محمد إلهامي - تركيا بوست

يعرف المصريون جيدا، خصوصا من كان متابعا منهم لميدان رابعة، أغنية “الفارس ينزل للميدان”، وهي –برأيي- أغنية رديئة، لحنها راقص لا يناسب المحنة ولا الاعتصام الملحمي في رابعة، ومعناها –برأيي أيضا- مبتذل، فهي تنادي على من يريد أن يحكم الشعب أن يعرض نفسه عليه ويقنعه بنفسه وينتظر أن يرى اختياره، فعلى من ظن في نفسه الفروسية أن ينزل إلى ميدان المنافسة الشريفة ليحكم عليه الشعب.

لكن الأزمة هي أن الأمور لا تجري على هذا النحو.. بل تجري على نحو آخر.

1) اختلفتُ مع صديق كريم أيهما أسوأ: عبد الناصر أم أتاتورك؟ واندهش لما عرف أني أرى عبد الناصر أسوأ، فبغير انتقاص من أتاتورك إلا أنه ترك دولة لها نظام، أبسط القواعد فيها أن الانتخابات لا تُزوَّر. ولهذا تأتي الانتخابات بأطياف السياسة المختلفين، صحيح أن العسكر يقفون عند نهاية الطريق ينقلبون على من يرون أنه يُهدّد العلمانية إلا أن الطريق نفسه مفتوح يمكن سلوكه حتى تلك النهاية.

بينما عبد الناصر أسّس دولة العسكر، الدولة التي تطارد أهل الدين من قواعدهم الأولى: المساجد! دولة تعمل بسياسة “تجفيف المنابع”، دولة لا تعرف معنى الانتخابات، وإنما مراسم شكلية جوفاء تنتهي بنسبة 99.99%، وإني لأتذكّر أن صحفيا أجنبيا انزعج لهذه النسبة وقال: يا إلهي، من ذلك الذي استطاع أن يقول لعبد الناصر “لا”؟!.. إنه حكم العصابة بالمعنى المباشر والحقيقي لكلمة العصابة.

ولهذا كان للإسلاميين في تركيا تجربة وممارسة سياسية حقيقية طوال هذه المراحل، في انتخابات البلديات وبعض البرلمانات، حتى رئاسة الحكومة.. فتكوّنت لديهم خبرة حقيقية بأحوال البلاد والعباد. بينما الإسلاميون في مصر لم يكونوا يحلمون بالسلطة أصلا، وكان غاية آمالهم الوجود الآمن في مقاعد المعارضة، ولما رفعت ثورة يناير سقف أحلام الجميع لم يرتفع سقف أحلام الكتلة الإسلامية، بل ظلوا يبحثون عن الرئيس التوافقي ولا يريدون أن يتصدّروا خشية الفشل والإفشال، ثم لما تبيّن لهم مع الأحداث –ترشّح عمر سليمان وشفيق- أنهم يختارون على الحقيقة بين القصر والقبر، اختاروا القصر مضطرين! (وفكَّ الله الرجل البطل الذي مهّد الطريق لهذا الحلم: حازم صلاح أبو إسماعيل).

2) وبرغم هذا، فإن الطريق في تركيا –ذات النظام- لم يكن سهلا هيّنا، ولقد أحسن مؤلفا كتاب “قصة زعيم” أن افتتحا كتابهما بهذه الواقعة التي فيها سر السياسة وجوهرها وصلبها، أسوقها هنا مختصرة:

اتصال هاتفي يصل لشعبة حزب الرفاه في اسطنبول يقول: سينقطع خط الهاتف والتيار الكهربائي لساعتين عن مقر حزبكم، وسأتصل مرة أخرى.

لم يفهم أحد ما هذا، وفعلا انقطعت الكهرباء وخط الهاتف لساعتين، وعندما حل المساء اتصل ذات الشخص وقال:

– اتصلت صباحا بالشعبة وأخبرتكم بانقطاع الكهرباء وخط الهاتف لمبنى الشعبة، وها قد رأيتم أن ما قلته قد حدث.

– نعم رأينا، فمن أنتم وما شأنكم بنا؟

– أنا أحذّركم.. على مرشّحكم أن يسحب ترشيحه فورا، ويعلن ذلك في مؤتمر صحفي، وإلا سيكون تحذيرنا القادم دمويا! وأغلق الهاتف.

كان المرشح المقصود هو أردوغان، مرشح حزب الرفاه الذي يتزعّمه أربكان، وكانت الانتخابات على الأبواب، انتخابات بلدية اسطنبول عام 1994م، ولم تكن فرصته في الفوز قوية في تلك الانتخابات.

بعد المكالمة سيطر على المكان صمت عميق وخوف أعمق. لكن أحدا لم يفكر بجدية في سحب ترشح أردوغان من الانتخابات.

ما كاد الليل يرخي سدوله على اسطنبول حتى وقع تفجير في المقر الانتخابي لحزب الرفاه في “صامانديرا”، قُتِل فيه عضو بالحزب وأصيب آخرون، وهرع فريق من الشعبة إلى المستشفى لزيارة المصابين، وهناك في المستشفى جاء اتصال هاتفي من ذات الشخص، يقول:

– لم تأخذوا تحذيراتي على مأخذ الجد! قلت لكم: إن الدماء ستُراق فلم تهتموا. هذا هو التحذير الأخير لكم! لديكم الليلة عمل آخر، سيلقي مرشحكم خطابا الليلة، فقولوا له أن يتراجع ويسحب أوراقه، وإلا سيُقتل في أثناء خطابه.

وأغلق الهاتف.

نظر الجميع إلى المرشح المقصود، أردوغان، الذي ظهر ثابتا قويا، وقال لمن حوله: ليذهب كل منا إلى عمله.. سنواصل أعمالنا!

عند موعد الخطاب، الذي سيُلقيه المرشّح من فوق حافلة صغيرة، كان أعضاء الحزب يحيطون به، وبينهم بعض المسلحين، وقد عمَّهم جميعا القلق والتوتر حتى لو أن طفلا ألقى مفرقعة عن غير قصد لاندلعت معركة حربية لا يُعلم منتهاها.

انتهى الخطاب دون مشكلات، تنفس الجميع الصعداء، وركبوا سياراتهم في الطريق إلى منازلهم، وفي السيارة جاءهم الهاتف المشؤوم يقول:

– الليلة لم تنته بعد، أمامكم طريق طويلة حتى تصلوا إلى البيت، ونحن خلفكم.

وهنا تجدّد الخوف والتوتر مرة أخرى، لا سيما وأن الطريق إلى البيت يمر على غابات ذات اليمين والشمال، وتلك الغابات تمثل موقعا ممتازا لعملية اغتيال. ولم يفكّر أحد في إبلاغ الشرطة لأن لديهم يقينا كافيا أنه لا أحد في هذه الدولة يمكنه إيقاف قوم مثل هؤلاء، في بلد سقط كثير من السياسيين فيه برصاص اغتيال وهم في مواقع السلطة، فكيف بمرشح لحزب لم ينل من موقع السلطة شيئا؟!

ظل أردوغان ثابتا، صاح فيهم “الخوف لا يزيد من الأجل شيئا، سنتجّه إلى البيوت مباشرة الآن”، وكعادة البشر، يستمدون المشاعر من قيادتهم، إن ثبتت ثبتوا واطمأنوا، وإن كانت الأخرى جفلوا وترددوا.

أجْرَوا تغييرات سريعة في ترتيب السيارات ومكان المرشح المستهدف، وانطلقوا إلى البيوت، وبطبيعة الحال بدت الطريق طويلة مرعبة محفوفة بالمخاطر، لكنهم بعد رحلة الخوف هذه وصلوا إلى البيوت.

وما إن ارتمى كل منهم على مقعده حتى جاء الهاتف نفسه يقول:

– مرشحكم أثبت أنه رجل. إنه جدير بالترشح!

ولم يصدق القوم أنفسهم، لم يصدقوا أنه كان مجرد اختبار، اختبار دموي سقط فيه قتيل وعدد من الجرحى!!

يقول المؤلِفان بأن رجال الحملة قرأوا من هذا الهاتف رسالة مفادها “يمكنك أن تصبح رئيسا لاسطنبول، بل ويمكنك أن تصبح رئيسا للوزراء، ولكن عليك أن تلعب اللعبة وفق قواعدنا، وألا تنسى من هو الرئيس، وعليك ألا تفسد لعبة التوازن السياسي التي نديرها”[1].

وأقول: بأن الرسالة الأصلية والأولى كانت تقول: مرحبا بك في عالم السياسة!.

3) هكذا اختبارات السياسة.. اختبارات دموية!

وعلى الفارس الذي يريد النزول إلى ميدان السياسة أن يكون مستعدا لاجتياز هذا النوع من الاختبارات!

وتذكّر دائما، أن هذا وقع في البلد التي استقر فيها النظام على عملية انتخابية نزيهة في جوهرها وأساليبها، وتجري كل محاولات التلاعب في نتيجتها عند الهوامش والتفاصيل. لا في بلد كبلادنا العربية ليس فيها انتخابات من الأساس!

إن واحدة من أعقد أزماتنا الإسلامية والثورية أن قيادات الحركة الإسلامية لا تملك نفسية المقاتل بحال، بل يتهددها تصريح ينطلق من هنا أو هناك، أو اتصال هاتفي يأتيها من هنا أو هناك، أو لقاء مع مسؤول غربي يأتيها أو يستدعيها إليه. وإني لأعتقد جازما أن العسكر أو آشتون أو غيرهما لو أظهر أنيابه للإسلاميين قبل احتشاد الناس في اعتصام رابعة لكان القرار المُتَّخذ هو تخلي مرسي عن منصبه وطي هذه الصفحة والعودة للتربية والتفاوض حول ضمانات عدم الذبح بعد مرحلة مرسي، أما وقد ظهرت الأنياب بعد احتشاد الناس في رابعة فلم يكن يملك أحد أن يصرف الناس أو يظهر بمظهر الخائن المتنازل، فبالناس والجنود فقط حُفِظ حق الثورة والشرعية لا بالقيادات، وبالقيادات وحدها ضاعت ثورة تونس وثورة اليمن، وحين لم توجد قيادات على هذه الشاكلة حققت الثورات بعض النجاحات كما في سوريا وليبيا.

إن ميدان السياسة هو على الحقيقة ميدان قتال، فيا ضيعة من دخله وهو يحمل غصن الزيتون وكتاب القانون، فلئن كان خائنا فمصيره كمصير حركة فتح وياسر عرفات: خيانة الأوطان مقابل المكاسب الشخصية، ولئن كان مغفلا فمصيره كمصير الإخوان المسلمين في مصر وتونس واليمن والعراق والأردن والجزائر والمغرب: ضياع الأوطان وضياع الأرواح ولا مكاسب من أي نوع، إن لم توظّفهم الأنظمة في معاركها قتلتهم، أو ربما وظفتهم ثم قتلتهم!!


[1] حسين بسلي وعمر أوزباي: رجب طيب أردوغان.. قصة زعيم ص17 – 26.

عن الكاتب

محمد إلهامي

باحث في التاريخ والحضارة الإسلامية


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس