محمود عثمان - خاص ترك برس

تجنح الشعوب الشرقية إلى تمجيد زعمائها إلى درجة التقديس وإضفاء صفات أسطورية تجعل القائد يتصرف على طريقة "ما أريكم إلا ما أرى، وما أهديكم إلا سبيل الرشاد". في الثقافة التركية العثمانية نجد ظاهرة المداحين أو المتملقين Dalkavukluk قد انتشرت - كما تذكر كتب التاريخ - حتى لا يكاد يخلو قصر لوزير أو باشا أو وال من وجود هؤلاء فضلا عن حاشية السلاطين.

ولا يبدو أن تلك الظاهرة قد اقتصرت على ذاك الزمان فحسب بل استمرت – وإن بأشكال مختلفة - إلى يومنا هذا إذ لم تخل الساحة السياسية من وجود أولئك المداحين والمتملقين المنتفعين الذين يتقمصون صورا شتى لكن يبقى المضمون واحدا، هو الثناء والإطراء والمديح و(تمسيح الجوج) دائما وفي جميع الظروف في الحق والباطل سواء، حتى بلغ الحد ببعضهم إلى إعلان المرحوم نجم الدين أربكان على أنه "المهدي المنتظر" لكن الرجل طردهم وأبعدهم عن مجلسه.

ولا ننسى مداحي البلدان العربية الثورية التقدمية الذين يرون الوطن ضيقا صغيرا بالنسبة لقائدهم فيعلنونه زعيما أبديا للكون بأسره، أو أولئك الذين جعلوا لزعمائهم الدينيين – أئمتهم – مقاما لا يبلغه ملك مقرب ولا نبي مرسل!.

في الحقبة القريبة الماضية نجحت المعارضة السياسية في تركيا من خلال حملة نفسية إعلامية (بروباغاندا) مدروسة في خلق صورة نمطية في أذهان الناس صورت الرئيس رجب طيب أردوغان على أنه السلطان، الدكتاتور، المتفرد بالقرار، الآمر الناهي، المتجاوز لصلاحياته المتعدي على حدود الآخرين وصلاحياتهم، الذي لا يقبل المشورة ولا النصيحة، الذي يضرب بالقوانين عرض الحائط. إلى غير ذلك من الصفات السلبية !.

صحيح أن قوى خارجية ووسائل إعلامية عالمية يأتي في مقدمتها مجلة الإيكونوميست وتلفزيون سي إن إن وغيرها من كبريات المؤسسات الإعلامية العالمية العملاقة قدمت دعما منقطع النظير في رسم تلك الصورة النمطية السلبية وترسيخها في عقول الناس، لكن قطاع المداحين والمنتفعين والمتملقين شكل لأولئك مادة دسمة سهلت لهم مهمتهم.

لا أحد ينكر أن الزعيم المؤسس والقائد الحقيقي والفعلي لحزب العدالة والتنمية هو رجب طيب أردوغان، ولا أحد ينسى جهوده في بلوغ تركيا مصاف الدول المتقدمة، ونمو اقتصادها ليتقدم على الدول البترولية، ووصول الإسلاميين فيها إلى أعلى مراتب النجاح، ولا أحد يستطيع الاستغناء عن دوره الريادي والقيادي، ولا أحد يريد تجاوزه أو تحجيم دوره. لكن من حق بقية أعضاء الفريق السياسي من رفاق الدرب المؤسسين للحركة أن يأخذوا أماكنهم في اللوحة الكبرى ومشهد النجاح والإنجازات، بل حقهم الطبيعي أن يكون لهم كامل الاستقلالية في ساحات عملهم لا أن يبقوا عناصر في الظل متلقية للأوامر مكملة للصورة فقط.

يمارس المداحون المتملقون المنتفعون هذه الأيام حالة من الإرهاب إذ يصورون أن ذكر أي شخص خلاف الرئيس أردوغان إنما هو نكران للمعروف وخيانة للحركة وخطر على الدعوة حتى لو كان ذاك الشخص رئيسا سابقا أو رئيس وزراء. قد يكون بعض هؤلاء مخلص النية سليم الطوية، لكن مما لا شك فيه أن ضررهم أكثر من نفعهم، لأنهم يتسببون في خلق حالة من الثنائية والجفاء المؤدي للقطيعة بين رفاق الدرب دون أن يشعرون، وقد يتسبب هؤلاء – بقصد أو بدون قصد -في إحداث شرخ بين قواعد الحزب ومكوناته قد لا يتنبه إليه من في موقع القيادة، وسيكون هؤلاء سببا في خسارة شرائح شعبية مؤيدة للحزب إن لم يوضع حد لهم.

هناك شبه إجماع على أن الانتخابات المبكرة في تركيا ليست بالبعيدة حتى لو تم تشكيل حكومة ائتلافية، وأن جميع الأحزاب والقوى السياسية وغير السياسية منهمكة في وضع استراتيجية للتعامل مع المرحلة القادمة بالغة الحساسية والتعقيد، وأن معظم المحللين السياسيين متفقون على أن المستفيد الأول سيكون حزب العدالة والتنمية ليس لزيادة في ثقة الناخبين فيه إنما خوفا من الحكومات الائتلافية التي يرتعد المواطن من ذكرها. لكن ذلك ليس مضمونا مائة بالمائة، بل هو مشروط بتلافي حزب العدالة والتنمية لأخطاء استراتيجية ارتكبها ليس أولها فقدانه ثقة شريحة المتدينين الأكراد، ولا آخرها وضع قائمة المرشحين من طرف القيادات في أنقرة دون الرجوع إلى آراء قواعد الحزب العاملة على الأرض. لكن تبقى وحدة تماسك صف القيادة العليا هي الأولى والأساس لأي نجاح، لذلك لا بد من ترتيب العلاقة بين الرئيس رجب طيب اردوغان من جهة ورئاسة الوزراء ورئاسة الحزب من جهة أخرى بطريقة تدحض الصورة النمطية أعلاه ويفهمها المواطن العادي صاحب القرار الفصل.

عن الكاتب

محمود عثمان

كاتب سياسي مختص بالشأن التركي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس