د. زبير خلف الله - خاص ترك برس

أستسمحكم الإخوة القراء في البداية أني أريد أن أشير إلى مسألة مهمة توضح مسار هذا المقال من الناحية التحليلية ومن الناحية المضمونية وتتمثل هذه المسألة في كوني لا أتبنى نظرية التقديس للأشخاص مهما كانت أفكارهم ومرجعياتهم الفكرية، ولا أحاول أن أتجنى على أي شخص كإنسان له كرامته وحرمته وشرفه، ولكن أقدس المبادئ والقيم الإيجابية التي ترتفع بالأفراد والشعوب نحو الصفاء الروحي والرقي الحضاري وفي نفس الوقت أمقت وأنتقد بشدة كل الأفكار والسلوكيات والممارسات التي تؤدي الى إحداث دمار للأفراد والشعوب والحضارات مهما كان مصدرها. ذكرت هذا الكلام حتى لا أُفهم خطأ أني أقدس شخصا بعينه على آخر. فمصطفى كمال زعيم رحل عن هذا العالم وترك بصمته في تركيا وله من يحبونه بل يقدسونه وله حسانته وسيئاته باعتباره إنسان يخطئ ويصيب، وكذلك بالنسبة إلى أردوغان هذا الزعيم الذي ملأ الدنيا وغير من مسارات كثيرة داخل تركيا وخارجها وله أيضا أنصار يجبونه وربما يقدسونه كما أن له حسناته وسيئاته كإنسان وكزعيم يخطئ ويصيب.

سأنطلق في تحليلي من رمزية قد نشترك فيها جميعا كبشر مهما اختلفنا فكريا وايديولوجيا وهي مفهوم "الأبوة" بمعناه الحقيقي. ذلك أن الأب هو الذي يكون مسؤولا عن أبنائه وعائلته ويحرص على حمايتهم من أي أذى معنوي أو مادي وينقل لهم ثقافة أبائه وأجداده ويزرع فيهم لغة و ثقافة الانتماء إلى العائلة والى الأجداد حتى يترعرع الأبناء وهم متمسكون بالجذور وبلغتهم وثقافتهم، وينطلقون في مواجهة الحياة بكل ثقة في النفس معتزين بانتمائهم اللغوي والثقافي والحضاري إلى آبائهم وأجدادهم، بل ويفتخرون بهم حتى وإن كانت لديهم أخطاء. هذا هو مفهوم الأب الذي أعتقد أننا نتفق جميعا كبشر على مواصفاته حتى وإن اختلفنا في بعض التوصيفات الفرعية. دعونا الآن نطبق هذا المفهوم على كلا الرجلين مصطفى كمال وأردوغان ونحلل إنجازات كل واحد منهما وتصرفاته دون الوقوع في أي تجن على أحد أو تحيز إلى آخر.

مصطفى كمال الأب المزعوم

أُطلقت على مصطفى كمال كنية "أتاتورك" بمعنى أب الأتراك وذلك للدور المهم الذي لعبه هذا الرجل في تاريخ تركيا الحديث، فهو المؤسس الحقيقي للجمهورية التركية بعد انهيار الخلافة العثمانية سنة 1923، وتحول اسم أتاتورك إلى رمزية الأب الذي حمى شعبه وبلده من غزو الاستعمار، وأحدث تغييرات جذرية في بنية المجتمع ليجعله أكثر تقدمية وحداثة.كما انتقل مصطفى كمال أتاتورك إلى تيار فكري بل إلى عقيدة لدى قطاع واسع من الشعب التركي يتعصبون إليه ويدافعون عنه بكل ما يملكون من أدوات مادية أو معنوية. لكن السؤال الذي يطرح نفسه: كيف تعامل مصطفى كمال الأب مع الأبناء (الشعب التركي)؟ وهل ينطبق عليه مفهوم الأب الحقيقي الذي ذكرناه في بداية المقال؟

مما لا شك فيه فقد لعب مصطفى كمال قبل أن يصبح أبا للأتراك دورا مهما في حرب جناق قلعة وفي حرب التحرير مع رفاق له ومع عدد كبير من أبناء الشعب التركي وحتى من بقية الشعوب الإسلامية في الدفاع عن تركيا من الغزو الأوروبي، وذاع صيته في كامل تركيا، وتحول إلى بطل قومي يفتخر به الأتراك بل بطلا خارج الحدود جعل من أمير الشعراء أحمد شوقي يفتخر به ويقول فيه قصيدته التي استهلها قائلا:     الله أكبر كم في الفتح من عجب      يا خالد الترك جدد خالد العرب

لقد تحول مصطفى كمال قبل أن يصبح أبا للأتراك الى بطل إسلامي اعتقدت الشعوب العربية والاسلامية أنه أمل جديد لإنقاذ الأمة الاسلامية وحماية الإسلام والدفاع عنه بعد أن استولى اليهود على فلسطين وقُسّم العالم العربي والاسلامي بموجب اتفاقية سايكس بيكو سنة 1916 التي تقاسمت فيها فرنسا وانجلترا المنطقة العربية وميراث الدولة العثمانية التي انتهت فعليا مع انقلاب جماعة الاتحاد والترقي على السلطان عبد الحميد الثاني سنة 1909، ولم يبق من الدولة العثمانية سوى الجوانب الشكلية الخالية من كل معنى ومن كل مضمون.

لقد ساهمت الظروف السياسية والتاريخية التي تمر بها تركيا في تلك المرحلة في بروز نجم مصطفى كمال الذي كان يتمتع بذكاء حاد، واقتنص الفرصة للوصول إلى أعلى مراتب السلطة في الدولة، ويتحول الى الزعيم الأول الذي سيقود تركيا في مرحلة مابعد انهيار الدولة العثمانية التي تمثل الإرث الحضاري والثقافي للشعب التركي. ومنذ ذلك التاريخ بدأت قصة أبوة مصطفى كمال للأتراك وصار يلقب بأتاتورك.

علينا أن ندرك تماما أن الظروف التاريخية التي وصل فيها أتاتورك إلى هرم السلطة كانت تمر فيها تركيا والعالم العربي والاسلامي بأزمة سياسية واجتماعية واقتصادية وحضارية عميقة جدا مما استوجب القيام بخطوات مهمة جدا لإصلاح حقيقي ينقذ تركيا خصوصا من الانهيار الشامل. فكان أول خطوة قام بها الأب أتاورك هو إنهاء الخلافة الإسلامية التي كانت الحاضنة الكبرى التي تجمع كل المسلمين وتوحدهم، الأمر الذي يجعلنا نتساءل كيف يمكن لأب يحب أبناءه يعمد إلى هدم جدران وسقف بيت يقي الأبناء من الحر والجوع والخوف ويتركهم في العراء مشردين كالأيتام لا مأوى لهم؟! .

لم يكتف أتاتورك الأب الذي هدم جدران بيت أبنائه و استبدل حديقته الواسعة (الخلافة العثمانية) بكوخ صغير لا قيمة له (الجمهورية) ، بل عمد إلى استبدال لغة أبنائه، وفرض عليهم شكلا جديدا من لغة حولتهم في ليلة واحدة الى أميين لا يعرفون القراءة والكتابة حتى بات المعلم والتلميذ متساويين في الجهل. لقد كان تغيير الحروف العثمانية من العربية إلى الحروف اللاتينية أكبر عملية مسخ في التاريخ البشري قام بها أب ضد أبنائه، و قد نتج عن هذا التغيير انقلابا تاريخيا كما يسمونه الكماليون لكنه ليس في اتجاه الإصلاح والتطور بل في قطع الأبناء عن ثقافة أجدادهم ولغة آبائهم التي كانوا يتكلمون بها ويكتبونها. لعل شدة حب أتاتورك لأبنائه بعد أن هدم بيتهم هو أن يعوضهم لغة أخرى أفضل من لغة آبائهم وربما تكون هذه "عبقرية كمالية" تعكس مدى حب الأب لأبنائه!!!.

من جهة أخرى عمد الأب أتاورك في محاولة لترغيب أبنائه في اللغة الجديدة إلى إلغاء الأذان من اللغة العربية، واستبدله بالأذان باللغة التركية حتى تتسرب هذه اللغة في جداول روحهم وتتمكن من كل ذرة في كيانهم وتستحوذ على عقولهم في اليوم خمس مرات، وكانت النتيجة أن انقطع الأبناء عن المنظومة القيمية والروحية لأجدادهم، وتحولوا الى كائنات ممسوخة فارغة من كل عمق روحي، وأصبح الدين شكليا لا يمثل عمقا للمجتمع، ولا يعبر عن هويته التي تنبع من أصول أجداده العثمانيين. لقد تجاوز حب أتاتورك الى أبنائه حدود بعدهم المادي الحسي ليتوغل حتى في أعماق أرواحهم، ويحدث فيها شرخا عميقا جدا ساهم بشكل كبير في قطع الشعب التركي عن معينه الثقافي الأصيل المتمثل في الحضارة الاسلامية المتمركزة على المرجعية الاسلامية . نعم حب أتاتورك لأبنائه جعله يفعل كل ما في وسعه لكي يفصلهم عن أي صلة بميراث أجدادهم العثمانيين.

أما على المستوى السياسي فقد حرم الأب أبناءه من الحرية خوفا عليهم من أن يعودوا إلى تراث الأجداد، ويتمردوا عليه فشكل لهم حزب الأبناء الجمهوري " حزب الشعب الجمهوري" الذي سيكون بمثابة الحاضنة الفكرية والمرجعية التي يمارس من خلالها الأبناء حقهم في الفعل السياسي وإدارة الدولة، ومنع على كل أبنائه أن يؤسسوا أي حزب آخر غير حزب الشعب الجمهوري، وفرض عليهم نمطا واحدا حدده هو بنفسه على المستوى الفكري والاجتماعي والسياسي وحتى الشخصي مثل منع لباس القبعة.

لقد عرفت تركيا منذ سنة 1923 الى حدود سنة 1946 مرحلة من أشد المراحل السوداء في تاريخ تركيا، حيث منعت التعددية السياسية، وفرضت سياسة الحزب الواحد، وتمت تصفية كل من يعارض سياسة أتاتورك الأب من الأبناء، وتحولت تركيا الى بلد تابع الى الغرب تعيش حالة انسلاخ حضاري وفكري وعقائدي . مما نتج عنه ظهور تشوهات كبيرة على المجتمع التركي الذي تم تدجينه وتصفية كل القوى الحية الفاعلة فيه، وتحولت تركيا الى دولة مسلوبة الهوية منفصلة عن محيطها العربي والاسلامي الى درجة أنها كانت ثاني دولة في العالم تعترف بتأسيس دولة الكيان الصهيوني في فلسطين التي رفض الجد السلطان عبد الحميد الثاني تسليمها الى اليهود وقال قولته الشهيرة : فلسطين ليست ملكي أنا إنها ملك الأمة الإسلامية قاطبة، لكن رفقاء الأب أتاتورك المؤسس للجمهورية أغمدوا سيفهم في عمق فلسطين وتركوا جراحها تنزف وتنهشها ذئاب الصهيونية والغرب الصليبي.

تمرد الأبناء وظهور الزعيم أردوغان:

مأساة الأبناء لم تتوقف مع وفاة الأب بل تواصلت إلى رفقاء الأب مثل عصمت أنونو الذي منع كل شيء، ونصب المشانق الى كل من يخالفه الرأي حتى أنه غير صورة الأب أتاتورك في العملة، واستبدلها بصورته هو رغبة منه أيضا أن يتحول إلى أب مثل مصطفى كمال لكنه لم يستطع فعل ذلك لأن تركيا مابعد الحرب العالمية الثانية بدأ فيها حراك اجتماعي وشعبي يطالب بإصلاحات حقيقية وبالحرية وبحياة سياسية قائمة على الديمقراطية والتعددية وتحترم هوية الشعب.

لقد كان فوز عدنان مندريس منعطفا مهما في تاريخ تركيا خلال انتخابات 1950 وإعادته الأذان إلى اللغة العربية بعد حظر استمر 18 سنة، وفتحه لمعاهد الأئمة والخطباء التي درست فيها شخصية تركية ستلعب دورا مهما في التاريخ المعاصر وتحدث قطيعة مع ماقام به الأب أتاتورك وقطعه مع ميراثه الذي ظل يحكم تركيا على مدار عقود طويلة. هذه الشخصية هو رجب طيب أردوغان الذي كان ملما بمافعله الأب أتاتورك في الأبناء، وشهد منذ طفولته ممارسة رفقاء الأب المؤسس للجمهورية وإعدامهم لمندريس لتمرده على سلطة الأب أتاتورك ورغبته في تصحيح مسار السفينة التي باتت تتقافذها أمواج التيه من كل الجهات.

من هناك بدأت تجربة الطفل أردوغان تنمو وتترعرع وهو يشاهد بداية النصف الثاني من القرن الماضي مافعله رفقاء الأب من إعدام لمندريس وانقلاب على إراداة الشعب و إرجاع تركيا الى مرحلة الربع الثاني من نفس القرن. لم يكن هينا على هذا الطفل أن يجد جوابا لسؤال أرقه وأقض مضجعه وهو : لماذا يفعل أب الأتراك بأبنائه هكذا؟ ولماذا يحاول أن يبعدهم عن حضارة الأجداد، ويفرض عليهم نمطا دخيلا عليهم وليس نابعا من ثقافتهم ومزاجهم وأحلامهم؟!

أسئلة ظل صداها يتردد في أعماق الطفل أردوغان حتى بعد أن شب واشتد عوده ازدادت هذه الأسئلة أكثر إلحاحا عليه في داخله وهو يرى تركيا تنتقل من انقلاب الى انقلاب، وتتراجع أمام بقية الدول الأخرى والشعب التركي يئن تحت وطأة الفقر والتخلف بسبب شعارات فرضت عليه ولم يخترها، والحرية تسفك دماؤها على قارعة الطريق. كان أردوغان الشاب مهووسا بحب الاطلاع على تاريخ الأجداد الذين عمد الأب المؤسس إلى طمسه ومحوه من ذاكرة الأبناء، وكان يقارن بين مجد تركيا زمن أجداده وبين تركيا في زمن الأب المؤسس. كان هناك بون شاسع بين تركيا الماضي وتركيا الحاضر. تأثر كثيرا أردوغان بجده السلطان محمد الفاتح الشاب الذي استطاع أن يحول مسار التاريخ العالمي عندما فتح القسنطينية مركز البيزنطيين وبها أهم كنيسة في العالم المسيحي. كان يقارن بين مايدرسه في الكتب وبين مايراه على أرض الواقع.

لقد كانت أسئلة أردوغان هي نفسها أسئلة أجيال كاملة عاشت الحرمان والقهر في عهد جمهورية الأب المؤسس ورفقائه، واكتوت أجيال متعاقبة بنار التهميش والظلم وفي داخلها كان يسكن حلم الحرية والتقدم والحياة الكريمة. لقد كبر أردوغان بهذا الحلم وفي داخله عواصف التمرد ضد ثقافة الأب الذي تمرد هو بدوره على أجداده وهدم بيت أبنائه (الخلافة العثمانية) وتركهم يعيشون في كوخ حقير (الجمهورية) لم يذوقوا منه سوى الحرمان والجوع والتخلف عن ركب الحضارات العالمية. كان أردوغان يختزن في داخله تجربة أجيال متعاقبة ناضلت من أجل ولادة تركيا جديدة تتصالح فيها مع ذاتها ومع محيطها العربي والاسلامي، وتعود لكي تلعب دورا مهما في العالم الاسلامي بعد أن تم تغييبها من قبل الأب المؤسس ورفاقه لعقود طويلة.

تركيا وولادة الجمهورية الجديدة:

لم تكن ولادة تركيا الجديدة يسيرة، ولم تكن ولادة الزعيم الجديد أردوغان أيضا من فراغ بل كانت نتاج نضالات طويلة لأجيال عديدة نحتت من الصخر حلمها ودفعت الثمن غاليا حتى تولد فيها تركيا الجديدة الوفية لمعينها الحضاري والمنفتحة على ثقافات العالم وتجاربه المتنوعة. لقد عبرت ولادة الزعيم الجديد أردوغان منذ 2002 على نضج كبير وصل إليه الشعب حتى ينتج مثل هذا الزعيم الذي ظهر في فترة كانت تركيا القديمة تعصف بها الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. لقد ولد الزعيم أردوغان في مرحلة ظن الجميع أن تركيا دخلت في دهاليز السقوط والانهيار.

كان وصول أردوغان الى السلطة في سنة 2002 بداية جديدة لمشروع تركيا الجديدة التي انطلقت منذ ذلك الحين الى شق طريقها نحو التقدم والرقي رغم كل التحديات والعراقيل التي مارسها أتباع الأب المؤسس ، إلا أنهم فشلوا أمام إصرار أردوغان ورفاقه من الأبناء المتمردين على ثقافة الأب المفلسة. تحولت تركيا خلال 13 سنة إلى أكبر دولة إقليمية في منطقة الشرق الأوسط وصارت الدولة الثانية عالميا من حيث النمو الاقتصادي، ودخلت في ميدان تصنيع الأسلحة والاتصالات وفي كل القطاعات. وباتت تلعب دورا إقليميا ودوليا مهما جدا في الخارطة الجيوستراتيجية، وهذا كله بفضل  النجاحات التي حققها أردوغان وحزب العدالة والتنمية خلال فترة قصيرة حين توفر الحلم الحقيقي والارادة الحقيقية لتنفيذه.   

لقد استطاع أردوغان أن يصحح مسار العلاقة بين الأبناء والأجداد، ويعمق عملية التواصل بينها فعادت اللغة العثمانية تدرس في كل  انحاء تركيا، وأصبحت اللغة العربية تدرس أيضا في كل زاوية من زوايا تركيا، وتم ترميم كل المساجد والآثار العثمانية، وتصالح الشعب مع ماضيه الذي اغتاله الأب عندما أراد أن ينبني تركيا القديمة. تحولت تركيا إلى قبلة لكل السائحين والمستثمرين، وفتحت أبوابها على كل العالم حتى غدت نموذجا تتهافت عليه الدول للاستفادة منه.

لقد كان حجم المشاريع التي قام بها أردوغان ورفاقه من الأبناء المتمردين خلال 13 سنة يعادل عشرة أضعاف المشاريع التي تم إنجازها كاملة خلال 80 عاما من حكم جمهورية الأب أتاتورك. وتمكنت تركيا التي بلغت ديونها خلال وصول حزب العدالة والتنمية الى الحكم سنة 2002  إلى قيمة 23 مليار دولار أمريكي من دفع كل ديونها خلال تسع سنوات لصندوق النقد الدولي الذي اقترض هو بدروه 5 مليارات من تركيا الجديدة.

لقد كانت النجاحات التي حققها أردوغان هائلة جدا حولت تركيا من دولة يعبر على أرضها الغزاة الى دولة يقرأ لها العدو ألف حساب، وباتت لاعبا مهما سياسيا واستراتيجيا في منطقة الشرق الأوسط وفي العالم، وعادت تركيا الى الوقوف بجانب القضايا العربية ودعمها لها رغم حجم الضغوط التي تتعرض لها من قبل القوى الدولية. لم يكن نجاح أردوغان من فراغ وإنما كان نتاجا لتراكمات طويلة امتدت على مدار 80 عاما نجح فيها جيل أردوغان أخيرا من كسر قيود سيطرة الأب المزعوم الذي بنى جمهوريته على قطيعة مع موروثه الحضاري والثقافي وشيد بناءها على فراغ ووهم من ثقافة ليس نابعة من هوية الشعب التركي الذي بات ينظر إلى أردوغان على أنه هو الباني الحقيقي لتركيا الحديثة المتصالحة مع هويتها والمنفتحة على عصرها والقادرة على منافسة الكبار في هذا العالم.

أخيرا لقد كان الفرق بين المشروع الكمالي والمشروع الأردوغاني كبيرا جدا من حيث حجم الانجازات وحجم النجاحات، فالأول لم يستطع أن ينهض بتركيا ويحولها الى دولة اقليمية، وسعى الى سلبها عن هويتها وعن موروثها الحضاري مما أفقدها كل مقومات النهوض والنهضة والتقدم، أما الثاني فقد بنى مشروعه على أرضية تتناغم وهوية الشعب وتتناسب مع مورثه الحضاري والثقافي فكانت النتيجة أن حقق نجاحا كبيرا حول التجربة التركية الى نموذج عالمي بعد أن كانت تركيا قبل 2002 في زمن حكم جمهورية الأب أتاتورك دولة مفلسة آيلة للسقوط والانهيار. وهنا يأتي السؤال التالي:

 أي الرجلين يستحق بجدارة أن نلقبه بالأب الحقيقي للأتراك؟ مصطفى كمال أم أردوغان؟

عن الكاتب

د. زبير خلف الله

كاتب - المركز العربي التركي للتفكير الحضاري


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس