محمود سمير الرنتيسي - سيتا

ما من شك أن الذي حدث في 7 أكتوبر/تشرين الأول وما بعده غير مسبوق في تاريخ القضية الفلسطينية ومفاعيلها الداخلية، وهو يحدث في ظل تحولات دولية وإقليمية متصاعدة، منها صعود الصين، والحرب الروسية-الأوكرانية، والرغبة الأمريكية في استقرار منطقة الشرق الأوسط للتفرغ للصراع والتنافس في أماكن أخرى، وبالتالي من الضرورة بمكان الاعتراف بصعوبة القياس على أحداث سابقة في قراءة النتائج والمشهد المستقبلي.

لقد نفّذت المقاومة الفلسطينية، كما قال أبو عبيدة الناطق العسكري باسم أبرز قواها، في 7 أكتوبر/تشرين الأول، ضربة القرن، وهي كذلك بالفعل، إذ لم يتعرض الاحتلال الإسرائيلي لأي هجوم عسكري بهذا الحجم وبهذا التخطيط وبهذه النتائج التي كبَّدته خسائر عسكرية وأمنية وسياسية وغيرها.

من خلال قراءة جملة من التصريحات الصادرة عن الجناحين السياسي والعسكري لحركة حماس نجد من الواضح أن أولوية المقاومة في هذه اللحظة هي وقف الحرب بشكل كامل ولا شيء سوى ذلك، ثم الحديث بعد ذلك عن المستقبل سواء ما يتعلق بصفقة التبادل أو شكل التموضع العسكري لقوات الاحتلال الإسرائيلي.

ولكن مع ذلك، هناك كثير من المبادرات والطروحات التي تتردد من حين إلى حين حول خطط الجيش الإسرائيلي وما يدور حول نيّات لإقامة منطقة عازلة والوضع السياسي لغزة، وما يسمى “اليوم التالي بعد الحرب”، وشكل الحكم في غزة وطبيعة الحكومة المنويّ تشكيلها، وبالنظر إلى نتائج الحرب المدمرة فإن هناك أسئلة كثيرة حول عملية إعادة الإعمار وتجاوز الكارثة الإنسانية.

من المهم الوقوف هنا على حقيقة مهمة وهي أن الميدان يشير إلى أن الاحتلال الإسرائيلي غير قادر على تحقيق أهدافه، وأن المقاومة الفلسطينية ما زالت تُثبت صموداً ومواجهة قوية، فضلاً عن استمرار عملية التحكم والسيطرة في الميدان منذ 3 أشهر، وهذا يجعل الاحتلال حتى الآن في مأزق، وبالتالي لا يستطيع فرض رؤيته السياسية على غزة ما بعد الحرب التي هناك شكوك جدية حول وجودها.

ومن ناحية ثانية، هناك معضلة أخرى تتعلق بالوضع الداخلي للاحتلال، فالجميع في دولة الاحتلال الإسرائيلي مدرك تماماً أن نتنياهو، الذي يُعد حجر الزاوية في تحديد الرؤية، لن يستمر على الأغلب في موقعه رئيساً للوزراء، وأن طول أمد الحرب يخدمه بشكل شخصي، وبالتالي الرؤية التي يريد تصميمها، ولذا هناك تداخل كبير بين الجانب الشخصي لنتنياهو وحتى بقية القادة الطامحين لخلافته مثل غانتس، وبين الرؤية التي تخدم مصلحة الاحتلال على المستوى الاستراتيجي، ولهذا يوجد تخبط واضح وارتباك كبير في أروقة صنع القرار لدى الاحتلال.

من جانبها، فإن حركة حماس التي أثبتت صموداً كبيراً على الأرض بمقاومتها بشكل أساس، وما زالت تحظى بدعم كبير من الحاضنة الشعبية التي قدمت تضحيات ضخمة، بل إن شعبيتها لدى شعوب العالم حتى الغربية منها في ازدياد وليست في وارد أن تتراجع أمام الضغوط. ومن المرجح أن القيادة السياسية لحماس مطالَبة بإثمار النتائج العسكرية للحرب نتائجَ سياسية تخدم المسار التحرري للشعب الفلسطيني.

وبالتالي من الصعب جداً أن تقبل بأقل من حكومة وطنية تسعى لخدمة أبناء شعبها وتسهم في إنجاح عملية الإعمار ودون أي تنازلات تتعلق بالمقاومة أو سلاحها أو حتى تبنّي مسار سياسي يتعارض مع الأفكار التي تؤمن بها المقاومة. ومن زاوية أخرى فقد رفضت السلطة الفلسطينية أفكاراً تتضمن تشكيل حكومة تكنوقراط تدير مرحلة انتقالية تُجرى خلالها انتخابات رئاسية وبرلمانية بعيداً عن منظمة التحرير.

أما بقية الفصائل الفلسطينية الفاعلة فقد عبَّرت عن موقفها في اجتماع جرى في 28 ديسمبر/كانون الأول في بيروت، إذ أكدت رفض كل الحلول لما يطلق عليه مستقبل غزة، مشددةً على ضرورة وقف العدوان مع تقديم حل فلسطيني يتمثل في تشكيل حكومة وحدة وطنية تنبثق عن توافق وطني شامل.

لقد ضغطت الإدارة الأمريكية باتجاه فكرة عودة السلطة إلى غزة، وإنْ كان هذا خيار يرفضه سكان غزة، إذ ستعدّ عودة السلطة مساراً لا يخدم الأجندة الوطنية في ظل المسار الذي تبنّته السلطة خلال 30 عاماً، إلا أن هذا المسار مرفوض من الجانب الإسرائيلي، وبالتالي أصبح هذا الأمر خياراً غير مرجَّح.

كل الخيارات التي يريدها الاحتلال تتعارض مع فكرة السيادة فضلاً عن حقوق أخرى، وبالتالي هم يدعمون أفكاراً غير منطقية، مثل دعم عائلات أو روابط قرى وهي كلها أفكار غير عملية ومجهولة وستكون نتائجها أخطر حتى على الاحتلال نفسه.

إن خيارات الاحتلال تجاه غزة تواجه رفضاً فلسطينياً وإقليمياً، وفي بعض الأحيان أمريكياً وغربياً، وبالتالي هي لا تكرس سوى التخبط ولا يمكن أن يوجد استقرار نسبي إلا إذا حصل تحسن في الوضع عمّا كانت تعيشه القضية الفلسطينية قبل 7 أكتوبر/تشرين الأول، وهو ما يدرك الاحتلال خطورته أيضاً.

الجانب الإنساني

لا يَخفى على عاقل أن الجانب الضاغط حالياً في غزة هو الجانب الإنساني، ولو لاحظنا فإنّ المقاومة عقدت صفقة تبادل خلال الحرب كان أحد أهدافها الأساسية هو التخفيف عن الشعب الفلسطيني وإحداث تنفيس للأزمة الإنسانية، وهو ما لاقى تقديراً من عموم الشعب في غزة.

وبالتالي فإنه يمكننا القول إن هذه النقطة ستبقى تمثل أولوية لدى المقاومة، ولهذا يستمر السعي من الداخل والخارج لتنفيس هذه الأزمة، رغم أن الشعب أبدى صبراً أسطورياً.

ستواجه قضية الإعمار، خصوصاً في الشمال، صعوبات كبيرة ما لم يجرِ ربط ملف الإعمار بالصفقة الشاملة، كما أن عودة الناس من الجنوب إلى الشمال ستتحقق بلا شك، بالنظر إلى ما حصل خلال الهدنة المؤقتة وعودة الناس إلى أماكن مثل بيت حانون، ولكنْ هناك غموض حول المستقبل ستحدده عناصر عدة معقَّدة.

ولهذا يمكن أن تكون المقاومة منفتحة نسبياً على كل ما من شأنه أن يدعم تجاوز الأزمة الإنسانية عبر مؤسسات دولية ودول مجاورة وصديقة في المنطقة، ولكن مع تأكيد عدم حدوث أي مساسٍ بمستقبل المقاومة. والمقصود هنا بالانفتاح هو تولي جهات دولية ملف الإعمار، أو تفويض جهات محلية غير سياسية بالتواصل مع المؤسسات الدولية لترتيب تنفيذ إعادة الإعمار وملفات الإغاثة، ويتوقف هذا الأمر عند أي شروط سياسية أو أمنية تؤثر في وضع المقاومة.

الجانب العسكري والمنطقة العازلة ومداها

وحول التموضع العسكري للاحتلال، لا يزال العدو يدفع بقوات جديدة في منطقة خان يونس، حيث توجد فيها 7 ألوية قتالية إسرائيلية الآن بعد أن انسحب من عدة مناطق في غزة وشمالها، وهذا يؤكد صعوبة وشدة المعارك من جهة، ومن جهة أخرى رغبة العدو في إنجاز أهدافه بأسرع وقت في ظل الضغوط المتعلقة بطول أمد العملية سواء من الجانب الأمريكي على الحكومة الإسرائيلية أم من الرأي العام الداخلي الذي يعيش اليوم أطول حالة طوارئ في تاريخه.

لذلك هناك أنباءً متداوَلة حول نية الاحتلال إقامة منطقة عازلة حول غزة، وهناك أنباء حول احتلال محور فيلادلفيا بين غزة ومصر، وقد أكد نتنياهو في مقابلة مع صحيفة “لا ستامبا” الإيطالية، أن السلام من وجهة نظره يتضمن إنشاء منطقة أمنية مؤقتة على طول قطاع غزة، بما في ذلك على الحدود مع مصر، لمنع تسريب الأسلحة.

وبالنسبة إلى هذه الأخيرة، ورغم ترويج الاحتلال أهمية سيطرته عليها فإنها ستعمِّق جراح الاحتلال وسيكون طريق الوصول إليها محفوفاً بخسائر توازي ربما ما خسره خلال الحرب كلها.

أما المنطقة العازلة فهي أيضاً خيار غير سويّ عسكرياً؛ لأن أولاً مساحة قطاع غزة لا تسمح بإنشاء منطقة عازلة داخل قطاع غزة سواء كانت بعمق كيلومتر أو كيلومترين، ولهذا إنْ لجأ الاحتلال إلى إقامة مناطق عازلة مع القطاع خارجه، فإن هذا سيكون انتصاراً للمقاومة وسيعدّ انسحاباً من العدو وتراجعاً عمّا كان قبل 7 أكتوبر/تشرين الأول، كما سيجعل الاحتلال هذه المنطقة منطقة استهداف لجنوده وسيجعل فكرة عودة سكان الجنوب مستحيلة تماماً، وهي التي أصبحت صعبة جداً بعد ما حدث في 7 أكتوبر/تشرين الأول.

وبالتالي يمكن الحديث عن المنطقة العازلة بوصفها خياراً مؤقتاً فقط في إعادة التموضع، لأنه حتى في مرات سابقة لم تكن المقاومة تمتلك القذائف الموجهة وبعيدة المدى لم يستطع الاحتلال الاستمرار في احتلال ما يسميها المناطق العازلة.

يمكن القول إن شكل العملية العسكرية سيأخذ طابعاً متسرعاً رغبةً في تحقيق أهداف محددة وكبيرة خلال وقت قصير، ومن ثمَّ إعادة الانتشار المتدرج نحو الانسحاب من غزة الذي سيحدث في حال الحصول على صورة إنجاز متخيَّل أو في ظل ضغوط خارجية وداخلية كبيرة. ويمكن للاحتلال أن يتحدث عن أشكال متعددة من العمل العسكري في غزة، ولكن السؤال هو عن مدى تحمله خوض جولات أخرى من القتال في ظل أنه لم يبقَ ما يستطيع أن يردع به غزة أكثر مما فعله.

من الواضح أن المقاومة الفلسطينية تعاملت بشكل قويّ ومحكَم مع العملية العسكرية البرية وكبّدت الاحتلال خسائر كبيرة تجعل مسار الاحتلال نحو أهدافه مجهولاً وأقرب للفشل، وكما أشارت القناة 12 الإسرائيلية فإن هناك انزعاجاً كبيراً داخل الجيش بسبب أن المستوى السياسي لم يحدد أهداف استمرار القتال إلى الآن، خصوصاً في ظل صعوبة دفع المقاومة إلى صفقة تبادل جديدة دون توقف القتال بشكل كامل.

وما زالت قضية صفقة الأسرى بيد المقاومة بطاقة قوة مهمة تزداد القناعة بشكل يومي بأنها البطاقة التي يمكن أن يكون لها الثقل الأكبر في أي حل، وهي التي تُقدَّم المبادرات حولها، وكما كانت الحرب صعبة جداً فإن إتمام الصفقة لن يكون سهلاً.

عن الكاتب

محمود سمير الرنتيسي

باحث في مركز سيتا للدراسات بأنقرة


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس