د. باسل الحاج جاسم - خاص ترك برس

لا يمكن النظر إلى الانفجار الذي هز منطقة السلطان أحمد الأثرية وسط مدينة إسطنبول، صباح الثلاثاء، مما أدى إلى سقوط 10 قتلى على الأقل بالإضافة إلى أكثر من 15 جريحًا، وعقد عقبه رئيس الحكومة التركية أحمد داود أوغلو اجتماعًا أمنيًا طارئًا ضم أبرز المسؤولين الأمنيين، لا يمكن النظر اليه بمعزل عن تطورات الأحداث في محيط تركيا الإقليمي، ولا سيما في سوريا والعراق.

ففي سوريا بدأت ما يطلق عليها اسم قوات سوريا الديمقراطية، والتي يشكل غالبيتها حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي والذي يعد امتدادًا لحزب العمال الكردستاني التركي الذي تصنفه تركيا وحلفاؤها حزبا إرهابيا، بدأت هذه القوات عبور غرب نهر الفرات، وبغطاء جوي روسي، لتتجاوز الخط الأحمر بالنسبة للأمن القومي التركي، وإفشال رغبة أنقرة إقامة منطقة آمنة داخل الأراضي السورية، تمتد بين جرابلس واعزاز السوريتين، هذا من جهة، ومن جهة ثانية ربط الكانتونات التي أعلنتها الميليشات الكردية ببعضها البعض جغرافيا، من عين العرب إلى عفرين، تمهيدا لخطوة أكبر، وعلى ضوء حديث الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أن روسيا تعد الساحة لإيجاد دويلة سورية حول محافظة اللاذقية.

وانتقد أردوغان إيران أيضًا خلال كلمة في أنقرة للسفراء الأتراك، وقال إنها تستغل التطورات في دول مثل سورية والعراق واليمن لتوسيع نطاق نفوذها وتحاول إشعال عملية خطرة باتخاذها موقفًا يحول الخلافات الطائفية إلى صراع، ولم يعد يخفى على أحد موقف طهران وحليفتها بغداد من مسألة تواجد قوة عسكرية تركية في الموصل، حيث اعتبروها خرقًا للسيادة.

ولا يمكن إغفال حقيقة أن الأمن القومي التركي بات مهددا اليوم من ثلاث أطراف، هي حزب العمال الكردستاني، والنظام السوري، وتنظيم الدولة الإسلامية.

ومن منظور جيوسياسي، نجد أن تركيا دومًا في موقع غير مريح، فآسيا الصغرى هي محور أوراسيا، إنها الجسر البري بين أوروبا وآسيا، الحدود الشمالية للعالم العربي، والحدود الجنوبية للقوقاز، يمتد نفوذها إلى الخارج باتجاه البلقان وروسيا وآسيا الوسطى والعالم العربي وإيران، بالإضافة إلى تحكمها بمضيق البوسفور الذي يجعل تركيا صلة الوصل بين البحرين، الأبيض المتوسط والأسود، وبالتالي، يتضح التعقيد الذي يحيط بالموقف التركي، فهي، دائمًا، إما تحت ضغط من جيرانها، أو تمارس ضغطًا على جيرانها.

ومع أن تركيا دولة أساسية في حلف الناتو، إلا أن علاقاتها بسبع دول مجاورة لها حساسية، ومع ذلك لا يمكن استبعادها من أي مشروع يرسم للمنطقة، فتركيا من الدول التي تتمتع بوفرة الخيارات الاستراتيجية، بسبب امتداد عمقها الاستراتيجي في أقاليم عديدة مجاورة، وتتحرك حاليًا في الشرق الأوسط، كمبادرة لحل أزماته المتفاقمة في شتى المجالات، وتقدم أفضل نموذج سياسي للتناوب على السلطة في المنطقة.

ويدرك الكل أن لتركيا وضعا خاصا، بسبب عدم رغبتها في مهاجمة دول مجاورة، فربما يحدث رد فعل انتقامي، كما أن رئيسها المنتخب، رجب طيب أردوغان، لا يريد أن يعطي المعارضة التركية أية فرصة للنيل من شعبيته، في حال المخاطرة بأي تحرك خارج الحدود، في الوقت الذي تخوض فيه الدولة التركية حربا داخل أراضيها ضد من تسميهم إرهابيي حزب العمال الكردستاني، ولا سيما أنه أمام استحقاقات داخلية مهمة، استفتاء شعبي، يتطلع إلى أن يحصل فيه على أكثرية تخوله إجراء تعديلات دستورية لازمة لتحويل تركيا إلى جمهورية رئاسية.

لكن هناك حالة يمكن للجيش التركي أن يتحرك فيها خارج الحدود، في إطار حماية الأمن القومي التركي، كما حصل في أواخر القرن الماضي عندما قامت القوات التركية بشن عملية عسكرية لملاحقة مسلحي العمال الكردستاني داخل الأراضي العراقية، كما برر قبل أيام رئيس الوزراء التركي داود أوغلو أحد أسباب تواجد القوات التركية في بعشيقة في أطراف الموصل بأنها لحماية الأمن القومي التركي، وهذا يجعلنا كمراقبين لا نستبعد أي تحرك عسكري مرتقب قريب تحدد توقيته طبيعة الأحداث القادمة وتسارعها، فتركيا تدرك جيداً أنها قوة إقليمية، لها وزنها في الشرق الأوسط، وتريد أن تلعب دورًا يليق بها في ظروف إقليمية دولية غامضة، خصوصا أن مشاركة تركيا في تطويق أزمات إقليمية حاليًا يساهم في إيجاد توازن جديد، يحد من النفوذ الإيراني في المنطقة.

يبقى القول إنه بمقدار ما تشتد الفوضى في المنطقة المحيطة بتركيا، وتغدو تركيا أقوى، يشتد الضغط الجيو سياسي على تركيا لكي تملأ الفراغ.

عن الكاتب

د. باسل الحاج جاسم

كاتب وباحث في الشؤون التركية الروسية، ومستشار سياسي، ومؤلف كتاب: كازاخستان والآستانة السورية "طموحات نمر آسيوي جديد وامتحان موسكو"


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس