
ترك برس
تناول تقرير للكاتب والخبير التركي د. محمد رقيب أوغلو، بمجلة "كريتيك باكيش" الفكرية، التحولات السياسية والاجتماعية في الموقف الغربي تجاه القضية الفلسطينية بعد الهجمات الإسرائيلية على غزة منذ أكتوبر 2023، حيث أدى الضغط الشعبي والمظاهرات الحاشدة في عدة دول أوروبية إلى دعوات متزايدة للاعتراف بدولة فلسطين.
ويسلط التقرير الضوء على خطوات بعض الدول مثل فرنسا وبريطانيا في إعلان نيتها الاعتراف بفلسطين، مع إبراز الشروط والمواقف المتباينة بين الحكومات الغربية.
رغم هذه التحركات الرمزية، يبقى هناك شك واسع حول جدية هذه الخطوات في ظل استمرار الدعم الغربي لإسرائيل وعدم فرض عقوبات حقيقية، مما يعكس مأزقًا أخلاقيًا وسياسيًا عميقًا في التعامل مع القضية الفلسطينية.
وفيما يلي نص التقرير:
الهجمات التي تشنها إسرائيل على غزة منذ أكتوبر 2023، والتي وثقتها المؤسسات الدولية على أنها إبادة جماعية، أدت إلى صحوة ضمير كبيرة لدى الرأي العام الغربي. في العديد من البلدان، وخاصة الدول الأوروبية، خرج الناس إلى الشوارع مطالبين حكوماتهم بوقف دعمها لإسرائيل. المظاهرات التي شارك فيها مئات الآلاف في عواصم مثل لندن وباريس وبرلين، أجبرت الحكومات على مراجعة سياساتها. بينما حاول المسؤولون الأوروبيون من ناحية مواصلة خط الدعم غير المشروط لإسرائيل تحت الضغط المكثف من اللوبيات الصهيونية القوية والولايات المتحدة، فإنهم من ناحية أخرى أصيبوا بقلق من أن يُطلق عليهم صفة “داعمي الإبادة الجماعية” في رأيهم العام. أدت هذه المعضلة إلى مأزق كبير في السياسة الغربية: علقت العواصم الغربية بين ضغط الجماهير المدافعة عن القيم الأخلاقية والإنسانية وبين الخط المؤيد التقليدي لإسرائيل. في النهاية، كانت الاختلافات الأيديولوجية حاسمة في تشكيل ردود الفعل هذه؛ بينما بدأت الحكومات التي تقع على اليسار من الطيف السياسي والقادرة على التحرك بشكل أكثر استقلالية عن الولايات المتحدة بشكل متزايد في “النزول من قطار دعم إبادة غزة” وانتقاد إسرائيل علانية، استمرت بعض البلدان مثل ألمانيا في مواقفها القديمة مواصلة دعم إسرائيل وبالتالي العيش بعار المشاركة في الإبادة الجماعية.
خطوات الاعتراف بفلسطين
نتيجة لهذا الضغط الشعبي ورد الفعل الدولي، أعلنت بعض الدول الغربية المهمة في منتصف عام 2025 أنها ستتخذ خطوات نحو الاعتراف بدولة فلسطين. أعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في خطاب أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر 2025 أن فرنسا ستعترف رسميًا بدولة فلسطين. وجعل هذا فرنسا استثناءً داخل التيار الرئيسي في أوروبا الغربية الذي يرفض الاعتراف بفلسطين، وشكل عنصر ضغط خاصة على دول مثل ألمانيا. وعلى الفور، قام رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر بخطوة مماثلة معلنًا أن بلاده ستعترف بدولة فلسطين بحلول سبتمبر إذا لم تتوقف إسرائيل عن هجماتها على غزة. برر ستارمر قراره بالأزمة الإنسانية في غزة وبأن احتمالية حل الدولتين أصبحت أضعف من أي وقت مضى؛ مؤكدًا أن رؤية الدولتين “باتت بعيدة المنال أكثر من أي وقت مضى منذ سنوات” معلنًا أن “الوقت قد حان للتحرك”.
قدمت حكومة ستارمر أيضًا بعض الشروط الملموسة لإسرائيل حتى لا يحدث الاعتراف. وفقًا لبيان صدر بعد اجتماع مجلس الوزراء الطارئ في لندن، أعلنت المملكة المتحدة أنها قد تؤجل الاعتراف بفلسطين إذا اتخذت إسرائيل خطوات ملموسة لإنهاء الأزمة الإنسانية في غزة، ووافقت على وقف إطلاق نار دائم، واقتربت من حل الدولتين والسلام، وسمحت بإعادة دخول مساعدات الأمم المتحدة إلى غزة، ووضعت حدًا لسياسة الضم في الضفة الغربية. كما فرض ستارمر شروطًا على حماس تشمل إطلاق سراح الرهائن ونزع السلاح. أظهرت قائمة الشروط هذه أن قرار حكومة المملكة المتحدة بالاعتراف بفلسطين كان في الواقع مشروطًا بموافقة إسرائيل وتغيير سلوكها. في الواقع، انعكس خطاب ستارمر في الصحافة البريطانية على النحو التالي: “سيعترف بفلسطين في سبتمبر – ولكن قد يتراجع عن ذلك إذا استوفت إسرائيل شروطًا معينة”.
يمكن اعتبار هذه التحركات من فرنسا وبعدها بريطانيا لحظة تحول في السياسة الغربية تجاه فلسطين. وبالفعل، من الناحية الدبلوماسية، لأول مرة تظهر دولة من مجموعة السبع (فرنسا) إرادة للاعتراف بفلسطين، وكانت المملكة المتحدة أيضًا تشير إلى انحراف عن خطها الذي تحركت فيه لفترة طويلة بشكل مشترك مع الولايات المتحدة. قد تمثل هذه التطورات تغييرًا مهمًا للغربيين الذين لم يعترفوا لسنوات بفلسطين التي اعترف بها أكثر من 80٪ من دول العالم، وكرروا كلام “حل الدولتين”. في الواقع، تجنبت معظم دول أوروبا الغربية لعقود الاعتراف بدولة فلسطين، وتبنت موقفًا مشتركًا مع الولايات المتحدة؛ بينما عبرت نفس الحكومات في كل مناسبة عن دعمهم المزعوم لحل الدولتين. أصبح هذا التناقض موضوعًا للتحليلات الأكاديمية بتعليق ساخر مفاده أن “المبدأ الأساسي للغرب عندما يتعلق الأمر بإسرائيل ليس التوازن بل التناقض”. الآن، تم تقديم خطوات ماكرون وستارمر كخطوة تنهي هذا التناقض، على الأقل على الورق. ولكن إلى أي مدى تكون هذه الخطوات صادقة وتمثل تغييرات “ذات وزن”؟
طبيعة القرار
على الرغم من الترويج لإعلانات الاعتراف بفلسطين على أنها تغيير تاريخي في السياسة، إلا أن الشكوك حول توقيت ومحتوى هذه التحركات برزت على الفور. ترى قطاعات واسعة هذا كمناورة رمزية ومتأخرة قام بها القادة الغربيون تحت ضغط شعبي. في الواقع، لا يزال سياسيون مثل ستارمر وماكرون يدعمون فعليًا الحرب في غزة؛ لذلك فإن الاعتراف بفلسطين هو مجرد خطاب، ولا تزال صدقيتهم موضع شك واضح. بالفعل، واصلت حكومتا فرنسا وبريطانيا حماية إسرائيل دبلوماسيًا واستمرار الدعم الاقتصادي والعسكري خلال مجازر غزة. لذلك، يمكن النظر إلى انتقالهم إلى خطاب الاعتراف بدولة فلسطين دون معاقبة إسرائيل على الإبادة الجماعية المستمرة منذ عامين على أنه نوع من “الاعتراف بالذنب” أو محاولة لتحسين الصورة.
انتقاد آخر يتعلق بافتقار قرارات الاعتراف إلى محتوى ملموس. على سبيل المثال، لم يقدم ماكرون أو ستارمر إطارًا واضحًا للحدود والشروط التي سيعترفون بموجبها بدولة فلسطين. لا تزال الأسئلة حول ما إذا كانت دولة فلسطين المعترف بها ستقام على 10٪ من الضفة الغربية أم ستكون دولة ذات سيادة تشمل الأراضي المحتلة منذ عام 1967 في القدس الشرقية، والضفة الغربية المحتلة وقطاع غزة بالكامل، لا تزال غامضة. يعزز هذا الغموض الشكوك بأن الاعتراف سيكون مجرد إيماءة رمزية بدلاً من سيادة حقيقية. لذلك، يمكن اعتبار وعود القادة الغربيين بالاعتراف بفلسطين على أنها “ليست دولة، بل تقدم إدارة شبحية مموهة على أنها حرية”. ما يقدمه الفاعلون الغربيون، الذين يُزعم أنهم سيعترفون بها ويتشبثون بسردية أنهم يقفون بجانب “الشعب الفلسطيني” / الضمير العالمي من خلال هذا الاعتراف، هو مجرد “دولة افتراضية” خاضعة لإسرائيل على أراضٍ مجزأة، لا تملك جيشًا أو سيطرة على الحدود أو موارد أو حرية. أي أنهم يعدون الشعب الفلسطيني ليس بالسيادة، بل بإدارة بلدية مُمجدة. في هذه الحالة، يشبه خطاب الاعتراف بفلسطين محاولة لتهدئة الضمير الغربي في مواجهة التطهير العرقي الفعلي المستمر في غزة ومحاولات الضم في الضفة الغربية.
أحد أسباب الشكوك حول صدق الغرب هو أن بطاقة العقوبات لا تزال على الطاولة. تجنبت الدول الأوروبية والولايات المتحدة لعقود فرض ثمن حقيقي على الخطوات غير القانونية لإسرائيل. على سبيل المثال، بينما كانت إسرائيل لسنوات تنقل آلاف المستوطنين الجدد كل عام إلى الضفة الغربية المحتلة، مما جعل حل الدولتين مستحيلًا فعليًا، انتقدت دول الاتحاد الأوروبي هذا الأمر في الظاهر لكنها استمرت في الممارسة في التجارة ومبيعات الأسلحة مع إسرائيل. نفس الحكومات الأوروبية قالت إنها أصيبت بالرعب أمام مذبحة الأطفال الجماعية في غزة لكنهم لم يجرؤوا على تطبيق أي عقوبات من شأنها أن تردع إسرائيل عن هذه الإبادة الجماعية. الآن، بينما تتوالى إعلانات الاعتراف بفلسطين، فإن الخطوات الرادعة الحقيقية مثل حظر الأسلحة على إسرائيل، والعقوبات الاقتصادية، وإجراءات المحكمة الجنائية الدولية، ليست على جدول الأعمال. هذا الوضع يلقي بظلال من الشك على صدق الخطاب الجديد في العواصم الغربية. في الواقع، بينما لا يزال تدفق القنابل والذخائر إلى إسرائيل مستمرًا، فإن الحديث عن دولة فلسطين على الورق يبدو بحسب العديد من المراقبين نفاقًا. يعلن القادة الغربيون أنهم في مفارقة كبيرة وهم يدافعون بحماس عن “حق إسرائيل في الوجود” الذي يسلب الفلسطينيين حقهم في الحياة.
تشير نقاشات الاعتراف بفلسطين إلى اتجاه تحول مهم في السياسة الغربية. يمكن الحديث عن حراك شعبي على نطاق غير مسبوق منذ فترة طويلة، خاصة في أوروبا، وانعكاس هذا الحراك على السياسة. الأحزاب والجماهير ذات النزعة اليسارية والتي تركز على حقوق الإنسان باتت تعبر عن مواقفها المؤيدة لفلسطين بصوت أعلى. اعترفت دول مثل إسبانيا وأيرلندا والنرويج بدولة فلسطين في عام 2024؛ في دول مثل بلجيكا ولوكسمبورغ، أصبحت الأصوات داخل الائتلافات التي تطالب بفرض عقوبات على فلسطين أقوى. خاصة تصريحات رئيس الوزراء الإسباني بيدرو سانشيز، الذي اتهم إسرائيل علانية بالإبادة الجماعية منذ بداية الصراع، ورفضه دخول السفن المحملة بالأسلحة إلى إسرائيل إلى الموانئ الإسبانية، وحملته داخل الاتحاد الأوروبي لتعليق اتفاقية الشراكة مع إسرائيل، كانت خطوات شجاعة بشكل غير معتاد. في الواقع، انضمت حكومة مدريد في مايو 2024 إلى عدد قليل من الدول الغربية من خلال الاعتراف رسميًا بفلسطين مع النرويج وأيرلندا. وكذلك، ذهبت أيرلندا إلى أبعد من ذلك في موقفها التقليدي المؤيد لفلسطين، معلنة اعترافها بفلسطين ردا على الإبادة الجماعية في غزة، وانضمت إلى الدعوى المرفوعة ضد إسرائيل في محكمة العدل الدولية. من الواضح أن الضغط الشعبي الكثيف والمظاهرات في هذه البلدان أثرت على سياسات الحكومة – لدرجة أن إدارة إسرائيل أغلقت سفارتها في دبلن كرد فعل على موقف أيرلندا.
في المقابل، لا تزال بعض البلدان مثل ألمانيا وإيطاليا وهولندا واليونان ترفض الاعتراف بدولة فلسطين وتواصل سياساتها المتناقضة. ألمانيا مثال بارز بشكل خاص: حتى في السياسة الألمانية، التي تعتبر دعم إسرائيل دون قيد أو شرط ضرورة أخلاقية بسبب المسؤولية التاريخية عن الهولوكوست، بدأت تظهر شقوق. من ناحية، تستمر الحكومة اليمينية في ألمانيا في تقديم الدعم الدبلوماسي والاقتصادي والعسكري لإسرائيل وتعتبر عمليًا المشاركة في مجازر غزة سياسة دولة؛ من ناحية أخرى، يصرخ جزء مهم من المجتمع والعالم السياسي بأن لألمانيا أيضًا مسؤولية تجاه القانون الدولي وحقوق الإنسان. بينما تسبب تدخلات الشرطة الألمانية العنيفة في المظاهرات السلمية المؤيدة لفلسطين في غضب داخل البلاد، فإن إسقاط بعض طرود المساعدة رمزيًا من الجو على غزة لا يكفي لإخفاء تواطؤ ألمانيا. تسبب عدم توقيع ألمانيا على إعلان أدان إسرائيل وقعه 25 دولة غربية تحت قيادة فرنسا وبريطانيا في يوليو 2025 في انتقادات شديدة؛ والآن يضع قرار فرنسا الاعتراف بفلسطين ضغطًا مماثلاً على برلين. ورد أن جزءًا كبيرًا من الحزب الديمقراطي الاجتماعي الشريك في الائتلاف، وكذلك المعارضة، يطالبون ألمانيا بوقف مبيعات الأسلحة لإسرائيل وعدم عرقلة الخطوات الصارمة ضدها داخل الاتحاد الأوروبي.
يُظهر هذ المشهد أن خطوط الصدع السياسية في الغرب تتشكل مرة أخرى فيما يخص مشكلة إسرائيل. من ناحية، تتصاعد قوة كتلة تعطي الأولوية للدبلوماسية الأخلاقية وتربط أكثر بين الدفاع عن حقوق الشعب الفلسطيني ومبادئها في السياسة الخارجية. هذه الكتلة تضغط على الحكومات للتقدم خطوة، حتى لو كانت رمزية. ومن ناحية أخرى، تستمر مقاومة أولئك الذين يؤيدون الوضع الراهن والذين اعتادوا على دعم إسرائيل في كل الظروف.. في النهاية، يمكن قراءة تحركات الاعتراف بفلسطين من قبل قادة مثل ماكرون وستارمر كانعكاس لهذه التوازنات الجديدة. ويمكن اعتبار هذه القرارات، التي ربما لم تكن لتطرح على جدول الأعمال لولا ضغط الرأي العام، علامة على أن الضمائر في الغرب لم تُسكت أو تُقمع تمامًا.
في الختام، تمثل تصريحات فرنسا وبريطانيا (وربما بعض الدول الغربية الأخرى مثل كندا قريبًا) حول الاعتراف بفلسطين نقطة تحول رمزية مهمة في السياسة الغربية التي اتخذت موقفًا منحازًا من جانب واحد لصالح إسرائيل لفترة طويلة في التاريخ. الرد العنيف الذي أظهرته الحكومة الإسرائيلية على هذه التصريحات – على سبيل المثال، اتهام نتنياهو لماكرون “بمكافأة الإرهاب” أو وصف وزير الخارجية الإسرائيلي إسرائيل كاتس هذا القرار بأنه “فضيحة” – يكشف أن هذه الخطوات تسبب قلقًا كبيرًا في تل أبيب. في الواقع، اعتمدت استراتيجية إسرائيل لضم الأراضي التي احتلتها حتى الآن ومنع قيام دولة فلسطين تمامًا على الدعم غير المشروط من الغرب. حتى صدع صغير في جدار الدعم هذا يشكل خطرًا كبيرًا على طموحات إسرائيل التوسعية. إذا حدث صدع في جدار الصهيونية المنسوج من دعم الدول الغربية، فقد ينهار الجدار بأكمله الذي يجعل وجود إسرائيل ممكنا، ولهذا السبب فإن إسرائيل مصابة بذعر شديد. وبالتالي، فإن تصريحات الاعتراف بفلسطين لا تعني بالنسبة لإسرائيل مجرد رمزية دبلوماسية، بل تهديد استراتيجي عميق؛ لأنهم يخشون أن يصبح نظامهم القائم على الاحتلال والفصل العنصري غير مستدام إذا بدأ أساس الشرعية الدولية في التزحزح.
من ناحية أخرى، من الواضح أيضًا أن قرارات الاعتراف بفلسطين وحدها لا يمكنها حل المشكلة الإسرائيلية. لأنه لا توجد دولة فلسطينية فعلية تنتظر الاعتراف، بل أراضٍ مجزأة وشعب تحت الحصار. طالما أن إسرائيل لم تتخل عن سياسات التوسع في الضفة الغربية والقدس الشرقية، ولم توقف الحصار والعدوان على غزة، فإن احتمالية أن يجلب الاعتراف على الورق فائدة ملموسة للفلسطينيين منخفضة للغاية.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!