
ترك برس
في عالم يتجه نحو التصنيع الشامل والتكنولوجيا السريعة، لا تزال بعض الحرف التقليدية تحافظ على مكانتها كأشكال نادرة من الفن والتراث، شاهدة على هوية الشعوب وذاكرتها الثقافية.
وفي تركيا، البلد الذي يجمع بين الحضارات القديمة والحداثة المتجددة، تستمر الحرف اليدوية في لعب دور محوري في حفظ التاريخ وصناعة الجمال.
من نسج السجاد اليدوي إلى الخط العثماني، ومن فن الأبرو إلى الخزف المصقول بدقة، تشكّل هذه الحرف الخمس مزيجًا فنيًا وثقافيًا فريدًا يستحق الاستكشاف.
1. السجاد والبساط: تراث منسوج عبر الزمن
يُعد السجاد التركي أحد أعظم رموز الحرف اليدوية في العالم، واشتهر منذ قرون بجودته العالية وجمال تصميمه. يتميز السجاد التركي بكونه يدوي الصنع 100%، سواء أكان معقودًا (كليم) أو غير معقود (بُسُط).
يُستخدم في صناعته الحرير أو الصوف أو مزيج من القطن، مع أصباغ طبيعية مشتقة من جذور النباتات وقشور الفواكه مثل النيلة وقشر البصل. وتعود بدايات فن نسج البُسُط إلى أكثر من تسعة آلاف عام، حيث تم العثور على أقدم نماذج له في جطل هويوك، أقدم مستوطنة بشرية معروفة حتى اليوم، في جنوب شرق قونية.
ورثت النساء التركيات هذا الفن عبر الأجيال، ونقلنه من الأمهات إلى البنات، ليصبح ذاكرة مرئية للحياة اليومية والروحية في الأناضول.
2. فن الأبرو (Ebru): الرسم على الماء
فن الأبرو أو "الرسم على الماء" هو واحد من أكثر الحرف التركية جمالًا وتفردًا، حيث تُنشأ تصاميم ساحرة عبر رش الأصباغ الطبيعية على سطح ماء زيتي، ثم تُنقل إلى الورق في عملية دقيقة تشبه السحر.
يرجع أصل الأبرو إلى تركستان في القرن الثالث عشر، لكنّ تطوره الحقيقي تم في العهد العثماني، حيث استخدمه الخطاطون لتزيين المخطوطات والمراسيم السلطانية. لا تزال أدواته الأصلية تُستخدم حتى اليوم، مثل فرشاة شعر الحصان المرتبطة بغصن الورد، والمرارة الحيوانية كمادة مثبتة.
ورغم المظهر البسيط، يتطلب احتراف الأبرو سنوات من التدريب العملي، ويُعد الفنانون المعاصرون هذا الفن امتدادًا لهويتهم الثقافية ووسيلة للتأمل والتعبير.
3. السيراميك التركي: خزف يحكي قصة حضارة
تمت إضافة فن الخزف التقليدي التركي إلى قائمة التراث الثقافي غير المادي لليونسكو عام 2016، ويُعرف هذا الفن بتصاميمه الزهرية والهندسية التي تُطلى يدويًا على الفخار.
تبدأ عملية التصنيع بتشكيل الطين ثم تجفيفه وشيّه، يلي ذلك الرسم اليدوي الدقيق باستخدام تقنيات تعود لقرون. يُستخدم هذا الفن لتزيين المساجد، والقصور، وواجهات المباني، بالإضافة إلى الأواني المنزلية.
المدن مثل إزنيق وكوتاهيا تُعد مراكز رئيسية لهذا الفن، حيث يتعاون الحرفيون والمصممون والمتدربون في ورش تقليدية لإحياء أنماط عثمانية قديمة وتطوير تصاميم معاصرة.
4. فن الخط التركي: التوقيع على الحضارة
فن الخط ليس مجرد كتابة أنيقة، بل هو فن بصري مقدس تطوّر في الحضارة الإسلامية، وبلغ قمته في الإمبراطورية العثمانية. ومن أبرز رموزه الطغراء، وهو توقيع السلطان الذي يُطبع على المراسلات الرسمية، وعادة ما يكون محفورًا على النقود والأختام.
يجمع الخط التركي بين الطراز العربي الكلاسيكي واللمسات الزخرفية العثمانية. ويُعتبر فن التذهيب والتجليد جزءًا لا يتجزأ من هذا الفن، إذ تُزين المخطوطات بخطوط ذهبية وزخارف دقيقة.
حتى اليوم، لا يزال الخطاطون الأتراك يدرّبون الأجيال الجديدة عبر تقاليد التلمذة، ليحافظ هذا الفن على هيبته وجماله كجزء حي من التراث الإسلامي والعثماني.
5. فن المنياتور: رسومات مصغّرة بروح الأسطورة
فن المنياتور التركي أو "التطريز التصويري"، هو أسلوب فني في رسم مشاهد تاريخية أو أدبية أو دينية بتفاصيل دقيقة على الورق أو العاج. غالبًا ما تُستخدم هذه الرسوم لتزيين المخطوطات القديمة.
كانت المنياتورات تُرسم داخل القصور العثمانية، حيث كان يُطلق على الفنان اسم النقاش أو المصور. وتُنفذ الأعمال باستخدام أكاسيد معدنية مثل أكسيد الرصاص (مينيموم) لإنتاج ألوان خاصة.
اليوم، يُحيي بعض الفنانين هذا الفن في ورش عمل ومراكز ثقافية، باعتباره أحد أرقى أشكال الحرف الفنية الإسلامية، بما يمثله من دقة رمزية وسرد بصري فريد.
كنوز تركيا التي لا تُقدّر بثمن
تركيا ليست فقط بلد الآثار والأسواق والمأكولات، بل هي أيضًا متحف حي للفنون اليدوية النادرة. تعكس هذه الحرف الخمس الغنى الحضاري والتنوع الثقافي والتقاليد العريقة التي لا تزال حية في أيدي الحرفيين الأتراك.
في زمن تتسارع فيه الآلات وتُنسى المهارات، تظل هذه الفنون جسورًا حقيقية بين الماضي والحاضر، بين التراث والهوية، بين الفن والروح.
المصدر: موقع Go Türkiye الترويجي التركي الرسمي
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!