هو من يقرر مصيره، وليس البيت الأبيض، وقد جاءت الأحداث بالبيانات، فعصوا رسول ربهم!

قبل قليل جاءت الرسالة من جبال تورا بورا، بعد احتلال غربي دام لسنوات، كانت واشنطن في مقدمته، لكن طالبان لم تستسلم لسياسة الأمر الواقع وقاومت حتى انتصرت. بيد أن عقولنا المهزومة لم تستوعب الرسالة، وذهب فريق منا مشككا في الهزيمة، فلا بد أن يكون قد جرى وراء الكواليس إعلان هزيمة من جانب هذه الجيوش، لمؤامرة كونية أكبر من أن تستوعبها العقول، وتحيط بأسرارها الأذهان!

وقد أفقدت الرسالة القادمة من إسطنبول أقواما من بني جلدتنا اتزانهم، كانوا يدركون أنها النهاية لأردوغان، وهم وإن تصالحوا مع أردوغان فلم يذهبوا في صلحهم بعيداً في انتظار لحظة سقوطه لإعلان فرحهم، وأن المصالحة كانت تكتيكاً، وكان كمال أوغلو سيتلقى مساعدات عربية ضخمة من عواصم بعينها، لكنهم كانوا يخفون في أنفسهم ما الله مبديه!

إن المرء ليصاب بالدهشة من مستوى الضحالة السياسية التي يتمتع بها أساتذة للعلوم السياسية وباحثون في هذا الفرع العلمي المهم، عندما ينظر أحدهم في نصف الكوب الفارغ ليبني نظرية سياسية لا وجود لها في المنهج الدراسي، على نحو يشكك في جدارتهم بالحصول على الدرجة العلمية التي يحملونها، بل ويحتاج إلى دراسة نفسية للوصول إلى السمات الجامعة لهذا التخصص الذي عرفه عالمنا العربي قرابة النصف قرن!

لم يعتبر صاحبهم أن فوز أردوغان يستحق الثناء، فذهب ليضرب كرسيا في الكلوب بالتذكير بأن هناك 47 في المئة من الشعب التركي لا يريدون أردوغان ويرفضونه رئيساً، مع أنها نتيجة طبيعية في كل النظم الديمقراطية، ومن واشنطن إلى فرنسا إلى ألمانيا، فلا تعرف هذه النظم هذا الاكتساح الذي تظهره نتيجة الأصدقاء في عالمنا العربي!

لقد فاز أردوغان فهزمهم قبل أن يهزم مرشح المعارضة التركية، فإلى مزيد من الهذيان!

 

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس