د. وسيم بكراكي - خاص ترك برس

أسقط الطيران الحربي التركي الطائرة الروسية وبدأ العالم أجمع يتحدث عن هذه الحادثة وخطورتها. منهم من وصل إلى إعلان الحرب العالمية الثالثة، ومنهم من تغنى ببطولات تركيا، ومنهم من بدأ يترقب الردود الروسية المدمرة والصاعقة. فكل يعني على ليلاه.

ولكن، إن المتابع لكل من البلدين، وللمسألة السورية بشكل عام سيجد أن أي خطوة تتم اليوم في الساحة السورية وجوارها هي خطى مدروسة وغالباً ما يكون متفق عليها بين أطراف الصراع.

لم ينتهي اليوم الحافل بعد إسقاط هذه الطائرة إلا وأعلن البيت الأبيض بشخص أوباما نفسه أحقية تركيا في حق الدفاع عن حدودها مرسلاً رسالة قوية إلى نظيره الروسي بأنه لو وجه بوتين طاقته لحرب داعش لما حصل ما حصل. وهي لفتة واضحة إلى الدب الروسي تؤكد له أنه قد ضل طريقه في حربه التي أعلنها على داعش ونفذها على التركمان في جبال اللاذقية، تلك المنطقة الجبلية التي لا تحتوي داعشيًا واحدًا كما قالها وأكد عليها أردوغان في نفس اليوم.

إذن، هي حرب معنوية نشاهدها اليوم بين تركيا وروسيا يتخللها قرص لاذع بدأه الروس بضرب تركمان سوريا وأتبعها الأتراك بانتهاز فرصة خرق الروس أجواءهم فقصفوا دون أي تردد محافظين على القوانين الدولية والإجراءات القانونية المتبعة. بل وأعلنوا مباشرة عن فعلتهم وأكدوا على ثوابتهم ووجودهم الفعلي على الأرض. تفاجأ الدب الروسي، وشجب وانتحب. وألغى رحلاته إلى تركيا، وأثيرت المسألة الأرمنية في البرلمان الروسي، ومنعت البضائع التركية من الدخول عبر الجمارك الروسية. فماذا بعد؟

بحسب كبار الخبراء العسكريين الروس، إن أي حرب محتملة بين تركيا وروسيا هي حرب لا يمكن لروسيا الانتصار فيها إلا باحتمال ضئيل في حال استخدمت سلاحها النووي على نطاق واسع. فمجرد إعلان حالة الحرب بين البلدين يحق لتركيا مباشرة أن تغلق مضيق البسفور أمام السفن والغواصات الروسية لتمنع عبورها من وإلى البحر الأبيض المتوسط ومنع أي تحرك لهم في كامل البحر الأبيض المتوسط عبر هذا الإجراء لوحده. كما يجب أن نضع في عين الإعتبار كون تركيا هي عضو أساسي في حلف الناتو، وهو الأمر الذي يفرض على الدول المشاركة في هذا الحلف الوقوف مع تركيا إزاء أي عدوان محتمل. ونحن وإن كنا لا نعول على هذا الإمر ونعتبر بأن حلف الناتو لن يتقدم خطوة واحدة لدعم الجانب التركي، إلا أن المؤكد أن تركيا بقدرتها الذاتية لوحدها تشكل خامس أكبر جيش في العالم بقوة لا يمكن الإستهانة بها أبدًا حتى من قبل الروس أنفسهم. فتركيا اليوم هي دولة باتت تصنع 70% من احتياجاتها العسكرية بشكل ذاتي، بدءًا من الأسلحة الخفيفة وصولًا إلى الدبابات وطائرات الهليكوبتر والغواصات وقريبًا الطائرات الحربية المقاتلة، بل هناك من يدعي أن تركيا تمتلك فعليًا سلاحها النووي الذي يتم بشكل ضمني منذ سنين طويلة.

لهذا، إن ما نجده اليوم من رد روسي يكاد يقتصر على تصريحات الشجب والاتهامات الغير مدروسة كاتهام تركيا بأنها تدعم داعش، وأن الحكومة التركية تسعى منذ عشر سنوات إلى أسلمة الشعب التركي، إضافة إلى بعض الإجراءات الاقتصادية كإلغاء حجوزات القوافل السياحية الروسية إلى تركيا، ومنع دخول البضائع التركية إلى روسيا بحجج مختلفة، والتهديد بأن روسيا لن تسكت في حال تم تكرار مثل هذا الأمر.

وبالنظر من الناحية العملية، نجد أن روسيا اليوم باقتصادها المتأزم غير قادرة فعلياً على فرض عقوبات اقتصادية حقيقية على تركيا طويلة المدى، فهي على الرغم من أنها تقدم لتركيا نسبة كبيرة من الغاز الطبيعي إلا أنها غير قادرة على قطع أنابيب الغاز هذه لأن تبعاتها الإقتصادية ستكون ضررًا كبيرًا لاقتصاد روسيا المتأزم. أضف إلى أن هذا الأمر لن يشكل ضررًا حقيقيًا لتركيا التي تمتلك البدائل المتعددة. إذن، إن من يعول على مثل هذا الأمر لا بد وأنه يتناسى مليارات الدولارات التي ستتكبدها روسيا في حال غامرت وأقدمت على مثل هذا الأمر.

من ناحية أخرى، إن مسألة التبادل التجاري بين البلدين هو أمر قد تراجع بشكل كبير في السنة الماضية جراء سوء الحالة الإقتصادية الروسية بشكل تضاءل فيه حجم التبادل التجاري بين البلدين بنسبة 40% عن السنوات السابقة. كما أن السلع التركية تتميز بكونها ذات جودة عالية وأسعار نسبيًا هي أقل من السوق الأوروبية ولهذا فإن خسارة السوق الروسية لمثل هذه السلع سيكلف الشارع الروسي الفقير عبئًا كبيرًا.

إذن، إن حادثة إسقاط الطائرة الروسية هي بالتأكيد سبب لسوء العلاقات بين تركيا وروسيا على المدى القصير، ولكنها برأيي المتواضع لن تكون سببًا في اندلاع حرب حقيقية بين البلدين. أضف إلى أن الكرة الآن هي في الملعب الروسي، وفرص التصعيد أو التهدئة ستأتي منها فقط. فالجانب التركي ومنذ اندلاع الحرب السورية قبل أربع سنوات قد أعلن بشكل واضح خطوط التدخل العسكري له في هذه الحرب، وهو بأن أي إحلال للحدود التركية برًا وبحرًا وجوًا سيعامل بجدية وحزم. فالحدود التركية هي خط أحمر لا يمكن لأحد التهاون فيه.

عن الكاتب

د. وسيم بكراكي

كاتب لبناني


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس