ياسين أقطاي - الجزيرة مباشر

بينما لا يزال العالم يتابع جريمة الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل في غزة على مدار أكثر من ثلاثة أشهر بكل همجيتها، فإن يومي الخميس والجمعة الماضيين كانا الموعد في محكمة العدل الدولية للاستماع إلى أحداث هذه الجريمة التي تتم ضد الإنسانية؛ لتكون هذه المرة الأولى في تاريخ الإبادة الجماعية في العالم. ولتستمر عملية الملاحقة القضائية لقوات الاحتلال الغاشم.

والحقيقة أنه من الغريب أن تستمر الإبادة الجماعية ومحاكمتها في نفس الوقت. رغم أن السبب وراء سرعة استجابة محكمة العدل الدولية للاستماع إلى دعوى الإبادة الجماعية يرجع جزئيًّا إلى ما تخلفه هذه الجريمة من آثار مدمرة وحالة التلبس بالجريمة الواضحة للغاية، إضافة إلى صعوبة اتخاذ أي تدابير فعَّالة لوقفها؛ لأن الذين لديهم القدرة على اتخاذ الإجراءات اللازمة هم أيضًا متواطئون مع تلك الجريمة. فالجميع يعلم أنه لا توجد حاليًا أي قوة أخرى غير أمريكا يمكنها منع إسرائيل من ارتكاب جرائم ضد الإنسانية، ورغم ذلك فإن هذه القوة لا تريد حتى أن توافق إسرائيل على وقف إطلاق النار، فضلًا عن أنها تحرض إسرائيل وتشجعها على ارتكاب هذه الجرائم، وتساعدها بكل شيء في عدوانها.

فهل ستراعي محكمة العدل الدولية هذا الجانب من الأمر أيضًا، وإلى أي مدى ستتمكن من رؤية الحقيقة والحكم فيها؟! وقبل هذا التساؤل، بالطبع هناك سؤال حول ما إذا كانت محكمة العدل الدولية قادرة حقًّا على إجراء محاكمة عادلة في هذا الموضوع. فحتى الآن، لم يظهر أي اعتراض حقيقي من أوروبا على المستوى السياسي ضد الإبادة الجماعية التي دعمتها أمريكا وحرضت عليها. بل على العكس من ذلك، لا تزال أوروبا تفرض قيودًا صارمة على وسائل إعلامها والأوساط الأكاديمية والشوارع في وجه الذين يدعمون غزة ويدينون إسرائيل أو ينتقدونها. فكل القيم التي نادت بها أوروبا تم التضحية بها لصالح إسرائيل. وفي مثل هذه البيئة غير المتوازنة، فإن الكيفية التي ستنظر بها محكمة العدل الدولية إلى هذه القضية في وسط أوروبا وتعاملها معها، ستكون بمثابة اختبار حقيقي لأوروبا وشعاراتها.

في الواقع، على الرغم من أن بداية هذه العملية في محكمة العدل الدولية مهمة في حد ذاتها، إلا أن هناك عراقيل وقيود كبيرة في سلطتها وتأثيراتها، فليس لديها سلطة محاكمة الأشخاص المتهمين بارتكاب جرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية، وبما أنها ليست محكمة جنائية، فليس لديها مدع عام يمكنه بدء المحاكمات. كما أنها لا تملك سلطة بدء التعامل مع النزاعات بمبادرة منها، فلا تستطيع المحكمة التعامل مع النزاعات إلا بناءً على طلب دولة واحدة على الأقل. بالإضافة إلى ذلك، يجب أن يقبل طرفا النزاع اختصاص المحكمة، وبعبارة أخرى، يجب الموافقة على أن تنظر محكمة العدل الدولية في النزاع.

إن موافقة إسرائيل على المشاركة في هذه العملية، والتي بدأت بطلب جنوب إفريقيا أمام محكمة العدل الدولية، لا تنطلق من كون قرارات المحكمة ملزمة. ورغم أن إسرائيل عضو في مثل هذه المؤسسات الدولية، فإنها لا تتردد في إظهار غطرستها أمام الاعتراف بإلزامية قراراتها. وهي في هذا الوضع تتمتع بميزة استثنائية تستغلها دائما إلى أقصى حد، بالاعتماد على أمريكا. ورغم ذلك فإن قبولها المشاركة في محكمة العدل الدولية يرجع إلى رغبتها في إظهار التحدي والعجرفة.

لكن هذا السلوك المتعجرف الذي اعتدنا رؤيته من إسرائيل منذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول، لا يقود إلى النتائج التي تريدها هي وأسيادها وداعميها. فإسرائيل التي أسست وجودها وشرعيتها الجائرة على ادعاء ما مر به اليهود من إبادة جماعية، تجد نفسها مضطرة لأول مرة إلى مواجهة دعوى رسمية ضدها بالإبادة الجماعية. ومهما كانت النتيجة فستكون هذه هي المرة الأولى التي سيتم تسجيل ذلك.

ومن ناحية أخرى، وعلى عكس حالات الإبادة الجماعية الأخرى، فإن ما تشهده غزة من إبادة جماعية تم توثيقه مباشرة وشاهده العالم كله. فالإبادة الجماعية التي ارتكبتها أمريكا شريكة إسرائيل وحاميتها، ضد الهنود في الماضي، ونظام أبارتهيد الذي طبقته ضد الأفارقة حتى بعد استعبادهم ثم منحهم حريتهم، والإبادة الجماعية التي نفذتها في فيتنام وهيروشيما تم الكشف عنها للبشرية وتم إظهار العديد من المعلومات حولها بعد عدة أشهر. وكذلك فإن عمليات الإبادة الجماعية التي ارتكبتها فرنسا في الجزائر وغيرها من المستعمرات في إفريقيا، والتي ارتكبتها إنجلترا في الهند وغيرها من المناطق الاستعمارية، لم يتم رؤيتها وتوثيقها إلا بعد أن أصبحت الجرائم ضد الإنسانية من التاريخ. وفي ألمانيا عرف الناس أخبار محرقة الهولوكوست بعد مدة، ورغم ذلك فإن من ارتكبوا تلك الجرائم، وكذلك من سمعوا بالحادثة ولم ينددوا بها تم إدانتهم أخلاقيًّا وقانونيًّا.

لكن اليوم تجري الإبادة الجماعية في غزة أمام أعين العالم أجمع، في حدث تم تسجيله باعتباره جريمة الإبادة الجماعية الأكثر توثيقًا وشهودًا بلا منازع في تاريخ الإبادة الجماعية.

ولا شك أن إمكانات وسائل التواصل الاجتماعي العابرة للقارات اليوم تلعب دورًا كبيرًا في هذه الشهادة، لكن من ناحية أخرى يشكل مقتل الصحفيين أثناء محاولتهم تغطية ما يحدث في غزة، والذين بلغ عددهم 103 صحفيين، جزءًا من جريمة الإبادة الجماعية.

وفي تصريحاته للأناضول أوضح أحد أعضاء هيئة التدريس بجامعة كاليفورنيا البروفيسور حاتم بازيان، أن الصحفيين شهود أحياء على الإبادة الجماعية، فإنهم يشهدون على الإبادة الجماعية عبر الأخبار والصور التي ينقلونها وكذلك بوفاتهم في الأحداث. وبفضلهم، سيكون لدينا ملايين الوثائق المسجلة دقيقة بدقيقة، وثانية بثانية، حول هذه الإبادة الجماعية المستمرة. وثائق تظهر الدمار وكيف مات الناس. “ولأول مرة في التاريخ، يتم توثيق إبادة جماعية مستمرة لحظة بلحظة”.

ولننتظر معا نتيجة الاستماع إلى جريمة الإبادة الجماعية الأكثر توثيقًا في العالم في محكمة العدل الدولية.

عن الكاتب

ياسين أقطاي

قيادي في حزب العدالة والتنمية التركي الحاكم


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس