محمود عثمان - خاص ترك برس

في مقابلته مع صحيفة "Handelsblatt"  الألمانية قال رئيس الوزراء الروسي ديمتري مدفيديف: "يجب إجبار جميع الأطراف على الجلوس إلى طاولة المفاوضات بدلا من نشوب حرب عالمية جديدة". وأضاف بأن الوجود العسكري الروسي في سورية إنما هو دفاع عن مصالحها الوطنية، وقال إنه يشعر بالأسف من توقف الحوار متعدد المجالات بين موسكو والغرب، مشيرا إلى أن العالم أصبح "أسوأ وأكثر خطرا"!.

تصريحات مدفيديف هذه تعكس أولًا مدى تخوف الروس من طول أمد الأزمة السورية، لأن ذلك يعني بالنسبة لهم  أن سورية مرشحة لأن تكون مستنقعا يترحمون فيه على أيامهم الجميلة في أفغانستان.

يحاول الروس استغلال حاجة الإدارة الأمريكية إلى عدم التصعيد معهم قبيل الانتخابات الأمريكية، وخصوصا في الملف السوري، لذلك يقومون بالضغط على الأمريكان من أجل الوصول إلى تفاهم استراتيجي جيوسياسي على نطاق إقليمي ودولي أوسع من سورية. طاولة المفاوضات التي قصدها مدفيديف لا تعني التفاهم حول مصير سورية، فهذا جزء يسير، بل الاتفاق على مجمل الأمور جيوسياسيًا ليس في سورية ومنطقة الشرق الأوسط فحسب بل تشمل جميع الأمور المتنازع عليها.

الأمريكان يدركون جيدًا أن بوتين قد تورط في سورية كما تورط في أوكرانيا من قبل، وأن عامل الزمن لا يسير في صالحه، وأن النجاحات الميدانية التي حققها بعد تنفيذه - كعادته - سياسة الأرض المحروقة قد بلغت الحد الذي ستتوقف عنده ولن تتقدم إلى ما سواه، ثم لتبدأ بعدها حالة المراوحة في المكان، التي تعني حتما عملية استنزاف للروس في سورية، حيث تشير بعض التقارير الاقتصادية إلى أن كلفة التدخل الروسي في سورية كلف الميزانية الروسية حتى الآن 1.6  مليار دولار، وهذا الرقم مرشح للزيادة أضعافا مضاعفة إذا استمرت الأمور على ما هي عليه. وهذا ثمن باهظ جدًا خصوصا وأنه يصادف وقتًا هبطت فيه أسعار النفط إلى حدودها الدنيا. لكن الروس مضطرون للاستمرار في لعبة عض الأصابع التي تعني مزيدًا من الاستنزاف أيضًا.

خيارات الروس في سورية

لا تبدو الخيارات أمام الروس في سورية كثيرة، خصوصا مع حالة اللامبالاة الأمريكية، وثبات تركيا وصمودها وعدم وقوعها في فخ الاسفزازات الروسية المستمرة، مما يحد من قدرة الروس على المناورة والحركة، حيث تنحصر خياراتهم في:

1- التدخل البري وحسم المعركة ميدانيًا: هذا ممكن وربما يكون الأسهل مع حالة الإنهاك التي يعاني منها جميع الأطراف المتحاربة. في هذه الحالة سيتحول الجيش السوري الحر وفصائل المقاومة من جيش شبه نظامي باهظ الكلفة المادية، مرتبط سريريًا بالجهات الداعمة، إلى حرب العصابات المرنة التي تؤذي العدو وتستنزف قواه وتنهكه دون تحمل عبء المحافظة على المناطق المحررة. هذا السيناريو وإن كان يرعب الروس لكنهم قد يضطرون إليه إذ استمر بوتين في سياساته العنيدة. وفي هذه الحالة سوف يصطدم الروس حتمًا بحلفائهم الإيرانيين، وهم قد اصطدموا بهم حاليا لكن بوتيرة لم تفسد ودهم إلى الآن.

2- الاستمرار بالقصف الجوي والتدخل البري المحدود: كما عليه الحال الآن، وهذا يعني حالة استنزاف للروس لكن دون حسم، ودون نصر واضح، وهذا ما يحرج الروس ويجعلهم أكثر شراسة ودموية. لذلك يقومون باستهداف المدنيين تحديدًا من أجل الضغط على الأطراف الأخرى للاستسلام والانصياع لشروطهم وبأسرع وقت.

3- التصعيد عسكريا وإشعال مناطق أخرى تمهيدا لحرب إقليمية أو عالمية:

يقول مدفيديف في نفس المقابلة مع الصحيفة الألمانية: "على الأمريكيين وشركائنا العرب أن يفكروا في مسألة حدوث حرب مستمرة؟.. هل هم يعتقدون بالفعل أنهم سيفوزون بحرب من هذا النوع بسرعة كبيرة؟".

واضح أن هذا السيناريو غير مستبعد كليًا في أذهان الروس على الأقل، خاصة إذا علمنا أن خسارة روسيا بسبب احتلالها لشبه جزيرة القرم، وما أعقبها ونتج عنها من عقوبات أمريكية وأوروبية قد كلفتها ما يزيد على 400 مليار دولار، إضافة إلى الحفاظ على سعر منخفض للبترول بشكل متعمد مدروس.

روسيا التي كان ترتيبها حتى عام 2010 ضمن العشرة الكبار في الإقتصاد العالمي أصبحت الآن في المرتبة الثالث عشرة، وهي مرشحة للهبوط أكثر إذا استمرت أسعار النفط بمستواها الحالي. إذ ليس لدى الروس ما يبيعونه سوى البترول والغاز والسلاح. فإذا ما استمر الأمريكان في حالة الحصار الاقتصادي الناعم التي يفرضونها على حلفائهم وخصومهم على حد سواء فإن الأمور مرشحة للانفجار.

يسعى الأمريكان إلى تثبيت نظرية أن لا قوة عظمى سوى الإمبراطورية الأمريكية , ويفرضون حصارًا ناعمًا على حلفائهم وخصومهم على حد سواء، مقابل ذلك يحاول الروس بقيادة بوتين استعادة أمجاد الماضي، وتحقيق التوازن الاستراتيجي مع الأمريكان، وبين هذا وذاك تدفع الشعوب الضعيفة كالشعب السوري الثمن باهظًا، حروبًا ودمارًا وخرابًا وتشريدًا، ودماء غالية ودموعًا.

عن الكاتب

محمود عثمان

كاتب سياسي مختص بالشأن التركي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس