إبراهيم العلبي - وكالة الأنباء التركية العربية "طه"

ينظر الإسلاميون العرب إلى تجربة حزب العدالة والتنمية التركي في السلطة، المستمرة منذ عام 2002، بوصفها نموذجا يحتذى، وتعمقت هذه النظرة مع نتائج الانتخابات الأخيرة، التي عززت مكاسب الحزب وخولته الحكم منفردا بعد فترة يمكن وصفها بالانتقالية استمرت لخمسة أشهر، شكل العدالة والتنمية خلالها حكومة مؤقتة أو حكومة انتخابات، إثر فوز غير حاسم له في انتخابات 7 حزيران.

وعلى الرغم من أن وصول الحزب التركي إلى الحكم سبق موجة الربيع العربي بنحو 8 سنوات، فإن التوترات والقلاقل التي عصفت بتركيا بعد اندلاع هذه الموجة، ابتداءا من أحداث غيزي بارك، لم تكن بمعزل عنها، أو بالأحرى عن سياسات تركيا في ظل العدالة والتنمية الداعمة لحقوق الشعوب العربية وتطلعاتها الديمقراطية، الشعوب التي اصطدمت، بالإضافة إلى حكامها ورجالهم وشبيحتهم وبلطجيتهم، بإرادة أنظمة عربية تعاكسها في الأحلام، وتسعى جاهدة لإعادتها إلى بيت الطاعة، بمعونة نظام دولي منافق، وهو ما وجد طريقه بالفعل إلى التحقق في عدة ساحات، لكنه لا يزال يصارع إرادة الحرية التي لم تتمكن تلك الأنظمة من إطفائها حتى الآن.

“النموذج التركي” الذي نجح في ترسيخ الديمقراطية من جهة، والإفلات من مساعي الحصار والعزل والإسقاط التي اعتادها النظام العربي الرسمي، مثلا أملا للملايين في العالم العربي، لا سيما الإسلاميين الذين شكلوا رأس حربة الثورات العربية وساقتهم الموجة إلى سدة الحكم بعد حظر استمر عقوا. ولكنه أمل لا يملك خريطة طريق، وبعبارة أخرى يستند إلى عاطفة محضة ولا يسبر أغوار نموذج العدالة والتنمية ويتعرف على نقاط قوته كما نقاط ضعفه، ويكتفي قادة الحركات الإسلامية بالفرح والسرور بنجاح تركيا في تثبيت تجربة العدالة والتنمية ونجاتها من مخططات الثورات المضادة، على اعتبار أن استمرار هذه التجربة هو نجاح ودعم للتجارب المماثلة في العالم العربي.

في الحقيقة عندما يتحدث المتحدثون عن التجربة التركية أو النموذج التركي فإن أكثر ما يستحضره الخيال العربي هو النتيجة المتمثلة ببقاء العدالة والتنمية في الحكم، وليس الأسباب والسياق والوسائل المعتمدة في هذه التجربة، وهذه في الواقع مربط الفرس ومعقد الرهان.

ما لا يدركه الإسلاميون العرب أن العدالة والتنمية اختط لنفسه نهجا مختلفا عن جذوره الحزبية، واتخذ منهجا في السياسة لا يقبلون به، أو جلهم على الأقل، حينما قرر أن يعلن الولاء للجمهورية التي أسسها مصطفى كمال أتاتورك، ويقبل بجميع المبادئ التي قامت عليها وعلى رأسها العلمانية، إلا أنه عمد إلى إعادة تفسيرها، مستغلا حالة السيولة التي اعترت هذا المصطلح، واتخاذه شعارا في العديد من تجارب الحكم المتناقضة حول العالم حتى فيما يخص الهوية الدينية للدولة.

الإسلاميون ليسوا مدعوين لاقتفاء أثر العدالة والتنمية في تبني العلمانية، ولكنهم مدعوون للتعلم من منهج جمع بين الواقعية والمبدئية في صورة تلائم تركيا ولا تلائم بالضرورة البلاد العربية التي قد تناسبها صور أخرى ولكن المهم أن يكون ثمة تصور ما للتغلب على العقبات الكأداء المماثلة في حالتنا العربية.

العدالة والتنمية لم يكتف بذلك، بل جدد الكثير من مفاهيمه الإسلامية حول السياسة والعلاقات الاجتماعية، ولم يرض أن يكون حبيس الجمود والأفق الضيق والمدرسة الصارمة بل تمرد، فيما تمرد، على مؤسسه الحقيقي الأول وأستاذ قادته، نجم الدين أربكان، لا سيما فيما يتعلق بخياراته السياسية التي ثبت عقمها (في الحالة التركية) بعد عملية إسقاط الحكومة التي شكلها أربكان عام 1996.

ولأن الحزب الذي أسسه الرئيس الحالي رجب طيب أردوغان وعدد من رفاقه تخفف من عبء معركة الهوية وخاض بدلا عنها معركة الحريات (التي كانت الضمانة لرفع الحصار عن هوية المجتمع الإسلامية ورفع الاضطهاد عن المتدينين) فقد ركز جهوده في بناء المعجزة الاقتصادية، التي سجلت خلال 8 سنوات من الحكم أرقاما ونسبا مذهلة، فضلا عن التحول من دولة منهكة بالديون إلى دولة دائنة. وسبقه ولازمه التركيز على عمل البلديات وتقديم خدمات مميزة للمواطنين بدأب وإتقان منقطعي النظير.
الإتقان هو أهم ما يميز “التجربة التركية” أو هذا النموذج الناجح الذي يتطلع إليه الكثيرون في عالمنا العربي، والكفاءة التي تعني تحقق جميع الصفات المطلوبة في من تسند إليهم المهام الحزبية والحكومية والبلدية بمختلف مستوياتها.

العدالة والتنمية بنى خلال سنوات قليلة إمبراطورية إعلامية فعالة، وتعاون مع منظمات المجتمع المدني، القريبة منه والبعيدة، إذ كان لها دور أساسي في تصويت الناخبين له باستمرار، وخلق لنفسه شبكة علاقات داخلية وخارجية تقطع الطريق على مختلف محاولات العزل والإقصاء والتآمر الذي لم ينقطع حتى اللحظة، فالمؤامرات أبطلتها الكفاءة والإتقان لا العويل والتخبط.

لقد كان العدالة والتنمية مستعدا في معظم أحواله لأسوأ السيناريوهات التي كان خصومه يتوعدونه بها، وكان دوما مستعدا لاتخاذ قرارات صعبة وخوض مغامرات غير مضمونة النتائج. في عام 2007، عندما رفعت عليه دعوى في المحكمة الدستورية بتهمة محاولة القضاء على العلمانية ومبادئ الجمهورية، ذهب الحزب للدفاع عن نفسه وفي جعبته سيناريو تشكيل حزب جديد لمواجهة احتمال حظره، رغم أنه لم يكن مرجحا، في حين أن معظم الحركات الإسلامية القطرية في العالم العربي عجزت عن مواجهة أحكام الإعدام أو الحظر أو الاعتقالات أو النفي عبر إعادة إنتاج نفسها، ونظرت على الدوام إلى وحشية الأنظمة باعتبارها ابتدلاء واصطفاء من الله، وإلى التراجع خطوات إلى الوراء باعتبارها تنازلات وبيعا للمبادئ، رغم أن شكل التنظيم أو هرمية الجماعة أو حتى خياراتها الآنية، ليست مسلمة دينية ولا ثابتة من ثوابت الإسلام.

وهكذا يمكن القول إن جماعاتنا وحركاتنا الإسلامية التي تحتفي بانتصارات العدالة والتنمية الانتخابية وإنجازاته السياسية والاقتصادية، نظرا لجذوره الإسلامية، أو هويته التي لا يخفيها، حالهم كحال الصلعاء تفرح بشعر أختها، ورغم احتمال أن ينبت شعرها فيما بعد، إلا أن الأمل تضاءل كثيرا بعد عقود طويلة من العلاج، وينذر بانعدامه ما لم يتلق عناية فائقة.
8 نوفمبر/ تشرين الأول 2015

عن الكاتب

إبراهيم العلبي

كاتب سوري


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس