صالحة علام - الجزيرة مباشر
رغم مرور ثلاثة أشهر على الدعوة التي أطلقها الرئيس أردوغان لإجراء حوار مباشر مع النظام السوري، وتذليل العقبات التي تعرقل عودة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، إلا أن هذه الدعوة لا تزال تراوح مكانها، إذ لم تتعد المسألة التصريحات المتبادلة بين الجانبين التي تبدو إيجابية وتصب للوهلة الأولى باتجاه وجود رغبة حقيقية لتخطي مرحلة الخلافات، وبدء مرحلة جديدة من التعاون المشترك.
عفا الله عما سلف، مقولة يمكن اعتمادها لإنهاء خلافات شخصية أو مجتمعية، لكن من الصعب القبول بها كوسيلة مجدية لحل الخلافات، وإنهاء القطيعة في العلاقات الدولية خاصة تلك التي تحمل في طياتها تعقيدات متباينة، يصعب تجاهلها أو التقليل من شأن خطورتها وانعكاساتها السلبية على العديد من المستويات السياسية والأمنية.
تركيا -تحديدًا- لديها ميراث ثقيل نتج عن تدخلها كطرف مباشر في المسألة السورية، وتخليها عن سياسة الحيادية التي طالما اتبعتها في تعاملاتها مع مثل هذه القضايا، إذ اتخذت موقفًا متشددًا، واصطفت إلى جانب قوى المعارضة السورية الراغبة في الإطاحة بنظام الأسد لإقامة نظام سياسي ديمقراطي.
وفي سبيل تحقيق هذا الهدف المعلن من جانب المعارضة، قامت أنقرة باحتضانها، وفتح أبوابها دون ضابط أو رابط لاستقبال عناصرها المؤثرة، داعمة موقفها في مواجهة النظام السوري، وتولت مهمة تدريبها عسكريًا، ودعمها لوجستيًا، بل وأشركت عناصرها في عملياتها العسكرية التي قامت بها في الداخل السوري، -وتحديدًا- في مناطق الشمال، وقامت عقب فرض سيطرتها عليها بتسليمها الإدارة فيها بعد أن اعتمدت لها نظامًا إداريًا تحت إشرافها ومراقبتها.
وجعلت من الليرة التركية بديلًا عن الليرة السورية أو لنقل ملازمة لها في عمليات البيع والشراء هناك، ليتحول الشمال السوري بمرور الوقت إلى أحد أهم منافذ الصادرات التركية لسد حاجات السكان المقيمين به والمهجّرين إليه من مختلف أنحاء المحافظات السورية هربًا من ويلات الحرب.
وهو الوضع الذي يمثل إحدى أهم العقبات التي تقف حجر عثرة في طريق إتمام المصالحة مع دمشق، صحيح أن الأخيرة تركت الباب مواربًا بعد تشددها تجاه تحقيق المصالحة، وفرضت عدة شروط تراها ضرورية لاستعادة سيطرتها وسيادتها على أراضيها، وتشمل انسحاب القوات التركية من الأراضي السورية، وتفكيك العناصر المسلحة التابعة لقوى المعارضة.
لكن الأمور في حقيقتها تتخطى اشتراطات دمشق التي يمكن التفاهم بشأنها، ووضع حلول منطقية لتخطيها، فهناك صعوبة حقيقية ومخاطرة تكمن في فكرة تخلي أنقرة عن هذه المجموعات المسلحة التي تمثل قوام الجيش السوري الحر، أو محاولة التضحية بهم وإسقاطهم من أولويات أجندتها خلال توجهها صوب مصافحة الأسد، وإنهاء ثلاثة عشر عاما من القطيعة.
مع الأخذ في الحسبان استمرار تواجد عناصر كل من المسلحين الأكراد المدعومين من الولايات المتحدة الأمريكية، وتنظيم الدولة الذي يطل برأسه بين الفينة والفينة، بما يمثل تهديدًا حقيقيًا للأمن القومي التركي، ويهدد مناطقها الحدودية مع الدولة السورية، في ظل غياب المنظومة الأمنية السورية، وضعف أداء الجيش العربي السوري، وعدم قدرته على ضبط الحدود وحمايتها من التهديدات التي تواجهها بمفرده، وفق رؤية تركيا.
ويبدو أن هذا هو السبب الحقيقي وراء إصرار أنقرة على استمرار تواجد قواتها، تحقيقًا لعدة أهداف أبرزها التوصل إلى اتفاق مع دمشق يتم بموجبه ضمان دمج قوام الجيش السوري الحر وانخراط أفراده ضمن الجيش العربي السوري، بما يحفظ لتركيا مكانتها، ويؤكد وفاءها بالتزاماتها، واستمرار دعمها لحلفائها من عناصر المعارضة السورية، ويبدد مخاوفهم من احتمالية التخلي عنهم مقابل التصالح مع النظام تغليبًا لمصلحتها الخاصة.
إضافة إلى رغبتها في تطهير المناطق الحدودية من العناصر غير المرغوب فيها في مهمة مشتركة بين قواتها المتواجدة هناك والقوات السورية، مع ضمان قدرة نظام الأسد على فرض سيطرته الكاملة على مختلف أراضي الدولة السورية دون مساندة من أحد قبل الحديث عن تاريخ بدء سحب قواتها من هناك.
بهدف الحفاظ على الوحدة الترابية للأراضي السورية، وتفويت الفرصة على مخططات واشنطن الرامية لتشكيل كيان سياسي للعناصر الكردية المسلحة المتواجدة في الشمال السوري، سواء كان هذا الكيان فدراليًا أو كونفدراليًا.
لا يقل ملف اللاجئين المقيمين في تركيا خطورة بالنسبة للحكومة عن ملف قوات الجيش السوري الحر، بعد أن تحول وجودهم إلى كابوس في ظل تنامي العنصرية داخل المجتمع التركي وتصاعدها بشكل يهدد السلم الاجتماعي.
إذ تبدو الحكومة التركية عالقة في هذا الملف بين سندان رفض معظمهم العودة طوعًا إلى مناطقهم ما دام نظام الأسد على رأس السلطة في سوريا، ومطرقة فشل مؤسسات الدولة المعنية بمحاصرة هذه الظاهرة، والحد من انتشارها، وتقويض تداعياتها.
لهذا تسعى إلى تهيئة الظروف الملائمة سياسيًا واقتصاديًا لضمان عودة هؤلاء اللاجئين إلى بلادهم طوعًا دون أية ضغوط، ووداعهم بصورة لائقة ينهي الجدل الداخلي بشأنهم، وإغلاق هذا الملف بدبلوماسية تؤمّن استمرار العلاقات التاريخية والاجتماعية التي طالما جمعت بين الشعبين دون كراهية أو ضغائن.
ولعل حادثة الطفل السوري الذي تعرض للعنف على يد مُسن تركي في إحدى وسائل النقل العام، وجريمة القتل البشعة التي أودت بحياة شاب سوري تعرض للطعن 12 مرة على يد مراهق تركي، وقبل هذه الحادثة بساعات قليلة جريمة قتل رجل أعمال عراقي كردي في حي أكسراي بإسطنبول لتحدثه باللغة الكردية على الهاتف مع أحد أقربائه، ولا يفوتنا حادث الطعن الذي تعرض له عامل تركي في مدينة بورصة أيضًا على يد مجموعة مجهولة ظنًا منهم أنه سوري، ما أدى إلى إصابته بجروح خطيرة استدعت إجراء جراحة عاجلة له، حوادث متلاحقة تُعد دلائل على تزايد خطورة ظاهرة العنصرية وتفشيها في المجتمع مما ينذر بصعوبة القضاء عليها.
ورغم الخطوات المتسارعة لأنقرة باتجاه استعادة العلاقات الدبلوماسية بدمشق، إلا أن النظام السوري يبدو أكثر تمهلًا وروية في تعاطية مع هذا الملف، ومع المحاولات التي تبذلها كل من روسيا، وإيران، والعراق لإعادة المياه إلى مجاريها بين الجارتين، صحيح أن استئناف علاقاته بتركيا يحقق له العديد من المكاسب السياسية، والاقتصادية، والأمنية، إلا أن هذه المكاسب يمكن لها أن تنتظر قليلا، وهو ما يمكن رصده في ردود الفعل الصادرة من جانب دمشق، عكس الخطوات المتسارعة لأنقرة.
ويرى الأسد أنه لا داعي للعجلة بعد أن استعاد جل علاقاته بالدول العربية، واسترد مقعده في الجامعة العربية، وتلقيه لرسائل إيجابية ومحاولات تودد من جانب عدد من الدول الأوروبية، التي يرغب قادتها في زيارة دمشق.
يدرك النظام السوري إذن المأزق الذي تعيشه أنقرة، والأسباب التي تحرك رغبتها في تسريع خطوات إعادة علاقاتها به، لذا؛ يتأنى في منح الأتراك الضمانات التي يسعون إليها، لتدرك أنقرة مدى احتياجها له في ظل التطورات المتسارعة التي تشهدها المنطقة، حتى تتريث مستقبلا في قراراتها، وتدرك إلى من يجب أن تصطف في المرة المقبلة، إذا كانت هناك مرة مقبلة.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس