محمد زاهد جول - أخبار تركيا

تفرض الأوضاع السياسية القائمة العديد من الأسئلة حول السياسة التركية، التي وصفها الرئيس التركي أردوغان بأنها قد تغيرت. ولذلك فإن أهم الأسئلة هي عن أسباب تغيير سياسة تركيا في المنطقة، وفي مقدمتها أسباب تغير سياستها نحو محاربة تنظيم الدولة «داعش»، وهل هذا التغيير يشمل تغيير الموقف من النظام السوري وبشار الأسد؟ وبما إن أمريكا قد عبرت عن ترحيبها وسعادتها بمشاركة الطيران التركي قوات التحالف الدولي في العمليات العسكرية في محاربة الارهاب وتنظيم الدولة، فإن التساؤل المهم هو معرفة الثمن الذي قبضته تركيا من أمريكا، حتى وافقت على المشاركة في العمليات العسكرية بعد امتناع دام سنة تقريباً.

وهل هناك حسابات تركية جديدة وخاصة؟ أم أن الهدف الأكبر لتركيا هو تحجيم نفوذ حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي (PYD) في المنطقة، بعد أن وثق هذا الحزب وقواته العسكرية وحدات حماية الشعب علاقاتهم السياسية والعسكرية مع أمريكا في شمال سوريا؟ وبعد أن استطاع حزب (PYD) السيطرة على تل أبيض وقيامه بعمليات تطهير عرقي للسوريين العرب والتركمان السنة منها ومن القرى العربية فيها، تحت حماية طيران القوات الأمريكية، وبدعم عسكري من فيلق القدس الإيراني وجيش الأسد، مما أثار حفيظة الدولة التركية وجعلها تصطدم مع السياسة الأمريكية، وإلزامها بضرورة وضع حد للتفرد الأمريكي والأحزاب الكردية المرتبطة بايران في تخريب شمال سوريا، وهي تدعي محاربة تنظيم الدولة بحجة الارهاب، وهي تدعم حزب (PYD) وحزب العمال الكردستاني وهما أشد إرهاباً من تنظيم الدولة وغيره. 

ويتساءل البعض إن كان لنتائج الانتخابات البرلمانية الأخيرة التي جرت في السابع من حزيران/يونيو الماضي من أثر على هذه التطورات السياسية والعسكرية، إذ ان حزب العدالة والتنمية الذي لا يزال يحكم تركيا من خلال حكومة تصريف أعمال لحين تشكيل حكومة ائتلافية منتظرة، وبالتالي قد يكون من مصلحة حزب العدالة والتنمية ــ بحسب زعمهم ـــ وهو غير راض عن نتائج الانتخابات البرلمانية الماضية ان يوجه أنظار الشعب التركي إلى المخاطر الأمنية والإرهابية التي تحدق به، فإذا فشلت جهود تشكيل حكومة ائتلافية وتمت الدعوة إلى الانتخابات المبكرة، فإن الشعب التركي سوف يقاطع التصويت للأحزاب الكردية، وسوف يوجه أصواته إلى حزب العدالة والتنمية الذي يقف مدافعاً عن الشعب التركي أمام الإرهاب المقبل من التنظيمات المنغلقة والمتشددة وغير الديمقراطية، مثل تنظيم الدولة وحزب العمال الكردستاني واتباعهما الإرهابيين داخل تركيا.

ولعل السؤال الأهم أيضاً هو مدة هذه العمليات العسكرية التركية، هل هي مؤقتة ولمرحلة قصيرة؟ أم انها ترتبط باتفاقية عسكرية وأمنية وسياسية مع الولايات المتحدة الأمريكية والبنتاغون لترتيب أوضاع سوريا كلها، أو الجزء الشمالي منها فقط، وهو الجزء الذي يهم الدولة التركية أكثر من غيره اليوم قبل الغد، لما حصل فيه من تطورات حربية بين تنظيم الدولة وحزب الاتحاد الديمقراطي وقوات حماية الشعب في عين العرب (كوباني) وتل أبيض وغيرها؟ وبالأخص بعد ان استغل (PYD) انتصاراته على تنظيم الدولة في إقامة حكم ذاتي كردي، قد يتطور إلى دولة كردية منفصلة عن سوريا في حالة تقسيم سوريا في المرحلة المقبلة وفق الرؤية الأمريكية والإيرانية والروسية.

لا شك أن كل هذه التطورات وكل الأسباب السابقة لها دور في تغيير الموقف التركي من الأحداث في جنوب تركيا وشمال سوريا وفي المنطقة. وبالعودة إلى الشروط التركية التي وضعتها للمشاركة في الطلعات الجوية والعمليات العسكرية ضد تنظم الدولة قبل سنة تقريباً، كانت وضعت خطة تعالج جذور المشاكل الأساسية في سوريا والعراق، لأن التطورات والحروب الطائفية والإرهابية التي نشأت فيها كانت في الدرجة الأولى من صنع الأنظمة السياسية الحاكمة في تلك الدول، وبسبب التورط الإيراني وأطماعه في سوريا والعراق ولبنان واليمن وغيرها، فهذه السياسات الإيرانية إن لم تكن صنعت تنظيم الدولة مباشرة فقد صنعته بطريقة عكسية، وبالأخص لتكون أداة بيد هذه الأنظمة الاستبدادية تستطيع من خلال التعاون معه أو محاربته تخريب عمل المعارضة الوطنية السياسية والسلمية، سواء في سوريا أو في العراق، ولكنها في سوريا بشكل أكبر وأخطر.

لقد رأت الحكومة التركية ان تنظيم الدولة سوف يغير مجريات الثورة السورية ويحرفها عن مسارها الصحيح، وأنه سوف يسيء إلى الثورة السورية، لأن تنظيم الدولة سوف يعطي صورة إرهابية عن الإسلاميين أولاً، وسوف يقاتل كتائب الثورة السورية التي تدافع عن الشعب السوري وتقاتل نظام الأسد ثانياً، وبالتالي فإن كتائب الثورة سوف تدخل في حروب فرعية ومؤلمة مع تنظيم الدولة، وسيكون دور الأسد هو توفير أراض وامدادات عسكرية لتنظيم الدولة لمقاتلة الجيش السوري الحر، وقد تمادى تنظيم الدولة في ذلك فأخذ مناطق نفوذ لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي، كان بشار الأسد قد انسحب منها في نهاية عام 2011 وسلمها لقوات (PYD) وقوات حماية الشعب الكردي، التي تولى فيلق القدس الإيراني دعمها بالسلاح والرجال والأموال ـ إن لم يكن لمقاتلة الثورة السورية، فعلى الأقل حتى تعرقل مساعي إسقاط النظام السوري.

فلما وقعت المعارك بين تنظيم الدولة وقوات حماية الشعب الكردي في عين العرب كوباني وتل أبيض وغيرها، وتمكنت قوات (PYD) والبيجي من أخذ مناطق جغرافية واسعة من تنظيم الدولة، أصبح هذا التطور يمثل تهديدا للأمن القومي التركي، لأن إقامة دولة كردية في شمال سوريا أخطر من تنظيم الدولة بوصفه حركة عابرة وزائلة لا محالة في النظرة التركية. وقد رفضت الرئاسة والحكومة التركية هذه التطورات واعتبرتها مساسا بأمنها، وطالبت أمريكا بوقف دعمها للــ(PYD) وقوات حماية الشعب التي انتصرت على تنظبم الدولة بمساعدات عسكرية أمريكية. استخدمت أمريكا طيرانها العسكري لدعم تقدم حزب (PYD) والبيجي في الانتصار على تنظبم الـدولة، فكان ذلك تطورا فرض على الحكومة التركية ان تفتح باب التفاوض مع أمريكا على أمن شمال سوريا وترتيباته السياسية والعسكرية من جديد.

وهكذا التقت المصالح التركية مع المطالب الأمريكية، والتي كانت ترى تركيا أن من لوازم تعاونها مع التحالف الدولي فرض منطقة آمنة شمال سوريا لحماية الشعب السوري من طائرات الأسد وبراميله المتفجرة وأسلحته الكيميائية، وكذلك لحماية هذه الحدود من قبل الطرف التركي من منع متسللين أجانب إلى داخل سوريا عبر الأراضي التركية. وأخيراً منع حزب (PYD) وقوات حماية الشعب الكردي من إقامة كيان كردي على طول الشريط الحدودي جنوب تركيا على الأراضي السورية. فوافقت أمريكا على أن يكون جزء من الأراضي السورية منطقة آمنة وفق الرؤية التركية، يبلغ طوله نحو 90 كلم من الشمال السوري من جرابلس إلى عفرين، تكون هذه المنطقة الجغرافية تحت الحماية التركية والأمريكية والدولية، بحيث يمنع فيها تحليق الطيران التابع لبشار الأسد ومحوره الطائفي، وتتولى أمريكا وقوات التحالف وتركيا حمايته في الحظر الجوي، وتقوم فصائل الجيش السوري الحر وكتائب المعارضة السورية بالسيطرة عليه ميدانياً، فلا تدخله قوات تنظيم الدولة ولا قوات حزب الاتحاد الديمقراطي ولا قوات حماية الشعب التابعة له.

وبذلك تمكنت السياسة التركية من منع إقامة كيان كردي شمال سوريا يمتد على كامل الأراضي السورية المحاذية للحدود التركية الجنوبية، وكذلك وفرت منطقة آمنة ـــ ولو كانت غير كاملة ـــ للشعب السوري ، لتكون نواة عمله الإنساني والاجتماعي والاقتصادي والسياسي، لمساعدة اللاجئين السوريين داخل سوريا اولاً، والراغبين بالعودة إلى سوريا من تركيا وغيرها ثانياً. وكذلك تمكنت السياسة التركية من وقف دعم أمريكا أو غيرها للأحزاب الإرهابية الكردية، وفي مقدمتها حزب العمال الكردستاني، الذي يقود بسياساته المتهورة حزب الاتحاد الديمقراطي وقواته العسكرية من الناحية السياسية بينما يقوم حزب (PYD) بتنفيذ السياسة الإيرانية مقابل الدعم العسكري والمالي.

في مقابل ذلك سمحت تركيا للطائرات الأمريكية استعمال قاعدة انجيرليك الجوية جنوب تركيا، وهذا سوف يوفر لأمريكا قدرات عسكرية أفضل لمواجهة تنظيم الدولة في سوريا والعراق، ولكن هذا الاستخدام سوف يكون بالتنسيق مع الجيش التركي أولاً، وسوف يتعاون مع الجيش التركي في تنفيذ المنطقة الآمنة شمال سوريا، والتي ترى السياسة التركية بانها ستكون نقطة أساسية في منع التهديدات الآتية من هذه الحدود مهما كان مصدرها. ولذلك فإن تغير السياسة التركية اعتمد على تحقيق أهداف تركيا الأمنية أولاً، ووفر لها إمكانيات وقدرات عسكرية وجغرافية أفضل في تحقيق أهدافها في المعالجة الجذرية للأوضاع المتأزمة في سوريا ثانياً.

فتركيا لم ولن تتدخل عسكريا في سوريا لأسباب تخص الثورة السورية فقط، لأن ذلك مناط بالشعب السوري وبالمجتمع الدولي والأمم المتحدة، ولكن أي تدخل عسكري تركي على الأراضي السورية وإن استطاعت المعارضة السورية الاستفادة منه، ولكنه سيكون بالدرجة الأولى عملاً عسكريا دفاعياً عن الأمن القومي التركي، في كافة مجالاته، ومن أهمها وأخطرها إقامة كيانات معادية لتركيا على حدودها الجنوبية، أو في ملاحقة مجرمين وإرهابيين قد يقومون بأعمال عدوانية إرهابية في تركيا ثم يهربون إلى الأراضي السورية، كما حصل في العمليات الأخيرة التي تبناها حزب العمال الكردستاني، وقد قتلت ثلاثة من الجنود الأتراك على الأراضي التركية. فتركيا مضطرة سوف تقاتل قوات تنظيم الدولة بعد ان اعتدى على تركيا وفي أراضيها أكثر من أربع مرات، كان منها تفجير سوروج والذي أعلن تنظيم الدولة مسؤوليته عنه، وقد أودى بحياة ثلاثين تركيا وجرح مئات المواطنين. فهذه الأعمال الإرهابية التي يعتدي فيها تنظيم الدولة على الأمن التركي سوف تجد عليه رداً قاسياً داخل تركيا وفي سوريا أيضاً.

عن الكاتب

محمد زاهد جول

كاتب وباحث تركي مهتم بالسياسة التركية والعربية والحركات الإسلامية


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس