توران قشلاقجي - القدس العربي
دارت آخر معركة كبرى للدولة العثمانية خلال الحرب العالمية الأولى على جبهة غزة في فلسطين، وكانت لها أهمية استراتيجية وطابع دراماتيكي. ومن أسباب اختيار هذه الجبهة؛ أهداف بريطانيا المتمثلة في قطع الطريق إلى الهند، واستعادة مصر، وتخفيف الضغط على دول الحلفاء. وفي إطار تركيزها الشديد على هذه الجبهة، نفذت الدولة العثمانية عمليتين على قناة السويس، في جبهتي سيناء وفلسطين، ثم حاولت وقف التقدم البريطاني في معارك غزة.
كانت فلسطين جبهة مهمة تهدد منطقة الأناضول من الجنوب في عهد الدولة العثمانية. وهنا قام العثمانيون بعمليتين على قناة السويس في جبهة سيناء وهزموا البريطانيين في معركتي غزة الأولى والثانية، وأوقفوا تقدمهم عند رفح – العقبة (في الحدود المصرية – الفلسطينية القديمة) ومنعوهم من دخول فلسطين، ولكن بعد نقل قيادة «مجموعة جيوش يلدريم» من أحمد جمال باشا إلى المارشال فالكنهاين، وحدوث الهجوم البريطاني الثالث على غزة، الذي بدأ في 31 أكتوبر 1917، تعرض الجيش العثماني للهزيمة في 9 نوفمبر واضطر إلى الانسحاب من غزة. لقد هاجم البريطانيون الجيش العثماني في غزة بقصف عنيف من البر والجو والبحر، وتكبد الجيش العثماني خسائر فادحة لأنه لم يعد يتمتع بقدرات كافية من الناحية الفنية. وبعد هزيمتهم في معركة نابلس أيضا، يوم 19 سبتمبر 1918، انسحب العثمانيون من المنطقة لتصبح فلسطين والأردن وسوريا ولبنان بذلك تحت سيطرة البريطانيين.
في جبهة فلسطين، قضي على الجيشين الرابع والثامن، وتكبد الجيش السابع خسائر فادحة، وتمت الاستعانة بالجيش الثاني لتعزيز الجبهة. وبالنظر إلى تعيين أربعة من الجيوش الثمانية الموجودة لدى الدولة، وإرسال الجيوش الأول والثالث والسادس كتعزيزات، في العام الأخير من الحرب العالمية الأولى، فإننا نفهم من ذلك أنه تم استخدام أكثر من نصف القوة العسكرية العثمانية على جبهة فلسطين. في 26 أكتوبر 1918، أشرف الجيش السابع على التصدي الأخير للهجمات في شمال حلب، بمشاركة 2500 جندي، وهذا يوضح لنا حجم الخسائر البشرية.
بلغت المعارك على جبهة غزة أبعاداً كبيرة جدا، ليس فقط من حيث نتائجها العسكرية والسياسية، بل على صعيد الخسائر من الناحية القتالية أيضا. وأثر هذا الوضع سلبا في البنية الاجتماعية والاقتصادية للدولة العثمانية، وتسبب في بقاء النساء والأطفال والمسنين والمرضى لوحدهم في الأناضول، إلى جانب قطاع الطرق واللصوص. استخدم البريطانيون الدبابات لأول مرة في معارك غزة، ودمرت المدفعية العثمانية ثلاثا من دبابات «مارك-1» الثماني المخصصة من أجل جبهة فلسطين. وفي الوقت نفسه، تم استخدام الغازات الكيميائية التي تلقى من الطائرات لأول مرة من قبل البريطانيين في معارك غزة.
تمكنت الجيوش العثمانية من إيقاف البريطانيين في أول معركتين على جبهة غزة. إلا أن منظمة التجسس «نيلي» التي أسسها الصهاينة زودت البريطانيين بمعلومات عسكرية مهمة مثل وضع الجنود ومواقع الأسلحة الكبيرة ومراكز آبار المياه، ما أدى إلى سقوط غزة في المعركة الثالثة. وبعد سقوط جبهة غزة، تسارع التراجع العثماني في بلاد الشام. وفي حرب غزة، قاتلت الوحدة العسكرية الصهيونية، بقيادة الزعيم الصهيوني الأمريكي ذي الأصول الروسية فلاديمير جابوتنسكي، إلى جانب البريطانيين ضد العثمانيين، وكان يقول في ذلك الوقت إن إنشاء دولة يهودية صهيونية مرهون بانهيار الإمبراطورية العثمانية.
في المحصلة، أدى انهيار جبهة فلسطين إلى انهيار جبهة العراق لاحقا وإنهاء قدرة الدولة العثمانية على مواصلة الحرب. وتسببت الهزائم على جميع الجبهات في تكبد الجيش العثماني خسائر فادحة ووقوع عدد كبير من جنوده في الأسر. كما قاد هذا الوضع إلى احتلال الأراضي العثمانية من قبل الجيوش البريطانية والفرنسية والإيطالية والروسية واليونانية. ومهدت مقاومة «النضال الوطني» ضد الاحتلال في منطقة الأناضول، الطريق لتأسيس جمهورية جديدة.
ومن المعروف أن قادة النضال الوطني، الباشوات مصطفى كمال (أتاتورك)، ومصطفى عصمت (إينونو)، ومصطفى فوزي (جاكماق)، وعلي فؤاد (جيبيسوي)، ورفعت (بيلي)، وجمال باشا المرسيني، وفخر الدين (ألطاي)، شاركوا مع أغلبية القوات العثمانية في المعارك على جبهة فلسطين وقاتلوا ضد الجيش البريطاني بقيادة الجنرال أللنبي. ومنذ عام 1918، يواصل المثقفون العثمانيون والأتراك طرح آراء مختلفة بشأن أسباب هزيمة الدولة العثمانية في معارك غزة.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس