ترك برس

تناول مقال للكاتبة والباحثة المصرية صالحة علام، التحولات السياسية المرتقبة في تركيا في ضوء زيارة بولنت أرنچ، المستشار السابق للرئيس رجب طيب أردوغان، لكل من السياسي الكردي صلاح الدين دميرتاش ورجل الأعمال عثمان كافالا، بعد رفض المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان استئناف تركيا بشأن الإفراج عن دميرتاش.

ويركز المقال على دور دميرتاش المتوقع في دعم عملية السلام بين الدولة والمكون الكردي، ومساعي الحكومة التركية لإرساء المصالحة الوطنية وطي صفحة الماضي، مع إبراز الانقسامات الداخلية بين الأحزاب حول مسألة الإفراج عن قادة المعارضة الكردية، والتوازن بين تحقيق السلام الداخلي والحفاظ على المكاسب السياسية للحزب الحاكم.

وفيما يلي نص المقال الذي نشره موقع الجزيرة مباشر:

زيارة بولنت أرنش المستشار السابق للرئيس أردوغان لكل من السياسي الكردي صلاح الدين دميرتاش، ورجل الأعمال عثمان كافالا في محبسهما الأسبوع الماضي، عقب صدور قرار محكمة حقوق الإنسان الأوروبية برفض الطعن المقدم من تركيا، حول قرار إلزامها بالإفراج عن دميرتاش، فتح الباب أمام كثير من التكهنات حول التطورات المنتظر حدوثها على الساحة السياسية التركية.

والدور المنتظر أن يؤديه كل منهما -خاصة دميرتاش- في ملف عملية السلام التي تخوضها تركيا حاليًّا مع المكون الكردي لديها، تحت عنوان «تركيا خالية من الإرهاب»، وهو التحرك الذي يحمل في طياته تحولًا كبيرًا في تعاطي القيادة السياسية التركية مع من اختلفت معهم سابقًا، من سياسيين وناشطين وحقوقيين، ويؤشر لرغبتها في طي صفحة الماضي، وبدء مرحلة جديدة ترتكز على مبدأ التعاون والتكامل بين مكونات المجتمع التركي جميعها دون إقصاء لأحد أو تجاهل فصيل إرضاء لفصيل آخر.

رسائل مهمة من جانب النخبة السياسية الحاكمة في تركيا، يدل عليها استدعاء بولنت أرنچ للمشهد السياسي التركي مجددًا، واختياره تحديدًا لهذه المهمة، لكونه الشخص الذي دفع من قبل ثمنًا باهظًا من جراء مطالبته الدولة بالإفراج عن الرجلين، مما عرضه لهجوم عنيف من جانب الرئيس أردوغان، وقيادات داخل حزب العدالة والتنمية الحاكم، دفعه إلى تقديم استقالته من منصبه بصفته مستشارًا للرئيس، وترجيحه البقاء في الظل، والانسحاب من الحياة السياسية.

وتؤكدها التصريحات التي صدرت عن دولت بهشلي رئيس حزب الحركة القومية وشريك أردوغان في الحكم، التي رجح فيها الإفراج عن دميرتاش عبر الطرق القانونية، مؤكدًا أن الإفراج عن الزعيم الكردي سيكون مفيدًا لتركيا، وهو نفس ما ذهب إليه الرئيس أردوغان حينما أعلن أن «تركيا دولة قانون، وأن ما سيصدر عن القانون سيُنفذ دون تباطؤ».

تصريحات بهچلي التي جاءت في أعقاب إسدال الستار على واحدة من أطول المعارك القانونية التي خاضتها تركيا ضد رموز المعارضة الكردية منذ 2018، بالقرار النهائي الصادر عن المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، الذي رفضت فيه استئناف الحكومة التركية لحكم سابق عليها بسرعة الإفراج عن دميرتاش، المسجون منذ نوفمبر/تشرين الثاني 2016. وأوضحت في حيثيات حكمها أن حبسه لم يكن يستند إلى أسباب قانونية حقيقية، بل لدوافع سياسية.

لتتحول قضية دميرتاش من مجرد نزاع قضائي بين الحكومة التركية والمعارضة الكردية أمام المحكمة الأوروبية، إلى جزء مهم في مشهد التحولات السياسية التي تمر بها الساحة التركية، وتعتمد فيها الدولة مبدأ المصالحة الوطنية وإعادة اللُّحمة إلى الشارع التركي بعيدًا عن التعصب الأيديولوجي أو الانصياع للتهديد بفرض عقوبات أوروبية.

وفي هذا الإطار من الواضح أن تركيا الرسمية ارتأت أن وجود دميرتاش خارج المعتقل سيكون أكثر فائدة لها من استمرار اعتقاله، في ظل حالة الغموض الذي أصبح يغلف عملية السلام التي تقودها منذ أكثر من عام، نتيجة استمرار مراوحة الموقف الرسمي مكانه، وإصرار الأكراد على ضرورة تحقيق بعض المكاسب، التي تتعلق بتحديد مصير زعيمهم عبد الله أوجلان.

وكذلك إصرارها على اتخاذ الحكومة خطوات عملية لإقرار التعديلات الدستورية القانونية اللازمة لتحديد موقف قادة حزب العمال الكردستاني ومقاتليه من العودة والاندماج داخل المجتمع، في مقابل ما أقدم الحزب على اتخاذه من خطوات أظهر خلالها حسن نياته، ورغبته في طي صفحة الماضي، وبدء صفحة جديدة مع الدولة، مثل تسليم جزء من أسلحته الخفيفة، وانسحاب بعض مقاتليه وقياداتهم من داخل الأراضي التركية إلى كردستان العراق.

وهي المطالب التي أفرزت نوعًا من الانقسام في مواقف الأحزاب التركية؛ إذ يرى بعضها أن أية محاولة تفضي إلى الإفراج عن أوجلان، ومنح مقاتلي حزب العمال الكردستاني عفوًا يتيح لهم الحق في الاندماج بالمجتمع وممارسة العمل السياسي، هو خيانة عظمى للأمة التركية التي قدمت آلاف الشهداء نتيجة العمليات العسكرية التي نفذتها هذه العناصر ضد الجيش والمدنيين العزل.

وترى أحزاب أخرى ضرورة إجراء فرز دقيق لمنتسبي العمال الكردستاني، ومنح من لم تتلطخ يداه منهم بدماء الشعب والجيش فرصة جديدة للعودة إلى الحياة المدنية، مع نفي المذنبين منهم إلى خارج البلاد، ويذهب بعض آخر إلى الحديث عن المصالحة واعتماد مبدأ “عفا الله عما سلف”، ويؤكد الأهمية التي ينطوي عليها طي صفحة الماضي.

هذا التباين في المواقف يضع الحكومة في موقف صعب، ويقيد يديها، فهي من ناحية تريد إتمام عملية السلام وجعل تركيا خالية من الإرهاب، ومن ناحية أخرى تخشى أن تدفع وحدها ثمنًا باهظًا إذا ما اندفعت باتجاه تحقيق هدفها، وتجاهلت التعامل مع هذه المواقف ووجهات النظر المتباينة للأحزاب، التي يمكن أن تستغل الأمر لمصلحتها، وتصعد على أكتافها لتحصد الثمار وحدها دون أن تضطر إلى التنازل عن شيء.

هنا تبدو صفقة الإفراج عن دميرتاش مربحة للحزب الحاكم إلى أبعد الحدود، حيث يحظى بحضور قوي ومكانة متميزة لدى الأكراد، كما يتمتع بشعبية لا يمكن إغفالها أو التغاضي عنها بين شريحة واسعة من الأتراك. لذا فإن الإفراج عنه يلبي جزءًا من مطالب الأكراد، ويظهر حسن نية الدولة اتجاههم، وإصرارها على المضي قدمًا في عملية السلام وصولًا إلى هدفها.

وفي نفس الوقت فإن تكليفه بصفته سياسيًّا متمرسًا بمهمة التقريب بين مختلف وجهات النظر المتباينة سواء بين الأكراد والأتراك، أو بين الأكراد أنفسهم، يعد أمرًا إيجابيًّا من شأنه خدمة المصلحة العليا للدولة كما قال كل من أردوغان وبهچلي. ويؤيد ذلك أن استطلاعًا للرأي أعدته مؤسسة «راويست للأبحاث» أظهر أن ثلثي الأكراد ينتظرون إطلاق سراح دميرتاش، ويؤمنون بقدرته على المساهمة في تحريك الركود الذي تمر به عملية السلام، خاصة أنه كان من أوائل القيادات الكردية الداعمة لدعوة أوجلان، وساند بقوة مسألة حل العمال الكردستاني وإلقاء مقاتليه السلاح.

من هذا المنطلق تبرز أهمية الدور الإيجابي الذي يمكن أن يؤديه دميرتاش في تحريك الماء الراكد الذي سقطت فيه عملية السلام، ودعمها للخروج من هذه المرحلة السلبية، ودفعها إلى الأمام، وهو الدور الذي لا يقل أهمية عن دور أوجلان، صاحب الفضل في إقناع العمال الكردستاني بإلقاء السلاح، وحل نفسه، وإعلان انتهاء مرحلة الكفاح المسلح، والبدء في مرحلة النضال السياسي.

ومع هذه المرحلة ينتهي دور أوجلان العسكري، ويبدأ دور دميرتاش بوصفه رجل سياسة من الطراز الأول، وقائدا لديه القدرة على حشد الجماهير، والتعاطي بإيجابية مع مطالبهم وطموحاتهم، والقدرة على التفاوض مع الدولة باسمهم. لذا فإن مسألة الإفراج عنه تبدو مسألة وقت ليس إلا، خاصة إذا ما أرادت تركيا استكمال المسيرة، وإطلاق المرحلة الثانية من عمليتها للسلام.

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!