ترك برس

تناول تقرير للكاتب والمحلل التركي سليمان سيفي أوغون، قراءة نقدية لإرث ماركس من زاوية مغايرة، إذ يقدّمه بوصفه مفكرًا محافظًا في جوهره، لا ثوريًا كما شاع عنه.

وناقش التقرير الذي نشرته صحيفة يني شفق العلاقة المعقدة بين الرأسمالية والاشتراكية، معتبرًا أن الاشتراكية ولدت من رحم الرأسمالية ولا تستطيع الانفكاك عنها، بل ظلت دائمًا تدور في فلكها.

كما يرصد الكاتب التحولات الكبرى في مركز الثقل الرأسمالي من الغرب إلى الشرق، خاصة مع صعود الصين، موضحًا كيف أن الرأسمالية استطاعت أن تعيد إنتاج نفسها بأشكال جديدة رغم الأزمات.

ويركز أوغون على أثر الرأسمالية في تفتيت الإيمان الحقيقي، وتحويل المعرفة إلى سلعة فاقدة للروح، وفيما يلي نص التقرير:

قبل أيام، كنتُ في حديث مع زميل أقدّر أفكاره تقديراً عالياً. وبالصدفة، تحوّر الحديث إلى إرث ماركس. عندها قال صديقي جملة لافتة: "ماركس يجب أن يُعدّ، في الحقيقة، محافظاً بكل صراحة". وقد طابقت هذه الفكرة تماماً إحدى النقاط التي كنتُ قد طرحتها قبل سنوات في مقالة نشرتها في العدد الخاص بـ"التيار المحافظ" في مجلة "الشرق والغرب".

في تلك المقالة، عقدت مقارنة بين باكونين وماركس، وخلصت إلى أنه إن كان باكونين ثورياً، فإن ماركس يستحق أن يُصنف بوضوح كمحافظ. أليس ماركس هو من وصف باكونين، الذي قال "الهدم ثم الهدم بلا توقف ولا تروٍّ"، بأنه شخص "متهور" و"فاقد للاتزان"، بل كتب يقول: "أن تهدم دون أن تعرف ما الذي ستضعه مكان ما تهدمه، فذلك هو بؤس الفوضوية بعينه" ومواجهة الاندفاع والتطرف بهذه الطريقة هي من صميم ما يصفه علم النفس السياسي بـ"الذهنية المحافظة". نعم، قد يبدو هذا غريباً ويثير اعتراضات كثيرة، لكنني مقتنع تماماً أن ماركس كان محافظاً في جوهره.

إحدى أهم أطروحات ماركس كانت تتعلق بالتناقض بين العمل ورأس المال الذي أنجبته الرأسمالية. لكن ما لم يُدركه ماركس – أو لعله لم يُرِد التعمق فيه – هو: من هو الفاعل، ومن هو الموضوع في هذا التناقض؟ من الواضح أن رأس المال هو الذي أسّس النظام، ومن دونه لا يكون للعمل أي مقابل أو معنى. فالمشكلة لا تكمن فقط في أن رأس المال يستغل العمل، بل في كونه هو الفاعل والمحرّك الأول للمنظومة. وفي المقابل، فإن تحوّل الطبقة العاملة إلى فاعل مستقل أمر مستحيل في ظل الإملاءات الحتمية للرأسمالية. واللافت أن الأفكار الإيجابية التي تبنّاها ماركس حول الرأسمالية تُفاقم هذه المعضلة.

فبالنسبة له، وعلى الرغم من كل تناقضاتها والجراح العميقة التي خلفتها، فإن الرأسمالية تمثل مرحلة متقدمة جداً – بل ومثيرة للإعجاب أحياناً – في تاريخ البشرية. لذلك من المثير للتأمل أن ماركس وصف من انتقدوا التطورات العلمية والتقنية التي رفعت من شأن الرأسمالية، ومن رفضوا الصناعة بوصفها نتاجاً لهذه التطورات – وأراهم أنا الثوريين الحقيقيين – بأنهم رجعيون، وظلاميون.

بكلمة واحدة: الرأسمالية نفسها هي التي أوحت بفكرة الاشتراكية. ماركس، في جانب من رؤيته، رأى في الاشتراكية – وفي ذروتها الشيوعية – فرصة "لإضفاء الطابع الإنساني على الرأسمالية". وهنا يكمن خطأه الجوهري. فالاشتراكية كانت نموذجاً يمكن للرأسمالية – ربما – أن تتيحه جزئياً، بل وتوجهه أيضاً بشكل مباشر وغير مباشر. وبالتالي، فالاشتراكية، سواء كانت نظرية أو ممارسة، يمكن أن تتداول ضمن الرأسمالية، لكنها لا يمكن أن تحل محلها.

ومن هنا نفهم لماذا عجزت التجارب الاشتراكية التاريخية عن تجاوز إنتاج نماذج رأسمالية خاضعة لسيطرة الدولة أو النقابات، أي عن تجاوز نسخ مشوهة من الرأسمالية. فإن كنا نريد تجاوز الرأسمالية فعلاً، فإن علينا، كما أشار المفكر الياباني كاراتاني، أن نتخلى كلياً عن فكرة أن الرأسمالية تمثل "تقدماً تاريخياً". بل علينا ألا ننسى أنها شرٌّ تاريخي في جوهرها.

وإذا كنا حقاً نبحث عن نماذج بديلة تحلّ محل الرأسمالية، فإن علينا أن نولي أنماط التبادل (أنماط الاقتصاد والتعامل) أهمية أكبر مما أولاه إياها ماركس، وأن نلجأ إلى تفكير استعادي (كما في أسطورة "العودة الأبدية") أو تراجعي. ويبدو أن هناك الكثير من الأسباب التي تدفعنا لتبنّي هذا النهج. لكن، وللإنصاف، لست من الذين يرون أن ذلك ممكن بسهولة. فقد تركت الرأسمالية في تاريخ البشرية تأثيرات بالغة التعقيد، وجعلت تجاوزها مهمة شبه مستحيلة.

وأعتقد أن أخطر ما فعلته الرأسمالية هو أنها "أطفأت حرارة الإيمان". ففي الرأسمالية، قد تُكتشف الحقائق، لكن لا يُعاش بها. فكلما اقتربت من الحقيقة، تنهض إملاءات الرأسمالية ومعاييرها، وتمنع تحقّق تلك الحقيقة أو الإيمان بها. وهذا ما يُسمّى بـ"نقص الإيمان". في الرأسمالية، قد تعرف الصواب، لكنك لن تؤمن به.

ما نشهده اليوم من نموذج "الرأسمالية ذات المطرقة والمنجل" في الصين يؤكد تمامًا ما ذكرناه سابقًا. هذا النموذج، الذي قد يثير دهشة الكثيرين، يُعد في الواقع التجسيد الأعلى والأصدق للرأسمالية. فالرأسمالية هي ببساطة القدرة على طرح عرض في السوق بأقل تكلفة وبأعلى ربح ممكن. إذا نظرنا إلى الغرب – سواء عبر مراكز الثقل مثل فرنسا، وهولندا، وبريطانيا والولايات المتحدة – نجد أنه نجح في تحقيق تراكمٍ للرأسمال. لكن هذه العملية لم تكن يومًا ثابتة أو مستقرة؛ بل العكس، كانت دومًا تجري فوق أرضية زلقة.

ومن الضروري اليوم أن نُقيِّم تحوّل مركز الرأسمال من داخل الغرب إلى خارجه، وبالأخص إلى الشرق، من خلال عدة زوايا. أولًا، يجب النظر إلى حجم الإنتاج: فإذا استمر النمو بوتيرة منتظمة، فلا مشكلة. ولتحقيق ذلك، يجب قبل كل شيء كبح جماح الأجور، وضبط الضرائب عند مستويات منخفضة. ثانيًا، ينبغي التدقيق في مدى صلابة الرأسمال المالي؛ فإذا كانت الزيادة في السيولة المالية تُوجَّه نحو الإنتاج، فهذه إشارة إيجابية. ثالثًا، يجب أن ننظر إلى مدى قدرة مركز التراكم على السيطرة على ما أسماه ماركس "قوى الإنتاج" – وأراه أنا، بشكل مباشر، المزايا التقنية. أما التفوق العسكري والثقافي والمؤسساتي، فيُشكّل عناصر مكملة لهذه الهيمنة.

لكن مغامرة الرأسمالية الغربية انحرفت عن مسارها؛ إذ قفزت إلى سكة "إعادة التوزيع"، التي تتعارض جذريًا مع منطق التراكم الرأسمالي. تمثّلت هذه القفزة في تطبيقات الديمقراطية ودولة الرفاه. صحيح أن إعادة التوزيع أدت إلى ازدهار اقتصادي، لكنها زادت من التكاليف وأضعفت الإنتاجية. ونتيجة لذلك، انتقل رأس المال – مدفوعًا بمنطق طارد من المركز – إلى مناطق أخرى من العالم، وعلى رأسها آسيا، حيث الضرائب منخفضة، والديمقراطية ضعيفة، والحكومات سلطوية، والناس فقراء وعاطلون عن العمل.

وتبيّن أن "ديكتاتورية البروليتاريا"، التي قُدمت نظريًا كأداة اشتراكية، هي في الحقيقة الأداة المثلى لخدمة الرأسمالية. بدأت هناك انفجارات إنتاجية. في البداية، كانت سعادة الغرب غامرة: تخلّص من الصناعة الثقيلة المتعبة والملوِّثة، واستورد منتجات نظيفة ومُغلّفة بأناقة وبأسعار زهيدة. وظل يحتفظ باحتكاره المالي؛ يطبع النقود كما يشاء، ويجذب الفوائض من كل أنحاء العالم، ويغطي بها عجز موازناته. في الوقت نفسه، حافظ على تفوّقه التكنولوجي واحتكاراته، وتخلّص من "أوساخ" الرأسمالية الصناعية، ليستعد لقيادة مرحلة "رأسمالية المعرفة" الأنيقة والمعقمة. أما التفوق العسكري والهيمنة الثقافية، فبقيت في قبضته أيضًا.

لكن في العقدين الأخيرين، تغيرت الكثير من الأمور. انتقلت الفقاعات المالية من كونها دورية إلى أن أصبحت أزمات بنيوية. ونجحت الصين في اختراق الاحتكارات الغربية من خلال قفزات تكنولوجية ضخمة، بل وحققت مستويات متقدمة في القدرات العسكرية. واليوم، لم يتبقّ للولايات المتحدة سوى تفوقها العسكري وهيمنتها الثقافية. أما الأول، فبات يواجه منافسين جادين، بينما الثانية فقدت الكثير من مصداقيتها، وإن كانت – لسبب غريب – لا تزال تحتفظ بجاذبيتها.

يحاول ترامب، من خلال سياسات لا تخلو من الطابع العبثي، عكس هذه المسيرة. ولكن القرار لكم: احكموا أنتم بأنفسكم على المشهد الراهن. غير أن ما يجب ألا ننساه هو أن الماء إذا سُكب لا يُجمع، وأن التاريخ لا يسير إلى الأمام فحسب، لكنه لا يمكن إعادته إلى الوراء أيضًا

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!