د. سمير صالحة - خاص ترك برس

منذ شهر يوليو (تموز) المنصرم وحتى اليوم ثبت ان التفاهم النووي منح ايران فرصة إقليمية جديدة للانتشار والتوسع والهيمنة أقلقت الكثيرين خصوصا بعدما بدات طهران المساومة نيابة عن العواصم الغربية في ملفات سياسية وأمنية حساسة واخذت وسائل اعلامها تردد ان الحروب بالوكالة التي كانت تدور في المنطقة حتى الان تحولت الى حرب مباشرة باشرافها هي و بتفويض غربي منح لها بعد المصالحة الايرانية الاميركية .

الرسالة الايرانية كما تلقتها تركيا في مسالة الاعتداء على البعثات الدبلوماسية السعودية كانت واضحة ، كل البعثات والشخصيات الدبلوماسية عرضة للهجوم اذا ما اصدرت الإرادة الدينية او السياسية الايرانية اوامرها او أغضبت مواقف حكومات دول المنطقة الشارع الايراني .

الموقف الحيادي الذي تبناه نعمان كورتولموش الناطق باسم الحكومة التركية حول الاعتدال والتهدئة بين ايران والسعودية صححه في اليوم التالي احمد داود اوغلو رئيس الوزراء بقوله ان الاعتداء على مباني البعثات الدبلوماسية عملا لا يمكن قبوله ، ثم جاء الرئيس التركي ليحسم الموقف التركي الرسمي على الشكل التالي "أن من التزموا الصمت إزاء قتلى سوريا يحدثون جلبة الآن لإعدام سجين واحد في السعودية". وان الإعدامات التي تمت في السعودية هي مسالة داخلية بحتة.

اردوغان الذي يقول اننا نعرف ان ما يجري في العراق وسوريا ولبنان سببه الفتن الطائفية وان البعض يحاول ان يلعب الورقة المذهبية لصالح حساباته الاقليمية وانه لا يكفي الاعلان عن عدم تصويب حادثة الاعتداء على مقرات البعثات الدبلوماسية السعودية في ايران بل كان ينبغي اتخاذ التدابير الكفيلة بمنع وقوع هذه الاعتداءات ويتساءل عن اسباب تحريك العامل الشيعي في قرارات الاعدام مع ان الغالبية العظمى من المحكومين هم من السنة حدد موقف انقرة النهائي لصالح السعودية دون لف ودوران .

الاتراك يريدون اليوم معرفة اذا ما كانت محاولات وضع تركيا على مسافة واحدة مع ايران تحت سقف جامعة الدول العربية وبعض المنظمات الفكرية والاقتصادية والمؤسسات البحثية في العالم العربي ستستمر ام لا ؟ ويريدون ايضا ان يعرفوا اذا ما كانت السعودية وقطر ستقبلان باستمرار هذا التوجه لدى البعض وتبنيه كما حدث في مؤتمر الجامعة العربية الاستثنائي الذي عقد بطلب من العراق للتنديد بما وصف في بيان القمة  بانتهاك تركيا لسيادة العراق ؟ وكذلك كيف ستقبل هذه العواصم العربية التي تنسق مع تركيا استراتيجيا اليوم مطلب وضع ايران وتركيا في سلة واحدة لناحية مسالة العلاقات العربية مع الدولتين وخصوصا بعدما عرضت بغداد والقاهرة وساطتهما بين طهران والرياض فيما يتوحد العالم العربي وراء السعودية في دفاعها عن قراراتها ومواقفها التي  يساندها العالم العربي فيها ؟  وهل سنشاهد في المرحلة المقبلة وعلى ضوء تطور الازمة السعودية الايرانية من يغرد خارج السرب السعودي عربيا كما حدث في مسالة اسقاط المقاتلة الروسية من قبل تركيا الذي نددت به وانتقدته بعض العواصم العربية ؟

كسب الود الايراني من قبل تركيا نجح في اطار حاجة تركيا الى الغاز الايراني وتسهيل فك الحصار الدولي على طهران في در المليارات على انقرة تجاريا وكان بديله تحرك تركيا للعب دور الوسيط بين طهران والغرب في الملف النووي مع انها نادمة اليوم على ما قدمته لإيران من خدمات جيرتها الاخيرة الى نفوذ ضدها في سوريا والعراق والتحالف مع روسيا .

أنقرة التي تشعر اليوم ان حلفائها في الغرب تركوها وحيدة في مسالة المنطقة الامنة وتخلو عنها بترجيح كفة حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي في سوريا عبر تسليحه والتغاضي عن وصول هذا السلاح مباشرة الى حزب العمال الكردستاني في تركيا وتجاهل التصعيد العراقي ضدها في قضية تواجد المدربين العسكريين الاتراك في شمال العراق بتوصيات ايرانية والتردد الغربي في مواجهة عمليات تضييق الخناق الروسي بعد حادثة اسقاط المقاتلة فوق الحدود التركية السورية تقف علنا الى جانب السعودية في ازمتها الحالية مع ايران .

دفاع تركيا عن شعار منع الاحتراب المذهبي المرفوع في خطوة تاسيس الحلف الاستراتيجي مع الرياض والتحاق انقرة بالتحالف الاسلامي المعلن في منتصف الشهر المنصرم في العاصمة السعودية يعكس حقيقة انه لا يمكن لانقرة

أن تكون وسيطا او عاملا مسهلا في حل الازمة السعودية الايرانية كما فعلت قبل سنوات عندما دخلت على خط النزاع السوري الاسرائيلي والأفغاني الباكستاني والايراني الغربي بعدما اتهمها الاعلام الايراني او المقرب منه بالتنسيق المباشر مع الرياض في مسالة تحريك وتسريع قرارات الاعدام خلال زيارة الرئيس التركي الاخيرة للملكة العربية السعودية .

 المشهد وكما يبدو من العاصمة التركية انقرة هو ان ايران سعت لتقليد روسيا التي حصلت على فرصة التصعيد ضد تركيا ومحاولة محاصرتها وعزلها في الملف السوري بعد اسقاط مقاتلتها في مناطق الحدود التركية السورية من خلال لعب ورقة شنق رجل الدين الشيعي نمر باقر النمر لتاليب شيعة المنطقة ضد الرياض فوقعت في حفرة اشعال الفتن المذهبية والخروج عن مبادىء القانون الدولي والاعراف الدبلوماسية وردود الفعل العالمية والعربية والاسلامية التي وقفت الى جانب المملكة العربية السعودية وحقها في اتخاذ التدابير القانونية والامنية لحماية الدولة واتهام القيادة الايرانية بتحمل مسؤولية اضرام النار في بعثاتها الدبلوماسية وتحريض الشارع ضدها .   ما تقوله قيادات العدالة والتنمية هو ان طهران تتحمل المسؤولية المباشرة عن ردرد الفعل المتواصلة ضدها عربيا واسلاميا كونها هي من صبت الزيت فوق نار التوتر السعودي الايراني ومحاولة لعب ورقة النمر الذي يكاد يحولها الى نمر من ورق في نظر الكثيرين بعد استقوائها بالانجاز الاستراتيجي الذي حصلت عليه في اواخر الصيف المنصرم والمتمثل بالاتفاق النووي الذي أرادته جرعة أخرى قوية في مشروع الهلال الشيعي،والتمدد الايراني في الخليج والشرق الاوسط .

رسائل التهديد والوعيد التي لوحت بها القيادات الدينية والسياسية الايرانية في رثاء النمر "سيحل الانتقام الالهي على القيادات السعودية  بلا أدني شك" كانت الفرصة التي يبحث عنها العالم العربي والكثير من الدول الاسلامية بينها تركيا لتسارع في اخذ مكانها الى جانب الرياض حليفها الاستراتيجي الجديد وشريكها في التحالف الاسلامي المعلن دون اي تردد او تريث وترقب لما قد تؤول إليه الأمور في المستقبل القريب .

انقرة على قناعة ان الجانب غير المعلن في المواجهة السعودية الايرانية يتجاوز كليا مسالة ان تكون مجرد ازمة سياسية بين الدولتين . القضية أبعد وأعمق من ذلك  وهي مرتبطة مباشرة بغطاء المشروع المذهبي في العلن  بينما هي في الخفاء تمدد النفوذ العرقي الفارسي الذي سيتحول الى مواجهة مباشرة تستعرض فيها طهران عضلاتها العسكرية وتستقوي بحليفها الجديد روسيا .

أقلام تركية كثيرة مقربة من الحكم والمعارضة تستنكر اليوم رد الفعل الإيراني على إعدام النمر وتقول إن النظام الإيراني الذي قام بإعدام عشرات من العلماء والدعاة آخر من يحق له الحديث عن إدانة تنفيذ أحكام الإعدام السياسية، ولكنها ترى أيضا أن تركيا يجب أن تنأى بنفسها عن هذه الأزمة ولا تصطف مع أي طرف. وسبب هذه المواقف قد يكون حسابات بعض الدول العربية في ابقاء تركيا خارج اي تحالف استراتيجي مع السعودية ومحاولة الربط بين الاستفزازات الايرانية وما وصفوه بالتهديد التركي للسيادة العراقية والسورية وهذا هو السؤال الذي تنتظر تركيا ردا سعوديا عليه لانه لا يمكن ان تكون هناك شراكة استراتيجية بين البلدين وان يكون البعض في العالم العربي والخليجي ينحت في المدماك الجديد باسم الدفاع والزود عن راية الوحدة العربية .

مسالة اخرى لا يمكن تجاهلها وهي ان معظم الاتراك يرون ان الخاسر الأكبر والرئيسي في قطع الرياض لعلاقاتها مع طهران هي روسيا حيث تتعدى حدود خسارتها لنفوذها في المنطقة أكثر من إيران نفسها وهي خدمة قد تكون الرياض قدمتها لتركيا عن قصد او دون قصد ، لكنه في النهاية الحافز الاهم الذي يدفع تركيا للالتزام بالوقوف الى جانب السعودية بعيدا عن الحيادية او فكرة التوسط بين الطرفين .

التقارب الروسي الايراني هو الذي دفع انقرة للبحث عن اصدقاء استراتيجيين مثل السعودية وقطر ونقاش فرص اعادة العلاقات مع اسرائيل ، وعدم التعليق على خبر لقاء اردوغان بوزير خارجية مصر على هامش زيارته للرياض . العلاقات بين إيران وتركيا، ودعم تركيا الواضح لمشروع الطاقة النووية السلمية في إيران، تعرضت لهزة قوية مع بدء الحرب الأهلية في سوريا، كما ان تمسك إيران الثابت والمستمر بنظام الأسد، سيجعل الأمور اكثرسهولة على الاتراك هذا اذا لم نتوقف مطولا عند مسالة التحالفات التركية السعودية الاستراتيجية واستعداد المملكة لصفقة السلاح مع انقرة بقيمة 10 مليارات دولار على الاقل .

دعوة البعض تركيا للتعامل بواقعية وحيادية مع الأزمة السعودية الايرانية وعدم التصعيد مع ايران لان ردة فعل الاخيرة سترتفع  وتتزايد في الفترة المقبلة، وسينتقل التحرك الشيعي في إيران والعراق ولبنان واليمن إلى مرحلة جديدة مما يترك الرياض وحلفائها في الخليج امام مازق صعب خصوصا اذا ما قررت واشنطن الوقوف على الحياد كما تفعل اليوم مع انقرة وهذا ما يعني تعزيز النفوذ الروسي الاقليمي اكثر فاكثر قد تكون نصيحة في مكانها ، لكن ما يقابلها في الجانب الاخر من المعادلة هو اخطر من ذلك بكثير عندما تصل ايران الى ما تريد في المنطقة وتتخلى تركيا عن موقفها وموقعها في العالم الاسلامي وتكتفي بالتفرج على مشاريع التفتيت والتقسيم وضرب الشعوب الاسلامية وهي مسالة وبالها اصعب واشد من السيناريوهات الاخرى بكثير .

عن الكاتب

د. سمير صالحة

البرفسور الدكتور سمير صالحة هو أكاديمي تركي والعميد المؤسس لكلية القانون في جامعة غازي عنتاب وأستاذ مادتي القانون الدولي العام والعلاقات الدولية في جامعة كوجالي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس