ولاء خضير - ترك برس

"مشينا معا في هذه الطرقات.. تبللنا معا تحت المطر المنهمر.. كل ما أسمع من أغنيات.. كل شيءٍ يذكرني بكم"، هذه هي افتتاحية الكثير من الخطابات التي يتوجه به رئيس تركيا إلى أبناء شعبه، ملخصًا بها رحلته السياسية، ومدينًا بالفضل لأفراد شعبه".

ينتمي رجب طيب أردوغان، إلى أسرة متواضعة، تعود أصولها الى منطقة "ريزة" الواقعة على البحر الأسود، كان والده يعمل قبطانا بحريا، ثم انتقل مع زوجته إلى إسطنبول، حاله كحال الكثيرين من العائلات التركية التي انتقلت من قرى الأناضول، وقدموا إلى المدينة الأهم إسطنبول، بحثا عن الرزق.

استقر المقام بالحاج أحمد في حي قاسم باشا، ويعتبر أفقر أحياء مدينة إسطنبول، حيث ولد ونشأ "أردوغان"، وكان ذلك في 26 شباط/ فبراير من عام 1954م، حيث عاش بها طفولته، وأكمل مرحلة التعليم الأساسية بها، وحتى دراسته الجامعية مرت به، وهو في حي قاسم باشا.

وتربى "أردوغان" على قيم الأخوة، والصداقة، ومساعدة الجار، وقيم الرجولة، حيث كان يطلقون على أغلب سكان حي قاسم باشا، اسم"قبضاي"، للدلالة على صفات الرجولة، والشهامة التي تمثل بها سكان الحي.

وعُرفت عائلته كونها عائلة متدينة، وكانت ترسل ابنها إلى مدارس الأئمة والخطباء، حيث درس "أردوغان" مرحلته الثانوية في مدرسة الأئمة والخطباء الدينية، والتي كانت تجمع بين العلوم الدينية، والعلوم العصرية، ونجح وتفوق فيها، وهذا ما يعتبره الكثيرون أحد الأمور التي أثرت على شخصية "أردوغان" وهو صغير، فأجواء أسرته، وأجواء بيئته المتقاربة مع أسرته، زرعت فيه قيم الدين، وحبه، والتعمق فيه، والتوعية المجتمعية.

وكان "أردوغان" يحب الشعر، والمسابقات، والمناظرات، وكانت شخصيته جذابة جدا، ومحببة للجميع، ومثالا لأقرانه، وكان في أوقات فراغه، وعندما يخرج من مدرسته، يبيع الماء وكعك "السميت"، في شوارع إسطنبول، حتى يوفر سعر الكتب، وما يحتاجه، وكان يبدو عليه، أنه إكثر أدبًا، وأكثر نضوجًا من أقرانه، وكان دائم النصح لهم بترك المعاصي والأفعال المشينة.

ومنذ صباه، أحب "أردوغان" لعبة كرة القدم، وكبرت معه هذه الهواية، من أزقة وشوارع قاسم باشا، وأوصلت به إلى ملاعب المحترفين، واختير ضمن منتخب شباب إسطنبول، وكان يجري تدريباته في فريق حيِّه الشعبي، ووصل إلى مراحل متقدمة.

وأمضى ما يقارب 10 سنوات لاعبا في عدة أندية، وواصل أردوغان لعبة كرة القدم حتى خلال مرحلته الجامعية، والتحق بعد ذلك بكلية الاقتصاد والتجارة في جامعة مرمرة.

عرف أردوغان السياسة مبكرا في حياته، كانت لديه أحلام الشباب، وشغلته هموم وطنه، وأمته، وكان يطرح دائما تصوراته، وأفكاره، وحلوله حول تركيا، والعالم الإسلامي الذي أحبه، وافتخر بانتمائه إليه، وتشكل لديه وعي سياسي مبكر، وانضم بعدها إلى الاتحاد الوطني للطلبة الأتراك، وتمتع بشخصية سياسية فذة عززت وزادت من قوته.

عمل بعد ذلك موظفًا في البلدية، واستطاع الزواج وإعالة أسرته، تزوج من "أمينة"، المناضلة الإسلامية في حزب السلامة الوطني.

وانتقل "أردوغان" من الاتحاد، إلى جناح التنظيم الشبابي المحلي لحزب "السلامة الوطنية"، وكان رئيس التنظيم الشبابي للحزب، وبدأت فيه حياته السياسية، وكان لطيف واسع من الشعراء، والمفكرين، دور هام في ثراء نشأته الفكرية والثقافية، من أمثال شاعر نشيد الاستقلال محمد عاكف إرسوي، والشاعر نجيب فاضل قيصاكيورك، والمفكر نور الدين طوبجيه، وأحمد كباكيه.

هذه الأسماء، التي شكلت شخصية "أردوغان"، وحددوا وجهته، وهم أساس وأعمدة الفكر والثقافة التي يحوزها "أردوغان" الآن.

"نجم الدين أربكان"، كان هو بلا منازع، أهم قيادات تيار الإسلام السياسي في تركيا، وفي عام 1970م، أسس "أربكان" الشاب الطموح، الذي تأثر بميراث الدولة العثمانية، حركة "النظام الوطني"، وشكلت هذه الحركة، أدبيات الأحزاب السياسية الإسلامية، والتي بدأ فيها "أردوغان" مشواره السياسي، ومنح أربكان ثقته وعونه لـ"أردوغان"، وتوسعت شعبية الحركة، وازداد عدد مؤيديها.

لم يصمد هذا الحزب مطولا، فقد أصُدر قرار بحله، بتهمة التآمر ضد العلمانية، وفي عام 1972م، عاد أربكان مجددًا إلى الساحة بـ"حزب السلامة الوطنية"، هنا بدأ "أردوغان" مسيرته الحزبية، وكان عمره 24 عاما، وتم اختياره أمينا عاما لشعبة الشباب في إسطنبول، واستمر فيها حتى عام 1980م، عندما حظر الجيش جميع الأحزاب السياسية في البلاد.

وعاد "أردوغان" إلى الواجهة، مع تأسيس حزب "الرفاه" عام 1983م، وفي عام 1985م، أصبح رئيسا لشعبة الحزب في إسطنبول، وأقام  تشكيلات واسعة في مناطق أبعد من إسطنبول، وتقرب من الناس، وكان يستمع لأفراد الشعب بشكل مباشر، وكان يدفع جزءا من مرتبه شهريا من أجل خدمة أهداف الحزب.

وتمثل برنامج حزب "الرفاه" بأطروحتين، الأولى "سنكون صوت الأكثرية الصامتة"، والثانية "سنكون المدافعين عن الفقراء والمعوزين من الناس"، وبهذا يقول أردوغان: "اقتسمنا مع الناس طعامهم، وجلسنا على طاولاتهم، وكنا نبحث عن حلول لمشاكل الناس، وشجعنا تدخل النساء والشباب في المشاركة بالأحزاب".

وحقق  بعد ذلك الحزب شعبية واسعة، ونجح في دخول البرلمان، مع حصوله على 17% من الأصوات.

وشهد عام 1994م، تحولا هاما في حياة الشاب "أردوغان"، عندما انتخب عن حزب "الرفاه"  رئيسا لبلدية أكبر وأهم مدينة في تركيا مدينة إسطنبول، وكان ينزل إلى الشارع، ويتحدث إلى المواطن العادي، ويوصف بأنه كان صيادا للعقول والمهارات التي تخدم البلد، لقد كان هدفه رفع الظلم، وبناء دولة الحق والحقوق.

كانت "إسطنبول"، تمر بمرحلة سيئة في الكثير من النواحي، حتى على مستوى الاهتمام بنظافة الشوارع والحارات، وخلال عامين فقط تغلب على مشكلة التلوث الهوائي، وأحضر الماء من مناطق بعيدة، وطور نظام الصرف الصحي، وأنهى الأعمال الخاصة بـ"المترو" التي كانت قبل أن يتولى منصبه، وتولى إنشاء طرق جديدة، وانتشل بلدية إسطنبول من ديونها التي بلغت ملياري دولار، إلى أرباح واستثمارات، وبنمو بلغ 7%، بفضل عبقريته، ويده النظيفة، وبقربه من الناس، لا سيما العمال، ورفع أجورهم، ورعايتهم صحيًا واجتماعيًا.

ثم حقق حزب الرفاه في عام 1996م فوزا كبيرا في الانتخابات البرلمانية، وأصبح "نجم الدين أربكان" رئيس الوزراء على رأس الحكومة الائتلافية، ولم يخفي توجهاته الإسلامية في مشاريعه السياسية، لكن الجيش الذي نصب نفسه حارسا للعلمانية، كان له بالمرصاد، وأطاح بحكومته، وأجبره على الاستقالة.

وفي تلك الأثناء، كان "أردوغان" رئيسا لبلدية إسطنبول، ولفت الأنظار إليه بسبب إنجازاته الشعبية، وبات زعيمًا له شعبيته واسمه، غير أن الجيش، استغل الفرصة للإطاحة به مبكرا، حيث مثل أمام المحكمة، بتهمة تحدي النظام العلماني، وحكم عليه بالحبس عدة أشهر، ومُنِع من ممارسة السياسة لمدة 5 أعوام، وكانت المحكمة علنية بهدف إهانته.

ورغم ذلك، كان "أردوغان" يتابع شؤون البلاد، وهو في السجن، وبعد خروجه من السجن بأشهر قليلة، قامت المحكمة الدستورية عام 1999م بحل حزب "الفضيلة"، الذي قام بديلًا عن حزب "الرفاه"، فانقسم الحزب إلى قسمين، قسم المحافظين، وقسم الشباب المجددين بقيادة رجب طيب أردوغان، وعبد الله غُل، وكانت بداية حزب جديد، هي ولادة "حزب العدالة والتنمية" عام 2001م.

وتبنى حزب"العدالة والتنمية" مبادئ الأتاتوركية العلمانية، وفي ذات السياق احترم المصالح الدينية والوطنية، وخاض الحزب الانتخابات البرلمانية، بالتنافس مع الأحزاب العلمانية ، وفاز فوزًا ساحقًا، لم يتمكن أردوغان من ترؤس حكومته، بسبب تبعيات سجنه، وقام بتوكيل المهمة إلى صديقه عبد الله غُل.

وبعدها، رُفع الحظر السياسي عن "أرودغان"، وترشح  لمعقد شاغر في البرلمان، وحقق فوزا كبيرا، وفي مشهد نادر، تنازل "عبد الله غُل" عن منصبه، مفسحا المجال أمام رفيق دربه، ليصبح رئيسا للوزراء عام 2003م.

سنوات "أردوغان" التي حكم بها تركيا، غيرت بلا شك وجه تركيا الحديث، فقد أنقذ البلاد من اقتصادها المدمر، وأنجز إصلاحات سياسية مؤثرة في المنطقة، وعمل "أردوغان" على إصلاح ما أفسده العلمانيون، لا سيما فيما يتعلق بمنع شعائر الدين كالحجاب، ومد يده للسلام، ونشر الحب في كل اتجاه، وتصالح مع قوميات لها عداء تاريخي مع تركيا.

وأثبت أردوغان بموافقه أنه نصير الأمة الإسلامية، وحامي الشرق الأوسط، ومدافع أول عن القضية الفلسطينية، حتى بات بطلًا في عيون الأتراك، والعرب، والمسلمين.

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!