محمد إلهامي - تركيا بوست

من كان عربيا ولبث في تركيا شيئا من الزمن عرف إلى أي مدى كان ترك الدولة العثمانية للسان العربي خطأ تاريخيا فادحا، وقد ترتبت عليه آثار بعيدة لا يمكن تلافيها في المدى القريب ولا المتوسط، بل لعل من الآثار ما لا يمكن تلافيه بأي حال!

إن للأتراك عاطفة حارة، مع صلابة وبأس واستمساك شديد، وتكاد الحسرة تأكل القلوب حين تجد حاجز اللغة الرهيب هذا يفصل بينهم وبين العرب، فقليل من الترك من يفهمون العربية وأقل منهم من العرب من يفهم التركية، وهكذا يعيش الشعبان في فهم بعضهما والتعامل على الترجمات والمترجمين، وهو أمر يشبه حاجزا ضخما بين بحرين كبيرين لكنها لا يلتقيان إلا عبر قنوات معدودة وضيقة، فاجتماع القوتين ممتنع!

وحاجز اللغة هذا ليس مجرد حاجز تواصل، بل هو على الحقيقة حاجز حضاري ضخم يمنع كلا الشعبين من الاستفادة من أفكار الآخر وعلومه والاطلاع على تجديداته وآثاره في سائر ميادين الحياة.. ولقد كانت القسمة العربية التركية ركنا ركينا في سقوط الدولة العثمانية.

وقد أثار هذا الأمر انتباه العديد من المصلحين منذ لاحت في الآفاق ضعف الخلافة العثمانية وبوادر انهيارها، فلقد سجل جمال الدين الأفغاني في خاطراته كيف دخل عليه ذات يوم أديب تركي وهو يحمل كتابا فيه مذكرات ضياء باشا يقول فيها:

“توغلنا في الفتوحات حتى توسطنا كبد أوروبا ودخلنا فيينا واضطررنا للتخلي عنها وليس لنا ثمة أدنى أثر أدبي أو مادي، وهكذا بالاستدلال سيكون حالنا في بقية تركية أوروبا مثل بلغاريا والفلاخ والبغدان والصرب والجبل الأسود وغيره من البلدان… أما العرب ففي كل ما فتحوه من البلاد، حربا كان أم صلحا، قد تركوا من الآثار الأدبية والمادية، ما لا يقوى على ملاشاته الأدهار… والأغرب أن التركي والجركسي والأرناؤوطي وغيرهم من العناصر يستعرب متى وجد أو سكن في بلاد العرب بأقرب الأوقات، ويمتزج في المجموع حتى تخال أنه عربي قح، وأما في حكمنا فلم نستطع أن نستترك أدنى فئة ممن حكمناهم من الأمم بكمال العدل الإسلامي والسماح التركي ولين الجانب”

فعَلَّق جمال الدين الأفغاني على هذه الظاهرة بقوله: “إن المرحوم ضياء باشا أشكل عليه الأمر لما اعتقد أن الأتراك قد شابهوا العرب تماما بمعنى أنهم دخلوا في دين الإسلام، وجَرَوْا على سننهم بالفتوحات من حيث العدل ولين الجانب! ولكن قد فاته أن لكل دين لسانا –لغة- ولسان دين الإسلام “العربي”. ولكل لسان آداب ومن هذه الآداب تحصل ملكة الأخلاق وعلى حفظها تتكون العصبية. فالأتراك أهملوا أمرا عظيما وحكمة نافعة قالها السلطان محمد الفاتح –رحمة الله عليه- وأحبَّ أن يعمل بها السلطان سليم وهي قبول اللسان العربي، لسان الدولة وتعميمه بين من دان بالإسلام من الأعاجم ليفقهوا أحكامه ويمشوا على سنن الارتقاء بعلومه وآدابه ومكارم أخلاقه ومحاسن عوائد أهله. فالعرب ما نجحوا بفتوحاتهم بشكل الدين الظاهري فقط بل بفهم أحكامه والعمل بآدابه وذلك تمَّ ولا يتمّ إلا باللسان وهو أهم الأركان” وطفق الأفغاني يفسر فتوحات العثمانيين الأولى بتقديم السلاطين العثمانيين الأوائل للعلماء العرب[1].

يجدر التنبيه هنا إلى أن نؤكد أن الأمر ليس عنصريا ولا عرقيا بحال، بل إن العربية –في المفهوم الإسلامية- هي عروبة اللسان، فمن نطق بالعربية فهو عربي، وفي الحديث “إنما العربية اللسان” وهو وإن ضعفه العلماء إلا أن معناه –كما قال ابن تيمية- “ليس ببعيد، بل هو صحيح من بعض الوجوه”[2].

لقد كان طبيعيا إذ لم تتعرب أن يتسارع فيها وتيرة التراجع العلمي، فلقد عمل الحاجز اللغوي على تضييق قنوات الاتصال العلمية بين الأتراك وبين العرب والتراث العربي، ومن ثَمَّ لم يكن سهلا إصلاح الحال إذ امتنع على الأتراك قراءة تراث ضخم بالعربية كما امتنع على العرب وعلماء المسلمين معرفة وفهم الأحوال على وجهها الصحيح لدى الترك، وكان بالإمكان إذا تعربت الدولة وسقط حاجز اللغة أن يكثر المجتهدون عربا وتركا فيتمكنون من إنهاض الحركة العقلية التجديدية في علوم الدين والدنيا، إذ تستطيع كثرتهم أن تستوعب تطورات الحياة وما يدخل إليها من طوفان الجديد في كل يوم.

وهذا المعنى انتبه له وصاغه ببراعة أستاذنا القدير جلال كشك رحمه الله حين قال:

“صحيح أن مدفعية الأتراك قد أبعدت سفن الفرنجة عن الشواطئ العربية.. غير أن الأمم لا تقوم على المدافع وحدها.. ولسوء حظنا كانت النهضة الحديثة لا تقوم على التفوق العسكري من خلال الأسلحة التقليدية وحدها.. بل تقوم على التطور الصناعي والعلمي الذي يضيف كل يوم سلاحا جديدا ومدفعا من عيار أقوى وأبعد مرمى.. والقوة العسكرية ما لم تصاحبها نهضة على جميع مستويات الأمة، سرعان ما تنقلب وبالا على الأمة ذاتها” وبرغم ما أنجزته القوة العسكرية العثمانية من تغييرات تاريخية فارثة إلا أنها “لم تجد حضارة خلفها تسندها وتطورها وتجدد دماءها”، “ولم يكن أمام الأتراك من سبيل للتطور الحضاري إلا تبني الحضارة العربية وتطويرها ولكنهم أضاعوا فرصتهم الوحيدة في التاريخ برفضهم اتخاذ اللسان العربي ومن ثم الفِكْر العربي.. وقد حاول السلطان سليم أن يجعل اللغة العربية لغة رسمية وكان هو مثقفا عربيا ويتقن اللغة العربية ويمارس لونا من الشعر العربي”[3].

لقد كانت الدولة العثمانية –كما يقول محمد قطب- “أول خلافة ذات لسان غير عربي، ولم يستعرب. واللسان العربي أمر له أهميته في فهم كتاب الله وفقهه. وقد كان عدم استعراب هذا اللسان مُعَوِّقا عن التفقه في هذا الدين رغم الحماسة الظاهرة له”[4]، ويسجل أنه كان بالإمكان المسامحة في هذا عند لحظة البداية، لحظة الضرورة، حيث الإسلام في حاجة إلى دولة تحميه من الخطر ولو لم يكن لسانها عربي إلا أن الخطأ الكبير أن تستمر “دولة الخلافة” بغير اللسان العربي، يقول: “ولم يكن ذلك يؤثر في مبدأ الأمر، مع الإخلاص وصدق العزيمة، والعمل الجاد لتوحيد العالم الإسلامي، ووضعه تحت قيادة قوية موحدة تحميه من التمزق الذي كان يعانيه في أواخر الدولة العباسية. ولكنه على مرّ الأيام صار يؤثر، إذ أحس الشعب العربي، الذي ظل طيلة تسعة قرون على الأقل هو قلب الإسلام النابض، بلون من العزلة، وحكامه يخاطبونه بغير لغته، وبغير اللغة التي نزل بها الإسلام.. وظلت هذه العزلة تتزايد مع توالي الظروف السياسية التي أحاطت بالدولة العثمانية، حتى تمكن الأعداء الماكرون من تمزيق جسم الأمة، وكانت قضية “الترك” و”العرب” من الأدوات التي استخدموها –بخبث- في التمزيق. ولو تصورنا أن دولة الخلافة قد استعربت، وتكلمت باللغة التي نزل بها هذا الدين، فلا شك أن عوامل الوحدة داخل الدولة كانت تصبح أقوى وأقدر على مقاومة عبث العابثين. فضلا عما يتيحه تعلم العربية من المعرفة الصحيحة بحقائق هذا الدين من مصادره المباشرة: كتاب الله وسنة رسوله (صلى الله عليه وسلم)، مما كان الحكام والعامة كلاهما في حاجة إليه، على الرغم من كل ما ترجم إلى التركية، وما أُلِّف أصلا بالتركية حول هذا الدين”[5].

ولقد ظل محمد رشيد رضا الذي يصحّ أن نسميه آخر المصلحين العظماء في عصر الدولة العثمانية، ظل يناصح الخليفة عبد الحميد –والدولة العثمانية في النزع الأخير- أن ينقذ الانهيار بأن “يجعل اللغة العربية لغة الدولة الرسمية، ويجتهد في استعراب الترك أجمعين، ويؤلف منهم ومن عرب العراق ونجد والحجاز قوة عسكرية منتظمة ويقيم الشرع، فإذا هو فعل ذلك يكون له مُلْك عظيم وعز منيع، ويأمن غائلة الخارجين بدعوى الخلافة”[6].

وذهب يستفيض عبر مقالات مجلة المنار في الأمر، ويشرح كيف أن التعرب ينقذ الدولة ويصنع لها نفوذا بعيدا ويقطع الطريق على محاولات القوميات وتشوق البعض لقسمة الدولة بالدعوة إلى “خلافة عربية”، فيقول: “إن غوائل اختلاف اللغة في الدولة لا تنكر، وإن فوائد توحيدها ووحدة الأمة بها لا تجهل، وإن رجحان العربية في الدين والعلم والسياسة لَهو أوضح وأظهر، فإنها هي التي تتوفر الدواعي على تعميمها؛ لأن الناطقين بها أكثر من الناطقين بغيرها، وإرجاعُ القليل إلى الكثير أسهل من عكسه؛ ولأن للترك والكرد والألبان باعثًا نفسيًا يبعثهم على تعلمها؛ وهو الحاجة إلى فهم كلام ربهم – عز وجل – وحديث نبيهم صلى الله عليه وسلم وحكم سلفهم الصالح – رضي الله عنهم – وكتب أئمتهم في التفسير والحديث والفقه وغيرها من علوم الدين – رحمهم الله – والوقوف على تاريخ دينهم. ومن الجهل أن يقال: إنهم يستغنون عن ذلك كله بالترجمة لما سنبينه في فرصة أخرى، ولأن جعلها اللغة الرسمية هو الذي يزيل خطر تفرق الأجناس، فإذا اتفق عليها المسلمون الذين يشاركون فيها غيرهم من الملل في البلاد العربية، لا يبقى للروم والأرمن سبيل لطلب تعليم لغتهم في مدارس الدولة، ولا يكون لتعليمهم لها في مدارسهم خاصة تأثير في إضعاف الوحدة؛ ولأنها لغة حضارة سابقة وعلوم وفنون؛ ولأنها اللغة المشتركة بين جميع المسلمين ولأنه يمكن أن توسع دائرة نفوذ الدولة بنشرها في الممالك الشرقية التي يكثر فيها المسلمون: (الصين وجاوه والهند) من غير نفقة توازي عشر معشار ما تنفقه الأمم الغربية لنشر لغاتها، وتوسيع دائرة نفوذها وتجارتها في الشرق؛ ولأن الدولة تأمن بذلك من قيام دولة عربية تدعي الخلافة وتنازعها النفوذ في العالم الإسلامي بنفسها وبمساعدة بعض دول أوربا؛ ولأن في ذلك تحقيقًا لمقصد من مقاصد الإسلام العالية وهو محو العصبيات الجنسية وتوسيع دائرة الأخوة الإنسانية”[7].

ثم صار يقترح حلولا بديلة لتعايش اللغتين التركية والعربية إن لم يكن تعميم العربية ممكنا، لكن نداءات رشيد رضا ذهبت أدراج الرياح، وتبعته الدولة العثمانية جميعا، وجاءت دولة علمانية شنيعة زادت في المأساة مأساة فمنعت الكتابة بالحرف العربي فأضيف بهذا حاجز ضخم بين الترك وتاريخهم وتراثهم، ومعه أضيف حاجز أضخم وأكبر بين العرب والترك، وهو حاجز لا يزال يزيدهم رهقا!


[1] جمال الدين الأفغاني: الآثار الكاملة (الخاطرات) 6/90.

[2] ابن تيمية: اقتضاء الصراط المستقيم 1/461.

[3] جلال كشك: القومية والغزو الفكري ص177.

[4] محمد قطب: كيف نكتب التاريخ الإسلامي ص181.

[5] محمد قطب: واقعنا المعاصر ص141، 142.

[6] محمد رشيد رضا: الدولة العلية ومكدونية، ورأي في الإصلاح، مجلة المنار، 6/433.

[7] محمد رشيد رضا: الجنسيات العثمانية واللغتين العربية والتركية، مجلة المنار، 21/501 وما بعدها.

 

عن الكاتب

محمد إلهامي

باحث في التاريخ والحضارة الإسلامية


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس