إبراهيم العلبي - الجزيرة

اجتاحت العالم العربي موجة عارمة لسنوات تمجد "التجربة التركية" باعتبارها واحدة من تجارب "الإسلاميين" القليلة التي نجحت في الوصول إلى السلطة والاستمرار فيها في ظل تجربة إدارة رشيدة نهضت بالاقتصاد وجعلته على قائمة الدول العشرين، وعززت المكتسبات السياسية والاجتماعية لمكونات الشعب التركي، لكننا نعيش اليوم موجة معاكسة، أقل حدة، تجتاح العرب، وخاصة في بلاد الشام، تنظر إلى نفس التجربة بعين الاستياء وتقذفها بسهام النقد اللاذع.

ويلاحظ هنا أن بعض هذا النقد يصدر عن ناشطين وسياسيين، بعضهم إسلاميون كانوا يمتدحون التجربة التركية ويدعون لتكرارها في بلادهم، ولكن هؤلاء باتوا يحملون تركيا مسؤولية التراجع الميداني والتآمر دولي على سوريا، كما يأخذون عليها تطبيع علاقاتها مع "إسرائيل"، العدو التقليدي للأمة.

في الحقيقة، ليس من السهل الحديث عن أفول التجربة التركية في عيون العرب، فرغم ما تحاط به هذه التجربة من تحديات واعتراضات لا تزال تلهم الكثيرين، ولا زالت تحتفظ بقدر من وهج الإنجاز، ولهذا السبب نشهد موجات متضاربة في تقييم هذه التجربة في هذه الأيام، ويغلب عليها الاستقطاب الذي يشوه الحقيقة ويفتت عليها، فلا تكاد تجد من يتخذون موقفاً متوازناً لا ينبني على عاطفة "مجردة" أو عاطفة مضادة، ولا يتأسس على ردة فعل مبالغ فيها، بين من يهاجم تركيا بوصفها عدوه الأول، وبين من يخون كل ناقد لها، ويطالب بالخضوع الأعمى لسياساتها دون نقاش. كلا الفريقين يجعل التباين الآني المفهوم للمصالح بين تركيا والشعوب العربية سبباً للطعن بأحد طرفي المعادلة "نحن وتركيا".

لنبتعد قليلاً عن منطق التبرير لمن نحب، وأنا ممن يحب هذا البلد ويشعر بالامتنان له ويدعو للاستفادة من تجربته، ولكن دون استنساخها أو التغاضي عن نقاط ضعفها، ولنبتعد بنفس القدر عن منطق تحميل مسؤولية التراجع العام في سوريا للآخر أو الصديق أو حتى الخصم، وأنا ممن يلومون تركيا على بعض سلوكياتها في هذا الصدد، ويخطؤون بعض تصرفاتها، ويحملونها -كما يحملون كل من أعلن صداقة الشعب السوري يوماً، وبنفس القدر- مسؤولية الصديق تجاه صديقه. بهذا المنطق فقط يمكن أن نكوّن فهماً موضوعياً لمسار التجربة التركية من ناحية، وطبيعة العلاقة التي ينبغي أن تربطنا بها رغم التحولات، من ناحية أخرى.

ربما نسي كثيرون أن تجربة حزب العدالة والتنمية التي خرجت من رحم الحركة الإسلامية في تركيا بزعامة نجم الدين أربكان لم تكن تمثل امتداداً تقليدياً وتطوراً طبيعياً للحركة الأم كما هو معظم الأحزاب السياسية ذات التوجهات الإسلامية في العالم العربي، بل شكلت تمرداً فكرياً حتى على بعض المفاهيم والمواقف السياسية شبه الثابتة لدى الإسلاميين..

ومن ذلك على سبيل المثال مفهوم العلمانية، التي يقول رواد التجربة التركية إنها قيمة معتبرة في الحكم ولكنهم يعيدون تعريفها. كذلك العلاقة مع الغرب، التي ظلت تمثل هدفاً لا يوازيه هدف في السياسة الخارجية لأنقرة على مدى 10 أعوام على الأقل، وتضمن ذلك المحافظة على "أفضل" علاقة مع "إسرائيل" اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً، حتى شنت الأخيرة حربها على غزة نهاية 2008 وما تلا ذلك من الهجوم على "مافي مرمرة". ومنحت التجربة التركية منذ اللحظة الأولى لولادتها الأولوية القصوى إلى الاقتصاد وتنميته وجعله بين أقوى 8 اقتصاديات في العالم بحسب خطة 2023، وما يستتبع ذلك من سياسة تصفير المشاكل، وفتح أسواق العالم أمام البضائع التركية.

هذه الحقائق وغيرها لم تثر سخط الإسلاميين، وإذا كانت قلة منهم نظرت نظرة ارتياب للقدر الكبير من البراغماتية في التجربة التركية فحقها أن تواصل ارتيابها الآن، أما أولئك الذين تغافلوا عنها أو عذروها ابتداءً، فليس منطقياً أن يرتابوا انتهاءً، بسبب سياسة إعادة التموضع التي يمارسها "العدالة والتنمية" وزعيمه التاريخي رجب طيب أردوغان، فمن غض النظر عن تلك المرحلة بمعاييره الإسلامية والعروبية لا يحق له أن يقيمها اليوم بنفس تلك المعايير.

في الواقع، شكلت ثورات الربيع العربي صدمة لجميع الدول في المنطقة، بما فيها تركيا، ومثلت منعطفاً في أولويات سياستها الخارجية، بعدما أعادت قراءة العمق الاستراتيجي لها في المنطقة، وعولت على قيام تجارب ديمقراطية تحذو حذوها وتتجه شيئاً فشيئاً نحو التكتل الاقتصادي والسياسي معها، لكن المفاجأة أن حركة الثورات لم تكن ناجزة، فقد أجهضت بانقلابات واقتتال داخلي في معظمها فيما طوقت في سوريا ومنعت من الحسم، ما جعل أنقرة تقوم بمراجعات في سياستها الخارجية، وجاءت محاولة الانقلاب الفاشلة على الديمقراطية التركية لتعزز هذه المراجعات التي قادتها إلى تخطئة "الاندفاع" في تأييد الثورات العربية لا سيما سياسياً، وهو ما يعني أن الأفضل بالنسبة لها أن لا يمنعها تأييد حقوق الشعوب العربية من التعامل مع الواقع، ولكن ليس على أساس التخلي وإنما على أساس الإمساك بزمام المبادرة.

كسوري ثائر أرى هدفي الأول في التخلص من نظام الإجرام الطائفي، وأشاهد المحرقة التي وضع الأسد بلدي فيها واستجلب عليها مرتزقة العالم وعتاة الطائفية، سيكون خسارة كبرى بالنسبة لي أن يتراجع اندفاع أي حليف أو صديق عن مؤازرتي، ولكن أليس من الأنانية أن أنظر إلي ما يقلقني ولا أنظر إلى ما يقلق الصديق ولا أراعي مصالحه؟ هل كان الموقف التركي وتقلباته على مدى سنوات صحيحاً على طول الخط؟ فقد بدأت تركيا تجربتها مع هذا الملف بتفعيل اتصالاتها مع النظام الذي كانت ترتبط معه بصداقة أوشكت أن تتحول إلى تكتل إقليمي، والضغط عليه لإجراء إصلاحات جذرية، ثم انتقلت إلى القطيعة والمطالبة برحيل الأسد دون ورقة ضغط حقيقية تملكها للدفع نحو هذا الاتجاه، وهو ما حدا بأردوغان حينها ليدلي بتصريحه الشهير أن بعض الدول الغربية منافقة وليست متحمسة للديمقراطية في الشرق الأوسط.

وعندما قررت تركيا تقديم الدعم العسكري للثوار تخبطت بين الفصائل، بل تهاونت مع دخول المقاتلين الأجانب، وهذه كانت، للأمانة، سياسة دولية، لكنها أضرت بثورتنا، وأجزم بأنها السياسة التي قضت منعت بناء سوريا جديدة في أكثر من 75 بالمئة من أراضيها، وقدمت البلد لقمة سائغة لكل أنواع التدخل الأجنبي، وأفضت إلى منح الغرب الذريعة المنتظرة لإعادة تأهيل الأسد كـ "أهون الشرين"، لكننا كسوريين ايضاً لم ننتج البديل الذي يمكن التعويل عليه.

لا يتسع المقام للتحدث عن طبيعة التحولات التي طرأت على السياسة التركية، ولكن لا بد لنا من الإشارة إلى أن أنقرة اندفعت نحو التصالح مع روسيا مدفوعة بهاجس العزلة الدولية، وأيضاً انطلاقاً من سياسة أردوغان في تعرية الغرب والمناكفة معه وابتزازه، تماماً كما فعل معها في الماضي، وتعززت هذه السياسة بعد الانقلاب الفاشل، وهو ما خلق لها مساحة مشتركة كبيرة للتفاوض مع موسكو على ملفات عديدة بينها الملف السوري..

وإذا كانت تركيا تسعى لانتزاع شيء من روسيا فإنها بالتأكيد باتت ألين من قبل مع مطالب الحليف الجديد وهو ما يمثل تحدياً للسياسة التركية من الواضح أنها تريد تجاوزه عبر الانتقال من سياسة قيادة الثورات إلى دعمها من الخلف وتبني سقف لا يصعد إلا بصعودها ولا يتصلب إلا بصلابتها، وهذا يذكرنا بدورنا نحن قبل غيرنا بحمل القضية والدفاع عنها.

عن الكاتب

إبراهيم العلبي

كاتب سوري


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس